من يشاء كما تقدم وثانيهما مقابلته لذلك بتشبيه أعمال الكفار بالظلمات المترادفة ومقابلته لقوله نور على نور في حق المؤمنين بقوله ظلمات بعضها فوق بعض في حق الكافرين ومقابلته لقوله تعالى يهدي الله لنوره من يشاء في حق المؤمنين بقوله ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور في حق الكافرين ويدل على ذلك أيضا في هذه الآيات قوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فان فيها بيان أن هذا النور هو نور الهداية والاعمال الصالحة التي محلها في هذه البيوت الشريفة على الخصوص وليس بنور الكواكب والابصار التي هي تعم كل محل شريف وخسيس وكل مبصر مؤمن وكافر ويدل على ذلك من الكتاب والسنة المنفصلة عن هذه الآيات ما لا يكاد يحصى مثل قوله تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور الآية وقوله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وقوله تعالى قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس وقال في حق محمد فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون
ومن أوضحه يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وقوله فيه بافواههم من ترشيح الإستعارة أما نور الابصار والشمس ونحو ذلك فلم ينكر ذلك الكفار ولا يمكن أن يهموا باطفائه وقوله تعالى أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها وقوله تعالى في صفة رسول الله وسراجا منيرا (1/168)
ومن الاحاديث الصحيحة قوله الصلاة نور والصدقة برهان خرجه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي مالك الأشعري وذلك يناسب كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال الله تعالى وهذا معنى نور الهدي والله أعلم
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله كان يقول في دعائه عند أن يقوم من الليل اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وفي لساني نورا إلى قوله واجعل لي نورا قال ابن الأثير في النهاية أراد ضياء الحق وبيانه كأنه قال اللهم استعمل هذه الأعضاء مني في الحق وفي حديث آخر أن رسول الله كان يقول في دعائه تم نورك فهديت فلك الحمد رواه الجزري في العدة وفي حديث ابن مسعود المقدم من رواية أحمد وأبي عوانة أن رسول الله قال في ذلك الدعاء اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك إلى قوله أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وفي رواية ونور بصري فكون القرآن نور البصر هنا يدل على أن المراد بصر الهدى والحق أيضا كما فسرته الرواية الأخرى في قوله ونور صدري وكل هذا دليل على أن الهدى أصيل في التسمية بهذا الاسم الشريف وأنه أشرف معانيه
فظهر أن معنى النور في أسماء الله تعالى هو الهادي لكل شيء إلى مصالحه والمرشد لكل حي إلى منافعه الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى حتى هدى الطفل المولود إلى الالتقام من الثدي وامتصاص اللبن
وأعجب من ذلك هداية أولاد البهائم التي لا تحسن أمهاتها شيئا من مقدمات المعاونة على تعليم الرضاع والهداية إلى موضع اللبن فهذا من أوائل هداية الله سبحانه لمن لا هداية له ولا تمكن الاشارة إلى نهايات هداياته واختلاف أنواعها ومقاديرها
وفي كتاب العبر والاعتبار للجاحظ وكتاب حياة الحيوان من ذلك الكثير الطيب والمكثر من ذلك مقل فالهداية من الله تعالى وهو الهادي باجماع (1/169)
المسلمين وقد خرج اسم الهادي الترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم في حديث الاسماء الحسنى فالتفسير بها صحيح وان كان الله تعالى هو رب الانوار كلها أنوار الابصار وأنوار البصائر فاللفظة لا يراد بها إلا أحد معانيها على الصحيح ولم أتبع في هذا التفسير الرأي وإنما اتبعت فيه القرآن والسنة كما تقدم بيانه
قال ابن الأثير في نهايته هو الذي يبصر بنوره ذو العماية ويرشد بهداه ذو الغواية وأما حديث نور أني أراه فانه حديث معل متكلم فيه عند أكثر أئمة الحديث وهو من رواية يزيد بن ابراهيم التستري عن قتادة عن عبد الله ابن شقيق عن أبي ذرانة سأل النبي هل رأيت ربك فقال نور أنى أراه
والقدح فيه من وجوه الأول قدح أئمة الحديث فيه وقد سئل إمام الحديث أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال ما زلت منكرا له روى ذلك عن أحمد الخلال في العلل وابن الأثير في تفسيره النور من النهاية وابن الجوزي بعد رواية الحديث في جامع المسانيد وهو الرابع والخمسون وكذلك روى ابن الجوزي وابن الأثير كلاهما عن امام الأئمة ابن خزيمة أنه قال في القلب من صحة هذا الحديث شيء وأن الله شقيق لم يكن يثبت أبا ذر ذكره ابن الأثير زاد ابن الجوزي لأنه قال أتيت فاذا رجل قائم فقالوا هذا أبو ذر فسألته الحديث
