في أمر محتمل وما أظنه أراد فيه إلا الصواب وقد ذكرته في العواصم ونفسه في هذا المقام نفس طيب قرآني أثري فأين هو من قول بعض المتأخرين عنه من المتكلمين من أصحابه وممن كان يظن انه أقرب إلى السنة منه حيث قال في بعض كتبه ما لفظه
فان قال بعض الأشقياء انما فعل ذلك ليثيبهم عليه يعني الآلام والمصائب التي تصيب الصبيان ومن لا ذنب له
قلنا له قد ضللت عن سواء السبيل أما كان في قدرة رب العالمين ان يحسن اليهم عوضا عن تعذيبهم أه فانظر إلى ما في هذا الكلام من البعد عن القرآن والسنة والآثار فأول ما بدأ به أنه سمي القائل بذلك بعض الأشقياء وهو رسول الله تواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة التي لا يجهل مثلها مميز والتي اتفق أهل البصر بهذا الشأن على صحة طرقها وتواترها ودونوها في الصحاح والمسانيد وكتب الزهد والرقائق وليس هي من الآحاد بل هي باب كبير من أبواب الدين الذي لم تزل الصحابة فمن بعدهم من طبقات المسلمين يروونها قرنا بعد قرن يروى ذلك السلف للخلف والاكابر للاصاغر ويعزى به العلماء أهل المصائب حتى قال العلامة أبو عمر ابن عبد البر في هذا الباب في كتابه التمهيد ان ذلك أمر مجمع عليه وهي دالة على حسن التعليل بذلك وان لم يرد في المحل الذي ذكره على انفراده أعني الصبيان والبهائم فان الخصم انما أنكر حسن التعليل بذلك ومتى صح التعليل به في موضع صح في غيره وبطل قطعه ببطلانه فتأمل ذلك فان العلل العقلية لا تخصص ولا توجد غير مؤثرة مع ان كثيرا من الأحاديث تعم الصغار والكبار والمكلفين وغيرهم ولنذكر من ذلك اليسير تنبيها على الكثير ليعرف الحامل على هذا النكير
فمن ذلك ما خرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأحمد في المسند وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله (1/208)
لا تصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وخط عنه بها خطيئة هذا لفظ مسلم وفيه روايات كثيرة وروى البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود قلت يا رسول الله انك توعك وعكا شديدا قال أجل اني أوعك كما يوعك رجلان منكم قلت ذلك بان لك أجرين قال أجل ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه الا حط الله سيئاته كما تحط الشجرة ورقها ولمسلم نحو من ذلك من حديث جابر وللبخاري ومسلم هذا المعنى من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ولمالك عن يحيى بن سعيد وروى الترمذي عن أنس حديثين ومتن أحدهما عن انس ان رسول الله قال ان عظم الجزاء مع عظم البلاء وان الله اذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط والآخر للترمذي عن جابر ولفظه يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البلاء ثوابهم لو ان جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض وروى مالك والترمذي عن أبي هريرة وأبو داود عن محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جده وله صحبة والترمذي عن مصعب بن سعيد ولفظه أشد الناس بلاء الانبياء ثم الامثل فالامثل ومالك والبخاري عن أبي هريرة ولفظه من يرد الله به خيرا يصب منه والبخاري عن أبي هريرة ولفظه ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه الا الجنة
