أن القول بالحكمة يقدح في كون الله غنيا وهذا من أبطل الباطل ولو كان ذلك يقدح في غناه وجب أن يقدح في غناه وجوب وصفه بكونه عليما قديرا سميعا بصيرا إلى سائر أسمائه الحسنى خصوصا كونه تعالى مريدا ولزم مذهب الملاحدة في نفي جميع أسمائه وكان المعدوم والجماد أغنى الأغنياء وقد تقرر في قواعد أهل الاسلام نفي التشبيه عن ذات الله تعالى وصفات وأفعاله وتقرر أن المراد بنفي التشبيه تعظيم الرب جل وعز في ذاته وصفاته وأفعاله لا نفي الصفات والاسماء والممادح
فمن الواجب في نفي التشبيه عن أفعاله أن تكون أكمل من أفعال المخلوقين من جميع الوجوه لا أنها تكون أخس ولا أنقص في وجه واحد من الوجوه المحمودة
ولا ريب ولا شبهة أن قاعدة الكمال في الافعال أن يكون صدورها عن الحكمة البالغة في توجيهها إلى المصالح الراجحة والعواقب الحميدة فكلما ظهر ذلك فيها كانت أدل على حكمة فاعلها وعلمه وحسن اختياره ومحامده وكلما بعدت عن ذلك كانت أشبه بالآثار الاتفاقية وما يتولد عن العلل الموجبة وأشبهت أفعال الصبيان في ملاعبهم والمجانين في خيالاتهم فلا يوجد في أفعال المخلوقين أخس ولا أنقص من أفعال الصبيان والمجانين لخلوها عن الحكمة مع أنها لم تخل من موافقة شهواتهم ولم تجرد عن كل داع فمن نفي عن أفعال الله كل داع وحكمة فقد جعلها من هذه الجهة أنقص قدرا من أفعال الصبيان والمجانين في ملاعبهم وجنونهم
وأصل أهل الاسلام تحريم تشبيه أفعال الله بأفعال العقلاء والحكماء في كمالها وعدم مداناتهم لها في ذلك لزيادتها في الكمال في ذلك وبلوغها في الزيادة إلى منزلة لا تبلغها عقول الاذكياء والحكماء كما أن الحيوان البهيمي لا يبلغ بما له من الالهام إلى تعرف حكمة الحكماء وتصانيف الأذكياء ومعارف الفطناء ولا يتمكن من معرفة مقدار زيادتهم عليه فكذلك الحكماء لا يعرفون جميع حكمة الله تعالى ولا يستطيعون أن يعرفوا مقدار زيادتها على حكمتهم كما وضح في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام ولله (1/183)


المثل الأعلى وكيف تجعل أفعال أحكم الحاكمين أنقص رتبة في خلوها عن الحكمة وأبعد عنها من مرتبة أفعال الصبيان والمجانين والساهين
وإنما قلنا أنهم جعلوها أنقص في ذلك لوجهين أحدهما أنهم قطعوا بخلوها كلها عن كل حكمة وداع وسبب ومنعوا أن تكون أفعاله كلها أرجح من أضدادها إلا في الاقوال فأوجبوا الصدق في أقوال الله تعالى ومنعوا ضده وهو الكذب ولزمهم بذلك الموافقة على ثبوت مثل ذلك في الافعال إذ لم يفرقوا بين الأفعال والأقوال بحجة بينة ولكن خافوا من تجويز الكذب على الله صريح الكفر وإنما الاقوال نوع من الأعمال
وقد أجمعت الامة على دخول الاقوال والاعمال في الوعد والوعيد على الاعمال وفي الصحيح أن أفضل العلم شهادة أن لا إله إلا الله وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة أنه لا تردد في دخول الاقوال في حديث الأعمال بالنيات وأمثال ذلك كثيرة جدا هذا في اللغة والنص والاجماع وأما العقل فلا ريب في تساويهما في ذلك فما بالهم أوجبوا صيانة الاقوال الربانية عن النقائص وأما في الأفعال الربانية فحكموا بأنه تعالى لو عكس الحكم في جميع أوامره العادلة المصلحة الحكيمة في شرائعه وأحكامه في الدنيا وكذلك في يوم القيامة أو عذب الأنبياء والأولياء وأهانهم وأخزاهم بذنوب غيرهم ثم أدخل أعداءه وأعداءهم الجنة بحسناتهم واكرامهم وعظمهم ما كان هذا الحال عليه بأبعد عن حكمته ومحامدة في العقل والسمع مما هو فاعله سبحانه وتعالى مما تمدح به وسماه حقا وعدلا وحكمة وصوابا وتمدح لذلك بأنه لا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته وبأنه إذا بدل آية مكان آية لا يبدلها إلا بما هو خير منها أو مثلها فزعموا أن التسوية بين أحكامه وأضدادها هو مقتضى العقول والشرائع لكن الشرائع وردت بالخبر عن وقوع أحد الجائزين المتماثلين في الحكمة مثل تماثلهما في القدرة بل المتماثلين في القدرة بلا حكمة عندهم إلا الصدق في الخبر فواجب وحده فانا لله إن كانت ذهبت العقول فأين الحياء من الله تعالى وكتبه ورسله والمسلمين
ومن العجب ظنهم أن هذا كله جائز عليه في أفعاله عقلا ولا يجوز في أقواله عقلا أدنى نقص ولا لغب وهو كما قالوا في الأقوال لكن الصواب (1/184)


