علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون وحكى سبحانه ما جرى بين داود وسليمان عليهما السلام من الاختلاف في حكم الغنم إذ نفشت في زرع قوم إلى قوله تعالى ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وحكى ما جرى بين موسى وهارون عليهما السلام حتى حكى قول هارون لموسى لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي و فلا تشمت بي الأعداء وثبت في الحديث اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في حكم الذي قتل مائة نفس ثم تاب وبعث الله ملكا يحكم بينهم فحكم لملائكة الرحمة وثبت أيضا محاجة آدم وموسى في الخروج من الجنة لا في المعصية كما يظنه كثير من الناس كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فصار مجموع ذلك دليلا قاطعا على أن العادة قد استمرت على وجوب الاختلاف في الاحكام عند التفاضل في العلم والحكمة وذلك يوجب استقباح الجاهل لبعض أفعال الأعلم على قدر ما بينهما من التفاوت فأولى وأحرى أن يوجب استقباح الجاهل لبعض أفعال الاعلم
ولما كان التفاوت بين علم المخلوقين وعلم خالقهم عز و جل لا يقدر بمقدار ولا يتوهم بقياس وجب أن يكون بينهم في التحسين والتقبيح لتفاصيل الاحكام أعظم الاختلاف وجوبا عاديا يستحيل خلافه حتى لو قدرنا ما لا يتقدر من موافقتهم لجميع أحكام الله تعالى على جهة التفصيل لكان هذا محارة عظمى لعقول جميع العقلاء والأذكياء بل محالا ممتنعا في معارف الفطناء والعلماء ولكان ذلك الاتفاق أعظم شبهة قادحة في زيادة علم الله عليهم ومن أدق المتشابه المحير لفطنائهم فلما جاء السمع بالمتشابه عليهم على القاعدة المألوفة والعادة المعروفة في أن الاعلم إذا تميز شيئا قليلا عن أجناسه وأشباهه لم يكن بد من أن يأتي بما لا يعرفون ويفعل ما لا يقولون ويستحسن بعض ما يستقبحون حتى قيلت في هذا الاشعار وضربت فيه الامثال وحتى قيل أن الاجتماع في الخفيات محال مثلما أن الاختلاف في الجليات محال وقد أجاد في هذا المعنى من قال (1/198)


تسل عن الوفاق فمر بنا قد ... حكى بين الملائكة الخصاما
كذا الخضر المكرم والوجيه المكلم ... إذ ألم به لماما
تكدر صفو جمعهما مرارا ... وعجل صاحب السر الصراما
ففارقه الكليم كليم قلب ... وقد ثنا على الخضر الملاما
فدل على اتساع الامر فيما الكرام فيه خالفت الكراما ...
وما سبب الخلاف سوى اختلاف العلوم هناك بعضا أو تماما ...
فكان من اللوازم أن يكون الاله ... مخالفا فيها الاناما
فلو لم نجهل الاسرار عنها ... بلغنا مثله فيها المراما
فصار تشابه الاحكام منه ... عليه شاهدا ولنا لزاما
فلا تجهل لها قدرا وخذها ... شكورا للذي يحيى العظاما
وحاذر أن تكون لها نسيا ... وتنظر في المواقف أو تراما
فلو لم ينسها موسى عليه السلام قضى من الخضر المراما ...
ولو لم تنسها الاملاك في آدم كانوا بها اعتصموا اعتصاما ...
وإن محارة قد حار فيها الملائك والكليم ولن يسامى ...
لقاطعة القلوب حرية أن ... يكون الابتداع بها حراما
ولا تعجب بفضل الله يوما ... فان العجب يورثك السقاما
وكن لنعال خلق الله تربا ... إذا ما شئت للنعمى دواما
الوجه الرابع
تدبر كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ألا ترى إلى قوله تعالى إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما فعقب ذكر هذا العذاب العظيم بذكر موجبه من عزته وحكمته التي هي تأويل المتشابه وكذلك قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من (1/199)


يشاء وهو العزيز الحكيم وكذلك قال عيسى عليه السلام وإن تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم ولا يخفى ما في تأويل الحكيم بالمحكم هنا من التعسف الباطل وما في التأويل من غير موجب من فتح أبواب البدع والمجاهل
وفي هذه الآيات وأمثالها نكتة لطيفة في جمعه بين العزة والحكمة وذلك أن اجتماعهما عزيز في المخلوقين فان أهل العزة من ملوك الدنيا يغلب عليهم العسف في الاحكام فبين مخالفته لهم في ذلك فان عظيم عزته لم يبطل لطيف حكمته ورحمته سبحان من له الكمال المطلق والمجد المحقق
وبعد فان اثبات حكمة الله تعالى معلوم في كتاب الله وسنة رسول الله بين لا يدفع مكشوف لا يتقنع مدحا وثناء كما اشتملت عليه النصوص القرآنية والاسماء الحسنى وأسئلة وجوابات كما تبين في قصة موسى والخضر وآدم وملائكة السموات ألا ترى أنك إذا تأملت سؤال الملائكة وما أجيب عليهم به عرفت فيه ما اتفق عليه العقلاء من تقبيح الشر المحض الذي لا خير فيه ولا في عواقبه وغاياته دون الشر المراد لاجل الخير وذلك بين في اظهار الله تعالى لهم صلاح آدم عليه السلام وعلمه وتقدمه في القرب من الله تعالى ألا تراه سبحانه وتعالى يقول لهم بعد بيان ذلك لهم ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فبين لهم أن خلقا فيهم مثل هذا العبد الصالح والنبي المكلم المقرب المستخلف المعلم لا يحكم عليه بأنه شر محض ولا حكمة فيه ولا خير يقصد به وإنه لا نكارة في شر يكون للخير كالصف للدر والترب للبر والفصاد للعافية والقصاص للحياة وأمثال ذلك مما هو صحيح شهير في حكمة الحكماء وعقول الفطناء
ولذلك قيل أن العالم كالشجرة وأهل الخير منهم كالثمرة من تلك الشجرة وهو أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون . أي ليعبدني العابدون منهم وقد جاء نحو (1/200)