ولهذا المعنى ثلاثة شواهد في تفسير قوله تعالى من يعمل سوءا يجز به عن أبي بكر وعائشة وأبي هريرة وان كانت هذه تختص بالمذنبين وهذا في جنس الآلام كلها وفي أنواعها الخاصة أحاديث كثيرة مثل ما جاء فيمن مات له ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث أو اثنان لم تمسه النار الا تحلة القسم رواه البخاري ومسلم من حديث أبى سعيدو أبي هريرة معا والترمذي عن ابن مسعود والبخاري والنسائي عن انس والنسائي عن أبي ذر ومالك عن النضر السلمي والنسائي عن معاوية بن قرة والترمذي عن ابن عباس
فهذه نيف وعشرون حديثا من دواوين الاسلام المشهورة وفي فضل الفقر وأجره خمسة وعشرون حديثا تركتها اختصارا وفي سياق الجميع ما (1/209)
يشهد بان ذلك تعليل مناسب للعقول ولذلك قبله أصحاب رسول الله ولم ينكروه وهم أوفر عقولا وأصح اذهانا وأسلم من تغير الفطرة التي فطر الله خلقه عليها وعند الخصم ان ذلك التعليل غير مناسب وأنه ونقيضه سواء مثل أن يؤلمهم الله في الدنيا ليعاقبهم على آلامهم في الآخرة فان اعترف بالفرق لزمه مناسبة الأول الذي جاءت به السنة وتلقته الصحابة بالقبول وان ادعى انهما سواء فقد عاند وجنى على المسموع والمعقول فكيف يترك النظر في ذلك كله عالم من علماء الاسلام ويعارضه بقوله أما كان في قدرة رب العالمين ان يحسن اليهم عوضا عن تعذيبهم
وجواب أهل الحق على من ابتلى بهذه الوساوس هو قوله تعالى فلا تضربوا الله الامثال ان الله يعلم وأنتم لا تعلمون وذلك أن الأنظار العقلية انما تورد على العلل العقلية وأما العلل السمعية فانها صدرت عمن يعلم ما لا نعلم وليت شعري اذا أنكر الخصوم هذا المعنى ما يكون تفسير العلم الذي خص الله تعالى به الخضر دون موسى عليهما السلام وقد أوضح الله تعالى أنه علم الحكمة الخفية في مثل ذلك
وقد أجاب بعض المتكلمين بجواب مناسب فقال ان الثواب على هذه الاشياء جزء من الحكمة المسماة بالعلة في عرف المتكلمين وليس هو كلها والجزء الثاني هو الاعتبار بذلك وهذا معنى مناسب وقد ورد ما يدل عليه من الحديث وذلك ما رواه الحافظ ابن كثير من طرق في خلق آدم من أول الجزء الأول من البداية والنهاية ان الله لما أخرج ذرية آدم ورآهم آدم رأى فيهم الغنى والفقير والصحيح والسقيم فقال يا رب هلا سويت بين ذريتي فقال تعالى اني أردت أن تشكر نعمتي الى غير ذلك وكفى بقوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وفي آية أخرى فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وهي شاهدة لقول أهل المعقولات انه لا يكون في مخلوقات الله تعالى ما هو شر محض من جميع (1/210)
الوجوه لان ما كان كذلك لم يمكن تجويز أنه خير ولا أن فيه خيرا فافهم ذلك
وفي الآلام ما لا يحصى من الالطاف بالمكلفين والتزهيد في دار الغرور ونعيمها الزائل والترغيب في خير الآخرة المحض الخالص من المكدرات وتهذيب الاخلاق ورحمة أهل البلاء والتدريب على الصبر الذي هو أساس الفضائل ومعرفة قدر النعم بالذوق وتخديد الشكر عليه وحسبك في ذلك قول الله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين وفي ذلك من معرفة الانسان بعجزه وذله وجمع القلب على الله واقباله على الدعاء واللجأ والتضرع ومعرفته باجابة الدعاء وكشف الضر وزيادة اليقين به إلى أمثال ذلك من الغايات المحمودة والمصالح المقصودة ما عرفته العقول الصحيحة وقضت به التجارب الدائمة حتى ذكر صاحب عوارف المعارف ما معناه ان العبد مخلوق ليكون ملتجئا إلى الله سبحانه على الدوام فما دام كذلك فهو في عافية ومتى غفل عن ذلك ساقه الله إلى ذلك ببعض المصائب وذكر في موضع آخر أن سبب فضيلة الفقراء أنهم يذوقون الافتقار إلى الله تعالى بقلوبهم وان تلك من أقرب المنازل إلى الله تعالى
