ثم المرتبة الثانية من المفسرين التابعون ومن أشهر ثقاتهم المصنفين في التفسير مجاهد بن جبر المكي وعطاء بن أبي رباح وقتادة بن دعامة والحسن البصري وأبو العالية رفيع بن مهران ومحمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم وكلهم مخرج عنهم الحديث في دواوين الاسلام الستة وغيرها والاسانيد اليهم بتفاسيرهم متصلة كما ذكره البغوي في أول تفسيره وغيره وقد نقم على بعضهم أشياء سهلة لكن ينبغي التيقظ لها عند التعارض والاختلاف فان مثلها يؤثر في الترجيح فينظر تراجمهم في تذكرة الذهبي وميزانه وأبسط منهما تهذيب شيخه المزي وكتابه النبلاء وأمثالها من كتب الرجال وتواريخ علماء الاسلام ويلحق بهؤلاء عكرمة مولى ابن عباس وهو دونهم لوقوع الخلاف فيه فان الخلاف فيه كثير بين الصدر الأول لكن أكثره راجع إلى اعتقاده لأنه كان ينسب إلى رأي الخوارج فيكون على ما يدل على مذهب الخوارج أضعف
وقد صنف جماعة في الذب عنه وجود ابن حجر في ذلك في مقدمة شرح البخاري لأن البخاري احتج به وأهل السنن والأكثرون وتجنبه الامام مالك ومسلم في صحيحه ثم بعده مقاتل بن حيان ومحمد بن زيد مهاجر احتج بهما مسلم وأهل السنن دون البخاري وتكلم فيهما بعضهم بغير حجة بينة ثم علي بن أبي طلحة وهو قريب منه احتج به مسلم وأهل السنن لكن قال أحمد له أشياء منكرات وقال الذهبي في الميزان وقد روي عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ممتعا والصحيح عندهم أن روايته عن مجاهد عن ابن عباس وإن كان يرسلها عن ابن عباس فمجاهد ثقة يقبل وقد يعضد تفسيره وتفسير أمثاله بمفهومات من القرآن مثل تفسيره لتقدير يوم القيامة بخمسين الف سنة عن ابن عباس أنه في حق الكافر وذلك يعتضد بقوله تعالى وكان يوما على الكافرين عسيرا وبقوله تعالى على الكافرين غير يسير وبقوله تعالى يقول الكافرون هذا يوم عسر (1/148)
وبأحاديث مرفوعة في ذلك منها ما رواه البغوي من طريق ابن ابي لهيعة عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ومنها ما يأتي الآن في النوع الثالث من مراتب التفسير ثم السدي الكبير يروى عن ابن عباس وطبقته بعد هؤلاء وهو مختلف فيه وهو اسماعيل بن عبد الرحمن القرشي الكوفي وحديثه عند مسلم وأهل السنن الأربعة وهو تابعي شيعي وربما كان الكلام فيه لمذهبه عند من يخالفه وأما السدي الصغير محمد بن مروان عن الاعمش فواه جدا ومنهم محمد بن سليمان الانباري أحد مشايخ أبي داود ورواة سننه ومنهم عطية العوفي عن أبي سعيد فيه ضعف وكذلك محمد بن السائب الكلبي ومقاتل بن سليمان واهيان لا سيما مقاتل بن سليمان فقد كذبه غير واحد ولم يوثقه أحد واشتهر عنه التجسيم والتشبيه ولذلك لم يرو عنه من أهل الكتب الستة إلا النسائي قال كان لا يكذب يعني لا يتعمد الكذب وأثنى عليه بعضهم بمعرفة التفسير وأما الكلبي فروى عنه الترمذي وحده ولم يوثقه أحد
وكذلك تنبغي معرفة من جرح وكذب من متأخري المفسرين مثل أبي بكر محمد بن الحسن النقاش توفي عام 351
وإنما سقت لك ذكرهم لما قيل أن المفسرين أكثروا من حكاية الاقوال المختلفة والحق يضيع بين قولين فصاعدا فأرشدت إلى طرف من الترجيح عند الاختلاف وبقية المفسرين مذكورون في كتب الرجال ولكن المدار على من ذكرت في الأكثر فهذه مراتب المفسرين فيما يرجع من التفسير إلى الرواية
وأما مراتب التفسير فيما يرجع منه إلى الدراية فهي ترجع إلى سبعة أنواع النوع الأول تفسير المتكررات تكريرا كثيرا مثل آيات الاسماء الربانية والصفات والمشيئة والاسماء المعروفة بالدينية وهي الاسلام والإيمان والاحسان والمسلمون والمؤمنون والمحسنون وكذلك أسماء الظالمين والفاسقين والكافرين وسائر ما يتعلق بالاعتقاد ويحتاج إلى مزيد بحث وانتقاد مما تورد فيه الادلة والشبه والورود والمعارضات (1/149)
وهذا القسم ينبغي أن يكون مفردا في مقدمات التفسير حتى يشبع فيه الكلام من غير تكرير أو يؤخذ من مظانه من كتب الاعتقاد على الصفة التي أشرت اليها في أول هذا المختصر في الانصاف ومعرفة أدلة الجميع وفي هذا المختصر من ذلك كفاية إن شاء الله تعالى وما هو إلا كالمقدمة للتفسير فان اشتبه الصواب على أحد في هذا القسم أو خاف وقوع فتنة من الخوض فيه والبحث عنه والمناظرة ترك ذلك وكفاه الايمان الجملي لما ثبت في حديث جندب بن عبد الله عن رسول الله أنه قال اقرأوا القرآن ما أتلفت عليه قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه رواه البخاري ومسلم وغيرهما وله شواهد قدر خمسة عشر حديثا والمراد الاختلاف مع التعادي والتفرق كما هو عادة أهل الكلام دون الاختلاف مع التوالي والتصويب كما هو عادة الفقهاء وسائر أهل العلوم