ذلك في حديث الخليل عليه السلام حين جعل يدعو علي من رآه يعصي الله فوحي الله اليه يا إبراهيم دع عبادي فان قصر عبدى مني احدي ثلاث اما أن يتوب فأتوب عليه أو يستغفرني فأغفر له أو أخرج من صلبه من يعبدني رواه الهيثمي في مجمع الزوائد والطبراني
فثبت أن الانسان ما يؤتي في توهمه نفي حكمة الله إلا من جهة جهله لقدر علمه وقدر علم الله تعالي وإنما كره علم الكلام لما يؤدي اليه الخوض فيه من المحارات ومخالفة الضرورات أو المشهورات ألا تري أن المتكلمين لما توغلوا في هذه المباحث أدي ذلك طائفة منهم إلي القدح في الحكمة وطائفة إلي القدح في القدرة علي هداية العصاة وطائفة إلي القدح في دوام العذاب ورجحت كل طائفة تأويلها
أما غلاة الأشعرية الذين قدحوا في معني الحكمة فرجحوا ذلك لصعوبة النظر في حكمة الله تعالي في جميع الشرور الدنيوية والأخروية وعجز العقول عن درك ذلك وأما غلاة المعتزلة فرجحوا قدحهم في القدرة على اللطف أنه قد خاض في أمر معين يحتمل أنه محال ولا بد من اخراج المحال من المقدورات بالاجماع وإلا أدي إلي تجوير قلب القديم حادثا والحادث قديما وغير ذلك مما يستقبح ذكره وقد أشار الغزالي إلي مثل كلامهم في شرح الرحمن الرحيم من المقصد الأمني
وأما الأشعرية فقدحوا في الحكمة بأسرها فكان ما ذهبت اليه المعتزلة أهون من هذه الجهة
وأما ابن تيمية وأصحابه فرأوا أن القدح في الحكمة والقدرة يتطرق إلي النقص في كمال الربوبية وذلك يحتمل الكفر ويضارعه أو يقرب منه وأما دوام العذاب فالقدح فيه عندهم سهل بعد ورود الاستثناء في غير آية وحديث وأثر ومنتهاه تخصيص عموم بما يقتضي زيادة الرحمة والحكمة والعدل والثناء
ولي علي الجميع كلام طويل وقد أشرت إلي أقوالهم وشبههم في الإجادة بأقصر عبارة فقلت في ذلك شعرا (1/201)


تحير أرباب النهي ما المراد بالعصاة ... من الجن وأولاد آدم
أخيرا أراد الله بالخلق أولا ... أم الشر مقصود لا حكم حاكم
فان كان خيرا هل يجوز فواته ... علي مالك ما شاء بالغيب عالم
وإن كان شرا هل أريد لنفسه ... أم الخير مقصود به باللوازم
وهل سبق قصد الخير بالشر يقتضي ... تطابق ذاك القصد حكم الخواتم
ولما أتي ذكر الخلود بناره ... علي جوده في ذكره والجوازم
تعاظم شأن الخلد في النار كل من ... تفكر في أسماء رب العوالم
فلا هو مغلوب ولا هو جاهل ... ولا عابث قطعا ولا غير راحم
فعاد إلي التسليم كل محقق ... لما قاله في الذكر رب العوالم
سواء قضي بالخلد بالنار أو قضي ... بأن عذاب الأشقياء غير دائم
ولما أتي استثناؤه في كتابه ... من الخلد جهرا فل حد التعاظم
وعاد مجال القول في ذاك واسعا ... وقد كان ضاق الأمرضيق الخواتم
ورد شكوك الملحدين خواسئا ... ومد بحار العارفين الاكارم
فمن قائل بالخلد من أجل كثرة ... الوعيد به المنزلات القواصم
ومن قائل أن الخصوم مقدم ... وساعده أسماء أحكم حاكم
وثالثها المنصور يرجي لمسلم ... ومن عاند الاسلام ليس بسالم
ومن لائم من خاض في ذاك حائر ... ومن واقف في ذاك ليس بلائم
ومن خائض فيه يكفر خصمه ... علي مثل ما يأتي فاليس بسالم
ولا كفر في الأقوال بعد تعارض ... الصوادع في تنزيل أعلم عالم
ولكنه يخشي بتكفير غيره ... يبوء به أو باقتراف المآثم
فلولا أراد الله توسيع حكمه ... لما خصه في ذكره غير كاتم
وفي الجنة استثني وعقبة بما ... يدل علي خلد الجنان الدوائم
علي أن وصف الجود لله دائم ... ومستلزم قطعا دوام المكارم
وكيف يدوم الملك والجود والثنا ... وينقطع المعروف في قول عالم
وجاءت أحاديث الصحاح توافق ... العقول بثنيا الرب أرحم راحم (1/202)

39 / 83
ع
En
A+
A-