والثناء لم يصح منع أحدهما على أن تفسير الحكيم بالحاكم مطلقا مما لم أره في كتب اللغة ولعل ابن الأثير قلد فيه بعض المتكلمين وهذه كتب اللغة موجودة والله يحب الانصاف
وذكر ابن كثير في الأول من البداية والنهاية في قصة نوح عليه السلام في تفسير قوله تعالى ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون قال ابن كثير أي من يرد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد وهو الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة اه بحروفه هو إشارة إلى قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين كما ذكره الذهبي
فالزنجاني والذهبي وابن كثير من أئمة الاثر وأئمة الشافعية وأهل السنة وقد تطابقوا على تعليل أفعال الله بالحكمة من غير حكاية خلاف في ذلك بل ذكر ذلك الغزالي مع توغله في علم الكلام ذكره في المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في شرح الرحمن الرحيم وكذلك ذكر مثل ذلك في الاحياء في سر القدر كما تقدم
ومن كلامه في المقصد الاسنى ما لفظه ولذلك قال الله سبقت رحمتي غضبي فغضبه ارادته الشر والشر بارادته ورحمته ارادته الخير والخير بارادته ولكن أراد الخير للخير نفسه وأراد الشر لا لذاته بل لما تضمنه من الخير إلى قوله فلا تشكن أصلا في أن الله أرحم الراحمين وانه سبقت رحمته غضبه ولا تستريبن في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق اسم الرحمة إلى آخر ما ذكره وهو كلام طويل متداول بين أهل السنة وكذلك قال النووي في شرح مسلم في حديث والشر ليس اليك أي ليس بشر بالنظر إلى حكمتك فيه وإنك لا تفعل العبث وذكره في الاذكار أيضا
وذكر ذلك الفقيه ابن العربي المالكي في شرح الترمذي ومن كلامه فيه ما لفظه فان البارى لا يجوز عليه الاهمال بحال ولا بوجه قال (1/188)
وقد وهم في ذلك المتكلمون من علمائنا في بعض الاطلاقات على الله وذلك قبيح فلا تلتفتوا اليه ذكره في أول كتاب الصيام بل قال الرازي في مفاتيح الغيب إن مسألة الافعال وقعت في حيز التعارض بحسب تعظيم الله تعالى نظرا إلى قدرته وبحسب تعظيمه سبحانه نظرا إلى حكمته إلى آخر كلامه كما سيأتي في مسألة الافعال ويعضده كلامه في وصيته وفي أصول الفقه
وقال الامام العلامة محمد بن جرير الطبري إمام السنة ما لفظه فان قال قائل فما معنى قوله عليه السلام اعملوا فكل ميسر لما خلق له إن كان الامر كما وصفت من أن الذي سبق لأهل السعادة والشقاء لم يضطر واحدا من الفريقين إلى الذي كان يعمل ولم يجبره عليه قيل هو أن أهل كل فريق من هذين مسهل له العمل الذي اختاره لنفسه مزين له ذلك كما قال جل ثناؤه ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وأما أهل الشقاوة فانه زين لهم أعمالهم لإيثارهم لها على العمل بطاعته كما قال جل ثناؤه إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون إلى قوله لأن المضطر إلى الشيء لا شك أنه مكره عليه لا محب له بل هو له كاره ومنه هارب والكافر يقاتل دون كفره إلى آخر ما ذكره وهو كلام جيد مطول ذكره بكماله العلامة ابن بطال في أبواب القدر من شرح صحيح البخاري محتجا به على بطلان قول الجبرية الجهمية وموضحا لبراءة أهل السنة منهم والحجة فيه هنا قوله لإيثارهم لها على طاعته
وفي الواحدي في تفسير قوله تعالى وأضله الله على علم عن سعيد بن جبير على علمه فيه وهو من هذا القبيل وإلا لم يكن مناسبا واحتاج إلى تفسير آخر وقال ابن الجوزي في مواعظه بث الحكم فلم يعارض بلم وقال ابن قيم الجوزي الحنبلي في حادي الأرواح ما لفظه محال على أحكم الحاكمين وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن الحكم (1/189)
والمصالح والغايات الحميدة والقرآن والسنة والعقول والفطر والآيات شاهدة ببطلان ذلك
وقال في الجواب الكافي وما قدروا الله حق قدره من نفي حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله وكذلك نصر ذلك شيخه ابن تيمية وبالغ في نصرته وذكر الزركشي في شرح جمع الجوامع نحو ذلك عن الحنفية وأنهم رووه عن ح قال وهو الذي حكاه الزنجاني من أصحابنا وأبو الخطاب من الحنابلة وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتعارض
