فما أصبت فيه فمن الله سبحانه وله فيه المنة والحمد والشكر والثناء وما أخطأت فيه فالذنب مني وعلي فيه البراءة منه والتوبة والاستغفار والتحذير وأشد الكراهة لا فرق بين كراهة ما صدر مني من البدع وما صدر من غيري بل يجب أن أكون أشد كراهية لما صدر مني لأن الصادر مني ذنبي يضرني وأآخذ بسببه والله تعالى يسلمني من البدع والذنوب ويغفر لي ما أخطأت فيه إنه واسع المغفرة والرحمة وهو حسبي ونعم الوكيل لكن المحامي عن السنة الذاب عن حماها كالمجاهد في سبيل الله تعالى يعد للجهاد ما استطاع من الآلات والعدة والقوة كما قال الله سبحانه وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة
وقد ثبت في الصحيح أن جبريل عليه السلام كان مع حسان بن ثابت يؤيده ما نافح عن رسول الله في أشعاره فكذلك من ذب عن دينه وسنته من بعده إيمانا به وحبا ونصحا له ورجاء أن يكون من الخلف الصالح الذين قال فيهم رسول الله يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين والجهاد باللسان أحد أنواع الجهاد وسبله في الحديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وقد أحسن من قال في هذا المعنى شعرا
جاهدت فيك بقولي يوم يختصم الأبطال ... أذفات سيفي يوم يمتصع
إن اللسان لوصال إلى طرق ... في الحق لا تهتديها الذبل السرع
وقد ذكر الغزالي في المنقذ من الضلال أن الطالبين لليقين ثلاث طوائف منهم أهل الرياضة للقلوب بتصفيتها بالاقبال على الله تعالى وترك ما عداه والتخلق بالأخلاق المجمع على حسنها من الزهد والصبر والتوكل والرضا والعفو ووضع النفس قلت إلى سائر ما ذكروه من أخلاقهم وأحوالهم ومقاماتهم في عوارف المعارف وغيره وهذا لا يمكن اكتسابه بالتصنيف إنما هو بالعمل فمن عمل على موافقة السنة واجتناب البدعة (1/24)
كان هذا المختصر وأمثاله من بداياته التي تعينه على مقصده وتوصله إلى مراده لأنهم أجمعوا على أن الشريعة لمعارفهم كاللبن للزبد ومن لا لبن له لا زبد له وهذه المقدمة للشريعة وتصفية القلوب المشبهين باللبن والزبد بمنزلة الروح الذي لولاها لما كان الحيوان ولا الزبد ولا اللبن ولكنها حاصلة في الابتداء بالفطرة من الله سبحانه وله الحمد فمن كملت فيه وسلمت من التغيير لم يحتج إلى شيء من هذا وان نظر فيه قوي ما هو عليه من الفطرة بمنزلة السقي لما يشرب بعروقه من البحر فانه لا يحتاج السقي فان سقي زاده قوة وريا والطائفة الثانية ممن ذكر الغزالي أهل التعليم من الامامية وغيرهم فانهم زعموا أن العقول لا تفي بالمعرفة من غير تعليم الامام المعصوم ولذلك تجد طالبي المعارف النظرية العقلية يتعلمون ذلك من شيوخهم ولا يمكن بالتجارب أن يستقل أحدهم بنظره وعقله من غير شيخ ثم يأتي بتلك القوانين المتقنة مجودة سالمة من المطاعن وعندهم أن هذا من التجريبات الضروريات وقد جود الغزالي الرد عليهم في المنقذ من الضلال وكفى وشفى ثم قال وعلى تسليم ما ذكروه فنحن نلتزمه ولا يضرنا لكن امامنا المعصوم هو رسول الله وموته لا يضرنا كما أن غيبة امامهم لا تضر عندهم بل حالنا أولى فان امامنا المعصوم مات بعد كمال التعليم وامامهم غاب عنهم قبل ذلك وفي هذا المختصر من التعليم النبوي الصحيح المتواتر والصحيح المشهور ما لا يوجد في أمثاله