وذلك لما في حديث عمر مع هشام ابن حكيم في اختلافهما في القراءة وتقرير النبي لهما على الاختلاف في القراءة ونهيهما عن الاختلاف في التخطئة والمناكرة خرجه الجماعة وهو متواتر أو مشهور عند أئمة الحديث فقد رواه ثمانية عشر صحابيا وما تقدم من حديث جندب وشواهده مما هو زيادة بيان بعد قوله تعالى لا تفرقوا وأمثالها وهي كافية شافية مغنية عن الاحاديث لكن في اجتماع الكتاب والسنة قرة عيون المؤمنين وطمأنينة قلوب الموقنين وفي البخاري والنسائي عن ابن مسعود نحوه وقد أشار إلى هذا محمد بن منصور الكوفي وصنف فيه كتاب الجملة والالفة وذكره عن الكبراء من علماء العترة وغيرهم وأنكر على أهل الكلام ما اختصوا به من التعادي عند الاختلاف في الدقائق الخفية وهذا عارض هنا وليس هو موضعه
النوع الثاني تفسير القرآن بالقرآن وذلك حيث يتكرر في كتاب الله تعالى ذكر الشيء ويكون بعض الآيات أكثر بيانا وتفصيلا وقد جمع من هذا القبيل تفسير مفرد ذكره الشيخ تقي الدين في شرح العمدة ولم اقف عليه وقد يذكر المفسرون منه أشياء متفرقة فمنه تفسير قوله تعالى في سورة المؤمن وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم (1/150)
بأنه العذاب الأدنى المعجل في الدنيا لقوله سبحانه في آخر هذه السورة فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون وقد تكرر هذا في كتاب الله تعالى ومنه تفسير فصل لربك وانحر بقوله تعالى إن صلاتي ونسكي ومحياي ونحو ذلك ومنه تفسير قوله تعالى ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما بأهل الكتاب كقول مجاهد لقوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن يضلوا السبيل ويقويه ان عصاة المسلمين لا يريدون فجور صالحيهم والآية وردت بضمير الغائب في المريدين وضمير الخطاب في المائلين فقوى ذلك ومنه تفسير من يعمل سوءا يجز به بقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير فقوله فيها ويعفو عن كثير مخصص لعموم من يعمل سوءا يجز به ومقيد لاطلاقها كأنه قال الا أن يعفو بدليل هذه الآية مثل ما انها مخصصة بآيات التوبة فانه مقدر فيها إلا أن يتوبوا بالاجماع وبالنصوص في التائبين وهذه الآية دالة على اشتراط عدم العفو وعلى اعتبار مصائب الدنيا في عذاب المسلمين ووعيدهم كما دل على ذلك حديث علي عليه السلام في تفسيرها وحديث أبي بكر رضي الله عنه في تفسير من يعمل سوءا يجز به ولذلك طرق شتى وفيه أحاديث كثيرة مجمع على معناها وأحاديث الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو وطرقه صحيحة كثيرة كما يأتي في مسألة الوعد والوعيد
ومنه حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص كنفي الخلة والشفاعة في آية مطلقا وقد استثنى الله المتقين من نفي الخلة في قوله تعالى الأخلاء (1/151)
يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين واستثنى ما أذن فيه من الشفاعة بقوله في آية من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى
ومنه الجمع بين ما يتوهم أنه مختلف كخلق بني آدم من تراب كما في الكهف ومن طين في غير آية وهو تراب مختلط بالماء ففيه زيادة على التراب المطلق وكذلك خلقه من صلصال فانه أخص من الجميع لأنه طين مخصوص ومنه تقديم المنطوق على المفهوم وأوجب منه تقديم تفصيل القول المنطوق على عموم المفهوم لأن الخاص يقدم على العام المنطوق فكيف لا يقدم على عموم المفهوم
النوع الثالث التفسير النبوي وهو مقبول بالنص والاجماع قال الله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال لتبين للناس ما نزل إليهم وفي الحديث لا يأتي رجل مترف متكئ على أريكته يقول لا أعرف إلا هذا القرآن ما أحله أحللته وما حرمه حرمته إلا واني أوتيت القرآن ومثله معه ألا وان الله حرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ويدل على ذلك أن الاجماع قد انعقد على نسخ وجوب الوصية للوارثين بحديث لا وصية لوارث وهو حديث حسن وإذا وجب قبول ذلك في نسخ فريضة منصوصة فيه فكيف بسائر البيان والتخصيص وقبوله في نسخ وجوب الوصية اجماع العترة والأمة
وقد اشتملت على ذلك الصحاح والسنن والمسانيد وجمع بحمد الله تعالى وجمعت منه الذي في جامع الاصول ومجمع الزوائد ومستدرك الحاكم أبي عبد الله ويلحق بذلك أسباب النزول وقد أفرده الواحدي وغيره بالتأليف وهو مفيد جدا لأن العموم الوارد على سبب مختلف في تعديه عن سببه وهو نص في سببه ظني في غيره وقد يقصر عليه بالاجماع كما ثبت في قوله تعالى في ذم الذين يفرحون بما أتوا عن ابن عباس أنها نزلت في اليهود وفرحهم بما أتوا من التكذيب بالحق فلولا ذلك أشكلت وتناولت من فرح (1/152)