المخالفين وان كان السبب الأكبر الذي أخبر عنه علام الغيوب حيث يقول لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون وتعرضوا لما لا يمكن من ايضاح المحارات التي لا تتضح والسير في الطرق التي لا توصل والوزن بالموازين التي لم ينزلها الله تعالى ولا علمتها رسله ولا اجتمعت عليها عقول العقلاء وفطن الأذكياء وما خرج عن ذلك كله فمن أين له الوضوح حتى يكون له ميزان يميز به الحق من الباطل عند الدقة والخفاء والإختلاف الشديد فتأمل ذلك بإنصاف
وأعجب من كل عجيب تكفير بعضهم لبعض بسبب الإختلاف في هذه المحارات الخالية من ذلك كله وقد قال الله تعالى بعد الأمر بوفاء الكيل والوزن لا نكلف نفسا إلا وسعها مع وضوح الوفاء فيهما وامكان الإحتياط فكيف حيث يدق ويتعذر فيه الإحتياط لكن قد يمكن أن لا يسامحوا في ذلك من جهة أن الضرورة بل الحاجة لم تدع إليه كالوزن هذا مع ما في التكفير للمخطئ في هذه الدقائق من المفسدة وذلك عدم جسرة الناظر على المخالفة لأنها صارت مثل الردة من الدين ولولا ذلك لاتضح كثير من الدقائق فإن أوائل أهل علم الكلام لابد أن يقصروا كما هو العادة الدائمة في كل من ابتدأ ما لم يسبق إليه فلما كفروا المخالف كتم بعضهم المخالفة وتكلف بعضهم الموافقة بالتأويل البعيد وفسد الاكثرون وقد ذكر نحو هذا في دلائل اعجاز القرآن أنه أسلوب مبتدأ جاء على الكمال فحرق العادات بذلك على أن في علم الكلام من الخطر ما لا يتعرض له حازم بعد معرفته وذلك ما ذكره السيد المؤيد بالله فانه ذكر في أواخر كتابه ما ذكره في الزيادات ما لفظه
فصل فيما يجب على العامي والمستفتي
قال والأولى عندي ترك الخوض فيما لا تمس الحاجة إلى معرفته من علم الكلام لأن الصحيح من المذهب أن الجهل قبيح ويجوز أن يصيره إلى حالة يستحق صاحبها الخلود في النار وهذا غير مأمون لو نظر في مسألة من الكلام (1/19)
وأخطأ ولو لم يشتغل بها وترك النظر فيها أمن ذلك ولو أصاب كان ما يستحق من الثواب على الإصابة يسيرا والعاقل إذا اختار الحزم اختار الاعراض عنها دون النظر فيها إلى آخر كلامه في ذلك وأراد بالجهل القبيح الجهل الاصطلاحي عند أهل الكلام وهو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه لا الجهل اللغوي الذي هو التوقف في موضعه فهو الذي أمر به وحكم بنجاة صاحبه ومن عيوب علم الكلام تعرضهم لما لا نفع في الخوض فيه مع عدم الامان من المضرة فيه كالخوض في الروح والنفس وانهما شيء واحد أو شيئان مختلفان فان أدلتهم في ذلك كله ضعيفة ظنية وأحسن ما يستدلون به في ذلك هو التلازم وليس من الأدلة القاطعة وقد اختار ابن متويه والحاكم منهم وغيرهما أن الروح هو النفس الجاري بفتح الفاء لأجل التلازم فوهموا وهما فاحشا فان الجنين في بطن أمه لا يتنفس بعد حياته ونفخ الروح فيه بالنص والحس بل حيوان الماء لا يتنفس فيه ولو سلم لهم جواز دوام التلازم لم يكن حجة قاطعة على اتحاد النفس والروح فليحذر الخوض في أمثال ذلك لقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ولما تقدم من كلام المؤيد بالله في ذلك وقد وافق المؤيد بالله على ذلك خلائق من أئمة العترة والامة كما ذكره صاحب الجامع الكافي عن محمد بن منصور في كتاب الجملة والالفة وحكى الحاكم المعتزلي في مختصر له جلي في معرفة الله أن جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب من أئمة الكلام رجعا عن الخوض في دقيقه وقد بالغ الغزالي في احياء علوم الدين ولا حاجة إلى التطويل بذكر ذلك وهو معروف في مواضعه
وإني لما رأيت طريق النجاة من علم الكلام مما لا يجتمع عليها أهل الكلام دع غيرهم ورأيتها ان كانت طريقا صحيحة فانها متوقفة ولا بد على التحقيق فيه والبحث العميق عن الطائفة وخوافيه المودعة في علم اللطيف الذي تذكره ابن متويه من مختصراته وجلياته وملخص الرازي من موجزاته ومتوسطاته وأئمة أهله أعي علم الكلام في غاية المباعدة (1/20)
والمنافاة حتى أن الشيخ أبا الحسين ذكر أنه يكفي في معرفة بطلان مذاهب أصحابه البهاشمة من المعتزلة مجرد معرفة مقاصدهم مع أنهم الجميع من أئمة الاعتزال هذا مع وقوع كثير من أئمة الكلام في الشك والحيرة
فلما عرفت ذلك كله علمت من غير شك صعوبة معرفة طريق النجاة من هذا الفن على الاكثرين
وقد ألهم الله تعالى وله الحمد والشكر والثناء إلى أسهل طريق وأخصره في علمي إلى اليقين والنجاة ونصرة طريق الصحابة والسلف التي علم تقريرهم عليها بالضرورة من الدين وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها وإنما عنيت في توضيحها وتجديدها بعد درسها ومداواة ما قد وقع من تغيير المغيرين لها كما أشار إليه الحديث في قوله فأبواه يهودانه وينصرانه كما تقدم