والطائفة الثالثة أهل النظر وقد جمعت في هذا المختصر صفوة أنظارهم وخلاصة أدلتهم ونقاوتها وقصدت تقويتها ورسوخ اليقين فيها بجمع شواهدها وبراهينها الجلية القريبة الغاسلة لأدران الشكوك والريبة النازلة من أهل الايمان بمنزلة الماء القراح من العطشان المشهورة بين أهل البيت الطيبين والصحابة والتابعين وسائر السلف الصالحين التي لا يجر الخوض فيها إلى شيء من البدعة ولا المخاطرة في الدين ولا يمكن أن يكون فيها شيء غيره أحوط منه في علمي والله المستعان والمستغاث والهادي سبحانه لا إله إلا هو وهو حسبي ونعم الوكيل
واعلم أني بنيت هذا المختصر على بيان الحق وتقريره في هذه الأمور السبعة لا سواها وما زاد على ذلك من مواهب الله وعوارفه ومعارفه (1/25)
وبدائع لطائفه فليس بمقصود لي الكلام عليه ولا أعتب على من خالفني في شيء منه ولا يعاب التقصير فيه فان التطويل في الأمور العارضة يخرج عن المقصود كما ذلك معروف
وإنما قصرت الاهتمام على هذه الامور السبعة لأنها الفطرة التي فطر الله الناس عليها كما تطابق عليه القرآن والسنة وفي ذلك دلالة على أنها تكفي العامي كما ذهب إليه أهل المعارف ما لم تعرض له شبهة قادحة فيتمكن من حلها على طريق السلف القريبة الجلية كما نذكره في هذا المختصر مع الدعاء واللجأ إلى الله تعالى وما أقرب نفع هذا مع خلق الله القلوب على الفطرة وكثرة مواد هدايته كما ذكره في آية النور وقال الله تعالى إن علينا للهدى فأكد ذلك بمؤكدين اثنين كما تقول أن زيدا لقائم وقال وعلى الله قصد السبيل هذا للخلق عموما وللمؤمنين خصوصا ومن يؤمن بالله يهد قلبه إلى غير ذلك وإنما يؤتى أكثر الخلق من كفرهم بآيات الله البينة وبطلبهم غيرها كما قال تعالى سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فان الله شديد العقاب فليحذر ذلك كل الحذر من عدم القنوع بما قنع به السلف من حجج الله تعالى وياله من تخويف شديد ووعيد عظيم
ثم اعلم أن هذا المختصر لا يصلح إلا لمن وضع له كما أن الدواء الخاص بألم خاص لا يصلح لكل ألم ولا لكل أليم فمن كان يحتاج البسط إلا الحوافل الكبار من مصنفات المصنفين من أذكياء النظار وقد يكون في هذا المختصر الاشارة إلى تلك الكتب الحافلة والتنبيه عليها لمن يحتاج إلى ذلك والدال على الخير كفاعله ولكن لكل مقام مقال ولكل مجال رجال والكتب البسيطة في علم اللطيف لا تصلح لمن يخاف عليه من السبه كما أن السباحة في لجج البحار لا تصلح إلا لأهل الرياضة التامة في ذلك بعد طول (1/26)
التجارب وأرجو إن شاء الله تعالى أن لا يخلو هذا المختصر من أحد المعاني الثمانية التي تصنف لها العلماء بل من كل واحد منها وهي اختراع معدوم أو جمع مفترق أو تكميل ناقص أو تفصيل مجمل أو تهذيب مطول أو ترتيب مخلط أو تعيين مبهم أو تبيين خطأ كذا عدها أبو حيان وتمكن الزيادة فيها
