ومن ذلك قوله تعالى حاكيا عن الأشقياء لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقوله في غير آية وأنتم تعقلون وأنتم تعلمون فانها وأمثالها تدل على معرفتهم بعقولهم قبح ما هم عليه وبطلانه معا إذ لو عرفوا بطلانه بها دون قبحه لم تقم عليهم الحجة وإنما أرسلت الرسل لقطع عذرهم لكيلا يقولوا ما حكى الله تعالى عنهم وذلك لزيادة الاعذار لأنه لا أحد أحب اليه العذر من الله تعالى لا لأنه لا حجة عليهم قبل الرسل أصلا ولذلك صح عند أهل السنة أن تقوم حجة الله بالخلق الاول في عالم الذر على ما سيأتي بيانه وذلك قبل الرسل ولم يختلفوا في صحته وإنما اختلفوا في وقوعه
ومن ذلك سؤال الملائكة عن وجه الحكمة في خلق آدم وذريته ولولا اعتقادهم للقطع بالحكمة ما استغربوا ذلك ولا سألوا عنه ولذلك كان الجواب عليهم بقوله تعالى اني أعلم ما لا تعلمون ولم يقل اني يصدر مني ما يفعل المفسدون وأوضح من هذا كله ما جرى بين موسى والخضر عليهما السلام فانه مناد نداء صريحا على اشتمال أفعال الله تعالى على المصالح والغايات المحمودة ولولا اعتقادهما لذلك ما استنكر موسى ولا أجاب الخضر بوجوه الحكمة الراجعة إلى المصالح ولا قنع موسى بذلك الجواب والخصم يعتقد أن المفسدة البينة الفساد في البداية والنهاية الخالية عن الحكمة والمصلحة باطنا وظاهرا جائزة على ا تعالى بل مساوية للمصلحة البينة الصلاح باطنا وظاهرا بل لا يجوز أن يعلل شيء من أفعاله بحكمة بل يجب القطع بخلوهاعن ذلك بل يجب القطع بأن ذلك هو الأولى في ممادح الرب تعالى حتى صرخوا بتأويل اسمه الحكيم بمعنى المحكم لخلق المخلوقات لا سواه لا أن له في ذلك الأحكام حكمة ألبتة ولو كان كذلك لم يقع منه الاحكام لأنه لا يكون أولى به من عدمه وإن لم يكن أولى به فلا ولا أكثر وقوعا في مخلوقاته بل لو كان كذلك لارتفع التحسين والتقبيح في الشرع ولم يكن الامر بالشيء أولى من النهي عنه ولا العكس لأن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح ولا مرجح في ذلك كله إلا داعي الحكمة والعلم بفضل بعض الأمور على بعض (1/193)