وبيان ذلك أني تأملت جميع الاختلاف الواقع بين الناس من الملل الكفرية والفرق الاسلامية فإذا هو على كثرته وتشعبه يرجع في الجملة إلى سبعة أشياء مدركها بالفطرة قريب بعون الله تعالى بل هي فطرة الله التي فطر الناس عليها
أولها اثبات العلوم الضرورية التي يبتني الاسلام على ثبوتها وثانيها ثبوت الرب عز و جل وثالثها توحيده سبحانه وتعالى ورابعها كماله بأسمائه الحسنى وخامسها ثبوت النبوات وصحتها في الجملة وسادسها الايمان بجميعهم وعدم التفريق بينهم وسابعها ترك الابتداع في دينهم بالزيادة على ما جاؤا به والنقص منه فاذا تأملت هذه الأمور السبعة بالفطرة الأولى السليمة من التغيير بالعادات والطوارئ المغيرات لم تشك أن الخطر المخوف من عقاب الآخرة مأمون في جميعها وأما الستة الأولى فمجموعها هو دين الاسلام الذي فطر الله عباده على معرفته والخلاف في كل واحد منها كفر يجمع عليه والأدلة عليها جلية وفاقية بين المسلمين ولا يمكن وجود أحوط منها ولا أولى وأحرى كما قال تعالى فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما السابع وهو عدم الزيادة والنقص في الدين فهو (1/21)
العصمة من البدع المفرقة بين المسلمين وهو لاحق بما قبله في ثبوته في الفطرة مع اضطرار كاره البدعة اليه لكن لا يثبت فيه التكفير غالبا كما ياتي شرحه في موضعه
وسر هذا الكلام أن العذاب الأكبر مخوف في المخالفة لأحد هذه القواعد السبعة الجليلة والعقل والسمع مجتمعان على حسن السعي في دفع المضار المخوفة المجوزة التجويز لمستوى الطرفين ووجوب السعي في دفع المضار المطلوبة ووجوب السعي في الاحتياط في ذلك وهذا معلوم في فطر العقلاء ومع كونه معقولا فقد ذكره الله تعالى في كتابه المبين وذكر العقلاء به إن كانوا عنه غافلين فقال في ذلك رب العالمين قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد وقال عز و جل في آية أخرى قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال سبحانه حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ومنه ما حكاه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون من قوله أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم وفي معناه قوله تعالى أيضا ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار الآيات وهو بين في هذا المعنى لأن السلامة متحققة في الايمان والخطر مأمون فيه والمهالك مخوفة في مخالفته وقد أحسن كل الاحسان في دعاء قومه ولذلك حكى الله تعالى حسن احتجاجه عليهم فينبغي تأمله والانتفاع به ولذلك أتبع الله البرهان بالتخويف بالموت الضروري (1/22)
والمعاد إليه النظري في قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون فان الكفر مع مجموع هذه الأمور أنكر الكفر وأفحشه فان البراهين تكفي العارفين والمخاوف توقظ نيام الغافلين وتلين قساوة العاتين الماردين ومع ذلك تقوى دواعي العارفين وتقاوم وساوس الشياطين ومن ذلك قوله تعالى وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وهذا القدر أعني الدخول في الاسلام على جهة الاحتياط من غير علم بصحته بالأدلة يحصل أدنى مراتب الاسلام عند كثير من علماء الاسلام كمن لا يكفر المقلدين لأهل الحق ومن يقول المعارف ضرورية وغيرهم وحجتهم على ذلك أمور منها تقرير النبي للعامة وقبول الشهادة منهم ومنها قوله تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم وآخر الآية حجة حسنة على ذلك ومنها ما صح واشتهر وتواتر في أحاديث الشفاعة من تقرير إيمان المشفوع لهم بمثاقيل الذر وأدنى أدنى أدنى من ذلك ألا ترى أنك تخاف العذاب على المخالفة في كل واحد من هذه السبعة الأمور ولا تخاف العذاب بالقول بواحد منها ولا تجد أحوط منها ولا أنجى فحينئذ علمت بالفطرة علما قريبا جليا تطمئن به القلوب وتؤمن معه من المخوف الأعظم إنه لا يمكن أن يوجد أصح ولا أنجى من المخاوف من دين الاسلام ومتابعة محمد أفضل الصلاة والسلام
فلاحظت في هذا المختصر هذه الأمور السبعة وأشبعت الكلام فيها ونصرتها بجهدي وغاية ما في قدرتي من العبارات الواضحة وضرب الأمثال البينة ثم الآيات والآثار وإن تكلمت في نصرتها من عندي متميزة بأنفسها غير ملتبسة بكلامي فما أخطأت فيه من كلامي وخالفها فعلى كل مسلم رده واجتنابه ومتابعتها دونه فانما قصدي نصرتها لا مخالفتها (1/23)