صيانة أفعاله كأقواله من الاهمال بل إهمال الافعال من الحكمة أضر وأقبح من إهمال الأقوال وكم بين التخليد في عذاب جهنم بلا ذنب بل بذنب الغير وبين الخلف في وعد بمثوبة عند جميع العقلاء فمن لم يجز عليه هذا الخلف كيف يجوز عليه ذلك التعسف
وثانيهما أنهم جعلوا صدور الافعال منه تعالى عن حكمة محالا عليه غير ممكن له ولا داخل في مقدوره كاحالة الأكل والشرب عليه وصدورها عن حكمة غير محال في حق الصبيان والمجانين والغافلين والنائمين والمفسدين عند الجميع بل يلزمهم أن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا لو عكس الصدق والحق وبعث الكاذبين المفسدين وأيدهم بالمعجزات ما كان أولى من عكس ذلك ولم ينفصلوا عن هذا الالزام بوجه بين وإنما خرموا قاعدتهم فيه خوفا من صريح الكفر فقال بعضهم إنما يمتنع الكذب في كلام الله تعالى لأنه قديم وهذا قد جوز أن الكذب من حيث هو كذب قبيح لكنه مع ذلك نسب إلى الله تعالى عدم القدرة عليه فجمع بين تجويزه نقصين نقص الكذب لو دخل في قدرة الله تعالى ونقص العجز عنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
ولذلك أبطله الرازي بأن القدم يختص الكلام النفسي لا الأصوات عندهم وقال الرازي إنما يمتنع الكذب على الله تعالى لأن صفة النقص لا تجوز على الله تعالى وهذا كلام صحيح لكن كون الكذب صفة نقص اعتراف بالتحسين والتقبيح وثبوت الحكمة عقلا وإذا وقع الاجماع على أن الكذب صفة نقص وعلى أنه إنما امتنع على الله لكونه صفة نقص فكذلك تعذيب الانبياء بذنوب أعدائهم وإثابة أعدائهم بحسناتهم في يوم القيامة ويوم الدين والحق والعدل فانه محال على الله تعالى عقلا وسمعا من الجهة التي استحال عليه الكذب منها ومن زعم أن بينهما فرقا في النقص على العدل الحكيم فقد أبطل والله يحب الانصاف على أن بعثة الرسل الصادقين دون الكذابين من محسنات الافعال التي نازعوا فيها وليست من صدق الاقوال الذي أوجبوه فلزمهم تجويز بعثة الكذابين وتأييدهم بالمعجزات ولذلك لما قرر هذا بعض أئمة المعقولات منهم لم ينفصل عنه إلا بالزام (1/185)