ثم إنا قد علمنا أن الشيطان محكم لأسباب فساده ووسواسه أشد الاحكام مع أنه في غاية القبح لخلوه عن الحكمة وكذلك المشركون أحكموا حربهم وسبهم للأنبياء وقالوا في ذلك القصائد المحكمة وإنما قبح ذلك كله وسخف قائله لخروجه عن الحكمة فكيف يرد اسم الحكيم إلى مثل ذلك
وقد نقل تفسير الحكيم بالمحكم من لم يفهم هذه الغائلة من شراح الاسماء الحسنى حتى نقله البغوي في تفسيره ومصنف سلاح المؤمن وأما ابن الأثير في النهاية فنقل التفسيرين معا وأما الغزالي في المقصد الأسنى فانه اتقى فيه من المخالفين بغير شك لأنه صرح بمخالفتهم في شرح الرحمن الرحيم لكنه تلطف في إخفاء المخالفة على الأكثرين بكونه جعلها في الموضع الذي لم يشتهر فيه الخلاف بينهم وبين خصومهم وهو تعظيم رحمة الله تعالى وسعتها وقد أشار إلى مخالفة الأكثرين للحق في خطبة هذا الكتاب بل صرح بذلك وأيضا فيلزم أن لا يكون الجود ونحوه أولى بالله من أضدادها وأيضا كل مقدور ممكن الوجود والبقاء على العدم ولا يترجح أحد الممكنين إلا بمرجح ولا مرجح إلا الدعي وأيضا فيلزم أن لا يحتاج المتشابه إلى تأويل
ومن ذلك أنه يتعذر على من نفى حكمة الله تعالى أن يقطع على صدقه سبحانه وصدق رسله الكرام عليهم السلام كما تقدمت الاشارة اليه وهذا مبسوط في كتب الكلام ولا يصح لهم عنه جواب إلا ما يلزمهم معه ثبوت الحكمة في الافعال والاقوال معا كما تقدم
ومن ذلك أنهم إنما أن يحسنوا نفي الحكمة بغير حجة أو لا يحسنوه إلا بحجة إن حسنوه بغير حجة أكذبهم قوله تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وإن لم يحسنوه إلا بحجة اعترفوا بالتحسين العقلي
ومن ذلك أنهم اعترفوا بأن العقل يعرف الحق من الباطل فيقال لهم فاذا تقرر ذلك فالمعلوم في الفطر ترجيح الحق على الباطل وقد اجتمعنا في الاقوال على ترجيح الصدق على الكذب بخصوصه والصواب ترجيح الحق على الباطل بعمومه في الافعال كالأقوال والله يحب الانصاف (1/194)


فصل في الجواب عما اغتروا به في ذلك
فمن ذلك أنه ورد في السمع ما يتوهم الجهال منه إن الله تعالى يريد الشر المحض لكونه شرا لا لحكمة فيه ولا غاية محمودة وهذه هي معظم ما جرأهم على ذلك بل ليس لهم كبير شيء سواها وهي شبهة الملاحدة التي يصولون بها على السفهاء والضعفاء وذلك مثل آلام الاطفال والبهائم وعذاب الآخرة الدائم والجواب عن ذلك يتضح بذكر أمور
الامر الأول أن الاستقباح الذي يوجد في العقول لذلك إنما هو بالنسبة إلى من لا يعلم تأويلها تفصيلا ولا جملة لكن الله تعالى قد أعلمنا جملة أن لها تأويلا أو أن لها تأويلا لا يعلمه سواه وهو الصحيح على ما مضى تقريره في هذا المختصر فاذا ذلك الاستقباح الموجود في عقول البشر صحيح بالنظر إلى علومهم القاصرة وعقولهم الحائرة لكن الراكن اليه غفل عن كون ما أنكر صدر عمن ثبتت حكمته وثبت استبداده بعلم الغيوب والحكم وانه يعلم ما لا نعلم من الغيوب والحكم وقد أخبرنا في كلامه الحق أن للمتشابه تأويلا لا يعلمه إلا هو ولو كان ما تشابه علينا حسنا في عقولنا لم يحتج إلى تأويل ولو لم تكن أفعاله موقوفة على الحكمة لم يرد بذلك التنزيل بل ورد السمع بما يدل على أن الله تعالى فعل ذلك للابتلاء كما قال تعالى في تحويل القبلة وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلى قوله وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وفي نحو هذا يقول عز و جل بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذي من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين فبين سبحانه أن التكذيب بما لم (1/195)