الثاني أن ابن شقيق كان ناصيا يبغض عليا رضي الله عنه كما ذكره الذهبي وذكر أن سليمان التيمي كان سيء الرأي فيه قلت وكان سليمان التيمي أحد أئمة الاسلام الكبار ورجال الجماعة وأهل المناقب المشهورة من سادات التابعين معاصرا لابن شقيق خبيرا به فقوله فيه مقبول وإنما قبله من قبله على قاعدتهم في قبول أهل الصدق من الخوارج متى ظنوا صدقهم بالتجربة في مواضع سهلة يكون في قبولهم فيها احتياط والمرجح آخر على ما هو مبسوط في الأصول وعلوم الحديث وهذا مقام عزيز ومحل رفيع لا يقبل في مثله حديث مختلف فيه (1/170)
الثالث أن يزيد بن إبراهيم الراوي له عن قتادة ضعيف في قتادة ضعفه فيه يحيى بن معين وابن عدي وهما من أجل أئمة هذا الشأن وقد حكى ابن حجر في علوم الحديث عن الذهبي أنه ما اجتمع اثنان من أئمة هذا العلم على جرح أو توثيق إلا كان كما قالا قال ابن حجر بعد ذلك والذهبي من أهل التتبع التام قلت لعله يريد حيث لم يعارضهما أحد مثل هذا الموضع على أن ابن عدي قال أنهم أنكروا على يزيد هذا أحاديث رواها عن قتادة وكلامه هذا يدل على أنهما لم ينفردا بتضعيفه في قتادة بل فيه نسبة ذلك إلى أهل الحديث وأما أهل الصحيح فلم يخرجوا حديثه عن قتادة وسيأتي عذر مسلم في ذلك
الرابع أن الحديث معل بالاضطراب فانه رواه تارة كما تقدم وتارة رأيت نورا وهاتان روايتان متضادتان في احداهما اثبات الرؤية للنور وفي الأخرى انكار ذلك بصيغة الاستفهام وهي في هذا المقام أشد في الانكار والعلة تقدح في حديث الثقة المتفق عليه فاجتمع فيه الضعف والاعلال وأحدهما يكفي في عدم تصحيحه
الخامس أن أصح روايتي الحديث إن قدرنا صحته هي رواية رأيت نورا وليس فيها أن ذلك النور هو الله سبحانه وتعالى عن ذلك وإنما كانت أصح الروايتين لأنها رواية هشام وهمام كلاهما عن قتادة الذي هو شيخ يزيد بن ابراهيم المضعف في قتادة وهما أوثق منه مطلقا فكيف في قتادة فلم يبق لتصحيح روايته وجه
فان قلت فكيف خرج مسلم الروايتين معا في الصحيح قلت الذي عندي أنه إنما خرجهما شاهدين على قوة حديث عائشة رضي الله عنها في نفي رؤية رسول الله لله سبحانه ليلة الاسراء فانه خرج حديثها وطول في ذكر طرقه ثم أردفه بما يناسبه ويقوى معناه فذكر هذا الحديث من طريقيه معا أردفه بما يناسبه وذكر بعده حديث حجابه النور كما جاء صريحا في حديث أبي موسى شاهدا لهذا المعنى ومسلم يتساهل في الشواهد هو وغيره من أئمة الحديث وقد تأوله غير واحد على تقدير صحته بأن المراد حجابه النور كما جاء صريحا في حديث أبي موسى ممن تأوله ابن الأثير (1/171)
في نهايته وابن الجوزي في جامعه بعد روايته وذكر الحجاب قرآني صحيح كما يأتي في آيات الصفات قال الله تعالى أو من وراء حجاب وقال في الكافرين كلا انهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون والحجاب حاجب للعباد لا لله سبحانه كما نبهت عليه بهذه الآية الكريمة فانه بين فيها انهم المحجبوبون لا هو وهذه نكتة شريفة فتأملها وقد طال الكلام في هذا الاسم الشريف وهو موضعه لأن الخطر من أسماء الله سبحانه جليل والكثير من البحث والتحقيق فيها قليل
ومثال الثاني اسم الضار وذلك أن الله تعالى لما ثبت بالأدلة أنه لا يصح أن يريد الشر لكونه شرا بل إنما يريده لما علم من الخير كما بينه الغزالي في المقصد الأسنى وسوف نبين أدلته في اثبات حكمة الله تعالى في جميع أفعاله من هذا المختصر ثبت أن كل ضر من الله تعالى هو خير ونفع بالنظر إلى الحكمة فيه وبذلك فسر النووي الحديث الصحيح في التوجه الخير بيديك والشر ليس اليك أي ليس بشر بالنظر إلى حكمتك فيه ومن هنا سمى الله تعالى القصاص حياة وهو قتل وقطع ونحو ذلك ومن هنا لم يستحق الطبيب الذي يكوي ويقطع اسم الضار فثبت أن كل ضر منه سبحانه وتعالى يستحق أن يسمي الله منه أسماء حسنة مثل الديان والمنتقم والمبتلى وهذه خير من اسم الضار لأنه يفهم منها المجازاة على أفعال متقدمة يستحق أهلها ذلك لأجلها بخلاف الضار وكذلك عذاب الله في الآخرة فانه مشتمل على ذلك وإلى ذلك الاشارة بقوله انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحيوة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فانا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون انه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى انسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون وقال تعالى جزاء لمن كان كفر بضم الكاف وكسر الفاء وأمثال ذلك كثير مما يدل على نفع المؤمنين بعذاب الكافرين والانتصاف لهم فيجب أن يكون في الاسم (1/172)