خصومهم مثله وترك ذلك كذلك غنيمة باردة للزنادقة والملاحدة متى وقفوا عليه أو ظفروا به والله المستعان
وقد أجمعت الامة وعلم من الدين ضرورة أن الله تعالى تمدح بأنه الملك الحميد وإلى هذين الاسمين الشريفين ترجع متفرقات أسمائه الحسنى فما كان منها يقتضي كمال العزة والقدرة والجبروت والاستقلال والجلال دخل في اسم الملك وعاد اليه وما كان منها يقتضي الجود والرحمة واللطف والصدق والعدل وكشف الضر وأمثال ذلك من الممادح دخل في اسم الحميد وعاد اليه وربما عبر عنهما بما رادفهما أو أحدهما مثل قول النبي أهل الثناء والمجد وقوله إنك حميد مجيد فان المجد هو الملك والثناء هو الحمد فمن الناس من نظر إلى اسم الملك فعظمه ووفاه حقه بالنظر إلى معارف البشر وقصر في اسم الحميد ومعناه بنفي الحكمة عن أفعاله كلها كما أن من الناس من عكس فبالغ في اسم الحميد وقصر في تعظيم ملكه وقدرته وعزته فلم يجعل له قدرة على اللطف بعبد واحد من جميع عباده العصاة كما سيأتي في مسألة المشيئة وجميع أئمة الاسلام العارفين جمعوا بين تعظيم هذين الاسمين الشريفين ووفوا كل واحد منهما حقه على حسب قوى البشر في ذلك ومما قلته في ذلك في الاجادة
فمن قاصد تنزيهه لو رعى له ... من الجبروت الحق عز التعاظم
ومن قاصد تعظيمه لو رعى له ... محامد ممدوح بأحكم حاكم
وحافظ كل العارفين عليهما ... وهذا الصراط المستقيم لقائم
ذلك أن اسم الملك يقتضي تفرده بالخلق والامر والعزة وعلم الغيوب والقدرة على كل شيء ثم أن الكمال الاعظم في ذلك كله يقتضي نفوذ المشيئة وسبق القضاء من غير جبر كيلا يفوت عليه سبحانه مراد واسمه الحميد يقتضي كمال الحمد والعدل والحكمة والفضل والصدق والجود والثناء والتسبيح والتقديس ثم أن الكمال الأعظم في ذلك كله يقتضي أوفر نصيب لأفعاله الحميدة وأحكامه العادلة من التنزيه عن اللعب والعبث والخلو عن الحكمة والمساواة بينها وبين أضدادها وهذا ما لا شبهة (1/186)


فيه ولذلك نص عليه كثير من أئمة الآثار بل من علماء الكلام الذين ربما اتهمهم خصومهم أنهم من نفاة الحكمة
وأنا أورد من ذلك اليسير على قدر هذا المختصر فمن ذلك أن ابن الحاجب جزم في كتابه مختصر منتهى السؤل والامل باجماع الفقهاء على أن أفعال الله تعالى في الشرائع معللة ذكره في دليل العمل بالسير وتخريج المناط من القياس وذكر في مسالك العلة أنها صريح وتنبيه وإيماء فالصريح مثل لعلة كذا أو بسبب أو لاجل أو لكي أو اذن أو مثل لكذا أو ان كان كذا أو بكذا أو مثل فانهم يحشرون أو فاقطعوا أيديهما ومثل سها فسجد ثم ذكر أقسام التنبيه والايماء بعد ذلك وجميع الاشعرية يتابعونه على ذلك في أصول الفقه كالرازي في المحصول والغزالي في المستصفى وجميع من أثبت القياس في الفروع وكذلك شراح كتابه منهم ومن غيرهم مع كثرتهم وأكثرهم أشعرية قرروا ذلك ولم يعترضوه وقد قيل أنه شرح بسبعين شرحا
وأما قول عضد الدين في شرحه وجوبا عند المعتزلة وتفضلا عند غيرهم فانما أراد ارسال الرسل لا تعليل الاحكام الشرعية وإلا بطل القياس ولأن هذا النقل عن المعتزلة وغيرهم باطل في تعليل الاحكام الشرعية وكذلك ذكر الحافظ أسعد بن علي المعروف بالزنجاني أن ذلك مذهب أهل السنة وهو من أئمة الشافعية ذكره في شرح قصيدته الشهيرة في الحث على السنة وهي التي أولها تمسك بحبل الله واتبع الخبر وذكر الذهبي في ترجمة عكرمة من الميزان ما يدل على ذلك وكذلك الامام الخطابي والعلامة الدميري من أئمة الشافعية وأهل السنة ذكرا حكمة الله تعالى في خلق الداء والدواء في جناحي الذباب والهامة تقديم ما فيه الداء وتأخير ما فيه الدواء ردا على من من طعن في الحديث بذلك ونصا على أن لله حكمة في كل شيء وطولا في ذلك ذكره الدميري في كتابه حياة الحيوان في ذكر الذباب من حرف الذال
وشرح ابن الأثير الحكيم بالحاكم وبذى الحكمة معا ولم ينكر تفسيره بذي الحكمة ويجعله من البدع وفسر الحكمة بمعرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم فجعل الاشياء متفاضلة في أنفسها والحكمة معرفة ذلك وهذا هو المراد وإذا كان للاسم الشريف معنيان صحيحان مشتملان على الحمد (1/187)

36 / 83
ع
En
A+
A-