يعلم تأويله هو عادة جميع الكافرين الاولين والآخرين وان سبب كفرهم وتكذيبهم به إنما هو جهلهم وعدم احاطتهم بعلمه فليحذر ذلك كل الحذر فان طباع الخلق واحدة إلا ما سلم الله تعالى نسأل الله الهداية والسلامة
فعلى هذا يكون الايمان به أفضل الايمان بل محك أهل اليقين والاحسان ويكون الخوف على المرتابين بسببه من مكر الله خوفا عظيما نسأل الله أن يثبتنا ولذلك خص الله الراسخين بالاستعاذة من الزيغ بعد ذكر إيمانهم بالمتشابه كأن ذكره ذكرهم ذلك فليطلب العاقل من طبعه اللجوج ونفسه الجاهلة المهلة اليسيرة حتى ينكشف في الآخرة ذلك التأويل كما انكشف لموسى تأويل الخضر بعد القطع على بطلانه ألا ترى إذا رأيت رجلا مطيقا يضرب ولدا ضعيفا ضربا مؤلما أنه أول ما يسبق إلى طبعك رحمة الصغير والانكار على الكبير حتى تعلم أن الكبير أبو ذلك المضروب وأنه ساع في صلاحه وخبير به فيزول عنك ما كان سبق إلى طبعك
وقد جود هذا الوجه الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى وفي البحث السادس من مسألة الارادة تمام لهذا فيه تقرير ورود السمع بأن الله تعالى في جزاء الاشقياء حجتين حجة ظاهرة وهي العمل وحجة خفية وهي الحكمة الباعثة على الجزاء دون العفو ثم أن تأويل الخضر لموسى دل على أن تأويل المتشابه يرجع إلى رده إلى المحكم الذي تحسنه العقول ولا تنكره وهو جلب المنافع والمصالح ودفع المضار والمفاسد ويدل على لزوم هذا في التأويل أنه لو ورد بخلافه كان متشابها آخر يحتاج إلى التأويل ولم يستحق اسم التأويل وهذه حجة قاطعة ولله الحمد
واعلم أن الطبع في هذه المسألة غالب بقوته على من لم يعارضه بتذكر كمال الربوبية ونقص العبودية ويتضرع إلى الله في امداده بهدايته ألا ترى إلى قوله تعالى بعد ذكره لتحويل القبلة وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله نسأل الله هدايته وإن لا يكلنا إلى نفوسنا طرفة عين (1/196)


الوجه الثاني أن يتذكر الانسان ما يعلمه من نفسه من شدة الجهل وقلة العلم وتردده في الامور وحيرته في أشياء سهلة ورجوعه عما كان عليه مرارا ووجدانه للشيء بعد الطلب الشديد الطويل واليأس من وجدانه فان علم الانسان بأحوال نفسه ضروري وهو حجة عليه كما قال تعالى بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره وقد وصفه ربه العليم الخبير بأنه ظلوم جهول في كتابه الحق ويعلم من التجربة المستمرة ومن قصة موسى والخضر التفاوت العظيم بين الخلق في البلادة والذكاء ومعرفة الدقائق وخفيات الحكم ومحكمات الآراء وحدس عواقب الامور فكيف التفاوت بين الخلق وخالقهم سبحانه وتعالى ولو وهب الله عز و جل لبعض خلقه نصف علمه سبحانه لجاز أن يكون ذلك التأويل في النصف الآخر كيف وقد صح في حديث ابن عباس أن الخضر قال لموسى ما علمي وعلمك وعلم جميع الخلائق في علم الله إلا مثل ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر
والفرق بين هذا الوجه والذي قبله إن هذا راجع إلى كسره لعجبه بنفسه فان الاعتراض على الله سبحانه إنما ينشأ من ذلك والوجه الأول مبني على تسليم صحة إنكاره في المتشابهات لكن بالنسبة إلى عقولنا ومعارفنا والغرض به اقناع الخصم كيلا يعتقد فينا العناد بانكار المدارك العقلية فانا لا ننكرها لكن ندعي أنه قد ينكشف خلاف السابق إلى الوهم العقلي والحسي كما أن الانسان أول ما يرى النجوم يعتقد أنها ساكنة حتى تنكشف له حركتها بالبرهان لا بالبصر وقد يراها متحركة حركة سريعة مع حركة السحاب الرقيق وينكشف له بالبرهان عدم ذلك
الوجد الثالث وهو القالع لآثار هذه الوساوس أن يعلم الانسان أنه ما زال الاختلاف بين أهل الفطن والعلوم من المسلمين فيما بينهم والفلاسفة فيما بينهم وسائر الخلائق حتى حكى الله تعالى الاختلاف اليسير الذي لا يضر فيما عن الملائكة وبعض الأنبياء عليهم السلام فقال تعالى ما كان لي من (1/197)

38 / 83
ع
En
A+
A-