وإنما جمعت هذا المختصر المبارك إن شاء الله تعالى لمن صنفت لهم التصانيف وعنيت بهدايتهم العلماء وهم من جمع خمسة أوصاف معظمها الاخلاص والفهم والانصاف ورابعها وهو أقلها وجودا في هذه الاعصار الحرص على معرفة الحق من أقوال المختلفين وشدة الداعي إلى ذلك الحامل على الصبر والطلب كثيرا وبذل الجهد في النظر على الانصاف ومفارقة العوائد وطلب الاوابد فان الحق في مثل هذه الاعصار قلما يعرفه إلا واحدا بعد واحد وإذا عظم المطلوب قل المساعد فان البدع قد كثرت وكثرت الدعاة اليها والتعويل عليها وطالب الحق اليوم شبيه بطلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما رحمهما الله تعالى فانهم قدوة الطالب للحق وفيهم له أعظم أسوة فانهم لما حرصوا على الحق وبذلوا الجهد في طلبه بلغهم الله إليه وأوقفهم عليه وفازوا من بين العوالم الجمة فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة وكم عمي عنه المطلوب له في زمن النبوة فاعتبر بذلك واقتد بأولئك فان الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما لا ينال مع الاضراب عن طلبه وعدم التشوف والتشوق إلى سببه ولا يهجم على المبطلين المعرضين ولا يفاجئ أشباه الانعام الغافلين ولو كان كذلك ما كان على وجه الأرض مبطل ولا جاهل ولا بطال ولا غافل وقد أخبر الله تعالى أن ذرء جهنم هم الغافلون فانا لله وإنا إليه راجعون ما أعظم المصاب بالغفلة والمغتر بطول المهلة
ومن أعجب العجائب دعوى المقلدين للمعارف ودعوى المتعصبين للانصاف وأمارة ذلك أنك تجد العوالم الكثيرة في لطائف المعارف المختلف فيها على رأي رجل واحد من القدماء في الامصار العديدة والاعصار المديدة (1/27)
فلو كانوا في ترك التقليد كالأوائل لاشتد اختلافهم في الدقائق ولم يتفقوا على كثرتهم وطول أزمانهم وتباعد بلدانهم واختلاف فطنهم كما قضت بذلك العوائد العقلية الدائمة ولو كان الجامع لفرقتهم مع كثرتهم هو الوقوف على الحقائق في تلك الدقائق لكانوا أكثر من مشايخهم الاقدمين علما وتحقيقا وانصافا وتجويدا لكن المعلوم خلاف ذلك فاياك أن تسلك هذه المسالك فان نشأة الانسان على ما عليه أهل شارعه وبلده وجيرانه وأترابه صنيع أسقط الناس همة وأدناهم مرتبة فلم يعجز عن ذلك صبيان النصارى واليهود ولا ربات القدود والنهود المستغرقات في تمهيد المهود وهذه هذه فأعطها حقها وانظر لنفسك وانج بها وطالع قصة سلمان الفارسي وأضرابه وانظر كيف كان صبرهم واعرف قدر ما أنت طالب فانك طالب لأعلى المراتب قال الله تعالى وما قدروا الله حق قدره وقال في الأخرى وسعى لها سعيها وقال خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه وليس في الوجود بأسره أعز ولا أفضل من الإيمان بالله وكتبه ورسله ومتابعتهم ومعرفة ما جاؤا به فلا تطلب ذلك أهون الطلب فإني أرى الأكثرين لا يرضون بالغبن والنقص في بيع بعض السلع وأرى طالب الأرباح الدنيوية يطلبها أشد الطلب من أبعد الأقطار بأشق الأسفار وأما طالب الكيمياء والسيمياء فإنه يبذل في طلبهما ما دون الروح بل يرتكب بعض الأخطار والمتالف الكبار مع أدنى تجويز للسلامة بل عدم التجويز أيضا عند ملكة هواه له وغلبة ظنه بأنه يدرك ما أراد ويبلغ ما قصده ويصل إلى ما إليه سعى ولكم من منفق غضارة عمره ونضارة شبابه وأبان أيامه في ذلك
وإنما طولت القول في هذا لأني علمت بالتجربة الضرورية في نفسي وغيري أن أكثر جهل الحقائق إنما سببه عدم الاهتمام بتعرفها على الإنصاف لا عدم الفهم فإن الله وله الحمد قد أكمل الحجة بالتمكين من الفهم وإنما أتى الأكثر من التقصير في الإهتمام ألا ترى أن المهتمين بمقاصد المنطقيين (1/28)