وروى ابن قيم الجوزية في حادي الأرواح ان نبيا من الأنبياء عليهم السلام رأى مبتلى فقال اللهم ارحمه فقال الله تعالى كيف أرحمه مما به أرحمه هم عبادي ان أحسنوا فأنا حبيبهم وان أساؤا فأنا طبيبهم ابتليتهم بالمصائب لاطهرهم من المعائب
ومن ذلك الابتلاء بالايمان وبالثبات عليه عند رؤية ذلك فان ذلك يمير الله به الخبيث من الطيب كما نص عليه في ابتلاء المسلمين بتحويلهم من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة ونجم عن ذلك نفاق بعض المنافقين ونزل قوله تعالى سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها الآيات وكم عسى أن يكتب الكاتب ويحسب الحاسب من حكم الله سبحانه وفوائده وفوائد أفعاله الحكيمة وتقديراته اللطيفة فهذا يخرج عن المقصود ويمنع مما قصدته من الاختصار على ان المعترض (1/211)
لمناسبة هذه العلة الشرعية والاحاديث النبوية أتى بما يضحك السامعين ويخالف الاذكياء والبلداء من العقلاء أجمعين فزعم ان الله عذب من لا ذنب له من الصغار والبهائم بغير علة ولا سبب ولا حكمة ولا داع فيا هذا المغفل اذا لم يحز على الله الاحسان العظيم الدائم على سبب وحكمة لم تعقلهما كيف أجزت عليه التعذيب العظيم بغير سبب وحكمة واذا أوجبت تنزيه الله تعالى من الاحسان العظيم الدائم على سبب وحكمة كيف قبحت على غيرك تنزيهه من التعذيب العظيم الدائم بغير سبب وحكمة واذا اعترفت ان من اعترض على الله تعالى في العذاب بغير ذنب فقد زاد شقاؤه وعظم بلاؤه فمن أباح لك اعتراضه في أسباب احسانه حين لم توافق فهمك الذي اختار نفي الحكمة عن جميع الأفعال الربانية وجعل كمال الحكمة نقصا وعكسها عكسا فجعل زينها شيئا وحمدها ذما فكيف اتسع عقله لتجويز تعذيب من لا ذنب له في طبقات النيران إلى ما لا نهاية له من الملك الغني الحميد المجيد الحكيم الرحمن الرحيم الحليم ثم ما اتسع عقله أن يعلم ان الله تعالى في ترتيب الثواب على المصائب وجه حكمة لم يعلمها هو ومنتهى ما في الأمر أن ترتيب ذلك الثواب على تلك المصائب قبيح في منتهى معارف العقول أو عبث لا في علم الله تعالى فهلا آمنت به مع صحته في المعقول والمنقول مثل ما آمنت بتعذيب ذنب من لا ذنب له مع قبحه في المعقول وعدم صحته في المنقول
واعلم ان من عادة بعض المخالفين في هذه المسألة أن يوردوا صورا تحسن من الله تعالى وتقبح من عباده ويوهمون بذلك ان هذا محل النزاع وليس كذلك وكفى حجة على من نازع في هذا قصة الخضر وموسى عليهما السلام ولهذا تجد كثيرا من أهل السنة يظنون ان هذا القدر هو محل النزاع فيرجحون قول من ينفي التحسين العقلي وليس محل النزاع الا في نفي الحكمة عن علم الله تعالى لا عن معارف عقول العقلاء
ومن الخطأ البين ما يفعله كثير من المخالفين من تقدير صور في غاية القبح في الشاهد ثم تقدير أن الله يفعلها فيجب تحسينها منه لو فعلها وموضع القبح بين في وجهين أحدهما في ضرب الأمثال لله والله تعالى يقول (1/212)