فهؤلاء سبعة عشر من أكابر الاشعرية وأهل الكلام وأهل السنن والآثار من المتأخرين تيسر لي النقل عنهم الآن مع بعدي عن ديارهم دع عنك قدماء السلف الذين صانهم الله وصان أزمنتهم عن البدع فلو ادعى مدع اجماع المتأخرين مع اجماع المتقدمين من المسلمين على ذلك لما بعد عن الصواب والله الهادي
أما القدماء من الصحابة والتابعين فقد علم ضرورة أنهم لم يتأولوا اسم الله الحكيم وأما المتأخرون فأما طوائف الفقهاء وأهل الأثر والشيعة والمعتزلة على كثرة فرقهم فقد اتفقوا على ذلك أما أهل الأثر فقد تقدم نقله عنهم من غير معارضة وأما طوائف الفقهاء فقد نقله عنهم ابن الحاجب عموما وادعى اجماعهم وأما كل طائفة منهم خصوصا فقد تقدم نقله عن أبي حنيفة وأصحابه وأما الشافعية فذكر منهم جماعة عرفت منهم وقت هذا التعليق عشرة الخطابي وعلي بن خلف بن بطال والزنجاني وابن كثير والذهبي والغزالي والنووي وابن الأثير والزركشي والدميري وتركت الرازي لتعارض كلامه في ذلك وأما المالكية فذكر منهم ابن الحاجب وابن العربي وصدع بالحق في هذا الموضع ونص على قبح ذلك ممن قال به من متكلميهم وأما الحنابلة فذكر منهم أربعة ابن الجوزي وأبو الخطاب وابن قيم الجوزيه وشيخه ابن تيمية وبالغا في نصرته (1/190)
فصل في ذكر الادلة على ذلك
واعلم أن هذه المسألة الجليلة وإن كانت جلية فقد أحوج أهل اللجاج والتمسك بالمتشابهات إلى التطويل فيها لما يتفرع عنها ويبتني عليها من القواعد وقد بسطت الادلة عليها في العواصم ولكن لابد من التبرك بذكر طرف صالح غير المشهور في علم الكلام يدفع الله به في نحو المخالفين
فمن ذلك ما ورد في تعليل خلق السموات والأرض كقوله تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون وقال تعالى أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وفي هذه الآية الكريمة دلالة على أن الفكرة العقلية الصحيحة تثمر المعرفة بحكمة الله والقطع على تنزيه الله من العبث واللعب كما أن الادلة الشرعية جاءت بذلك وذلك واضح في قوله تعالى أولم يتفكروا في أنفسهم فهي حجة على إثبات التحسين العقلي كقوله أم تأمرهم أحلامهم بهذا وقال تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وقال هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون إلى غير ذلك
وبوب البخاري بابا في ذلك فقال في التوحيد والرد على الجهمية (1/191)
باب قول الله عز و جل وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ثم روى حديث ابن عباس كان النبي يدعو من الليل وذكر دعاءه وفيه أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق وذلك من البخاري إشارة إلى مذهب أهل السنة في إثبات الحكمة
ومن ذلك ما ورد في تعليل العذاب بالاعمال والاستحقاق مثل جزاء بما كانوا يعملون وهو أصرح وأكثر وأشهر من أن يذكر بل هو من المعلومات من ضرورة الدين وكذلك جاء صريح التعليل في الأحكام كقوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية وقد ذكرت في العواصم في هذه أكثر من مائة آية من كتاب الله مما تقشعر الجلود لمخالفة آية واحدة منها وإنما اقتصرت على ما هنالك خوفا من الاملال وقد ذكر ابن قيم الجوزية في الجواب الكافي أن في ذلك قدر ألف آية من كتاب الله ذكره في فائدة العمل مع القدر في ترتيب الاشياء على الاسباب في حكمة الله تعالى
ومن ذلك قول نوح عليه أفضل السلام إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين فان لفظة أحكم هنا مبالغة في الحكمة التي هذا موضعها لما في كلامه من التلطف بتنزيه الله عن الخلف في الميعاد ولا يصح أن يكون أحكم هنا مبالغة في الاحكام إذ لا مناسبة لذلك بهذا المقام ولذلك كان الجواب على نوح عليه السلام بأنه عمل غير صالح فبينت له الحكمة على التعيين لتقرير اعتقاده الجملي لها فكشف له بها أن الوعد سبق له متعلق بأهله الصالحين وقد روى أت الوجه في اشتباه ذلك على نوح أن ابنه كان منافقا وكان علم نفاقه من علم الغيب الذي يختص الله به ولو كان عدم صلاحه بأمر بين لم يخف ذلك عليه وهذا وجه جيد والله أعلم ومن ذلك قوله تعالى أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (1/192)