المعروفة اللفظية والعقلية والعرفية ولم تكن القرينة خفية مختلفا فيها كما سيأتى بيانه إن شاء الله تعالى
وقد تم الكلام في بيان تحريم الزيادة في الدين والنقص منه وقلما تدخل البدعة على السني من هذين الامرين وأكثر ما تدخل عليه من التصرف في العبارات وهو الامر الثالث الذي وعدت بذكره مفردا لكثرة مضرته وإن كان في الحقيقة راجعا إلى الزيادة في الدين فأقول
الامر الثالث التصرف في عبارات الكتاب والسنة والرواية بظن الترادف في الألفاظ واعتقاد الترادف من غير يقين وقد تفاحش الأمر في ذلك ونص القرآن على النهي عن التفرق فوجب تحريم ما أدى اليه والاختلاف في معاني كتاب الله تعالى ورواية ما قال الله ورسوله بالمعنى قد أدى ذلك إلى الحرام المنصوص ولم يكن من الانصاف أن نقول الحق متعين منحصر في عبارات بعض فرق الاسلام دون بعض غير ما ثبت في إجماع الامة والعترة فوجب أن يعدل إلى أمر عدل بين الجميع فتترك كل عبارة مبتدعة من عبارات فرق الاسلام كلها سواء علمنا بالعقل أنها حق أو باطل لأنه لا يجب الاشتغال بكل حق فقد نعلم من أمور الدنيا ما لا يحصى ولا تجب علينا معرفته وتعريفه مثل ما اشتملت عليه التواريخ من حوادث الزمان وعجائب أخبار البلدان بل ما تضمن المفاسد من الحق حرم فلذلك قد يكون من الحق ما هو حرام بالاجماع والنص كالغيبة والنميمة متى أردنا بالحق مجرد الصدق والمطابقة فلذلك لا ينبغي الاشتغال ببعض العلوم وغيرها لمجرد كونها حقا حتى يرد الشرع بالأمر بذلك ليعلم بالشرع أنه حق متضمن لمفسدة راجحة أو مساوية والله أعلم وكذلك ما كان من أمور الدين التي لم ينص فرض معرفتها في كتاب الله ولا السنة المتفق على صحتها
فان قلت هذا صحيح متى ثبت أنه يجوز على العلماء والثقات الخطأ في فهم المعنى أو في التعبير عما فهموا أو فيهما معا فما الدليل على جواز ذلك على العلماء حيث لم يصح إجماعهم
قلت الدليل على ذلك أمور كثيرة أذكر منها ما حضر والله الهادى (1/133)


منها أنه ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله قال نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وفي رواية فرب حامل فقه غير فقيه وثبت أن الفتنة وقعت بين الصحابة ما لها سبب إلا اختلافهم في الفهم وثبت في الصحيح أن عدي بن حاتم الصحابي رضي الله عنه غلط في معنى قوله تعالى حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود وجعل تحت وسادته عقالين أسود وأبيض فقال له رسول الله إنك لعريض القفا أو عريض الوساد وثبت في الصحيح أن ابن عمر رضي الله عنهما لما روى حديث الميت يعذب ببكاء أهله قالت عائشة ما كذب ولكنه وهل أي أخطأ في فهم ما سمع
وفي الصحيح عنه أيضا أن رسول الله قال أرأيتكم ليلتكم هذه فان على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدا خرجه البخاري ومسلم وزاد فيه الترمذي وأبو داود قال ابن عمر فوهل الناس في مقالة رسول الله فيما يتحدثونه من هذه الأحاديث يعني حسبوه أراد القيامة وفي المستدرك عن علي عليه السلام نحو هذا
وأوضح من هذا كله أن النبي شرط التعمد فقال من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وهو حديث متواتر فلولا جواز الخطأ ما كان لذلك فائدة وثبت أيضا أن عمر رضي الله عنه شك في حديث فاطمة بنت قيس لمثل ذلك بل شك في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه في التيمم لخوف الوهم فان عمارا لا يتهم بتعمد الكذب ولذلك أذن له في روايته مع شكه في صحته وثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ما عندنا إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة أو فهم أوتيه رجل فدل على التفاوت في الفهم ويدل عليه من كتاب الله قوله سبحانه ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما
يوضح ذلك أنه قد اشتد اختلاف العلماء في أمرين أحدهما رواية الحديث بالمعنى حيث يستيقن الترادف والاستواء المحقق في العموم والخصوص والخفاء والجلاء وأن لا تنقل اللفظة المشتركة إلى لفظة غير مشتركة ولا (1/134)


العكس ولا لفظة لها مجاز إلى لفظة لا مجاز لها ولا العكس ولا يعبر بالحقيقة عن المجاز ولا العكس ولا بالمنطوق عن المفهوم ولا العكس ولا بالمطابقة عن التضمن ولا الالتزام ولا العكس وأمثال ذلك
فاذا اجتمعت هذه الشرائط وعلم اجتماعها فهو محل الاختلاف الشديد في الرواية بالمعنى فمنهم من أجاز الرواية بالمعنى للضرورة ومنهم من منعها خوفا من المفسدة ومنهم من فصل فقال أن كان اللفظ النبوي محفوظا لم يجز سواه ومنهم من عكس وقال إن كان محفوظا جاز لأن معنى اللفظ المحفوظ معروف يتمكن من تبديله بمثله ومعنى اللفظ المنسي غير معروف إلى غير ذلك من الأقوال
ولولا ضرورة الترجمة للعجم ما شك منصف أن الأولى منع هذا سدا للذريعة إلى تحريف المعاني النبوية لأن كل أحد حسن الظن بنفسه وقد يظن بل يقطع أن المعنى واحد وليس كذلك يوضحه أن الدليل على أن المعنى واحد ليس الا عدم الوجدان لمعنى آخر لجواز الاشتراك أو لتجوز وهذا دليل ظني والظن هنا غير مفيد
فثبت أنه لا يجوز إلا للضرورة المجمع عليها كالترجمة للعجمي ولذلك كان بيان الموقوف على الصحابي من المرفوع إلى النبي واجبا ولم يحل رفع الموقوف الذي لا مجال للعقل في معرفته وإن جاز العمل به لحسن الظن بالصحابي فلا يحل رفعه وثبت عن ابن مسعود أنه كان إذا قال قال رسول الله استقبلته الرعدة وقال هكذا إن شاء تعالى أو أو ذكره الذهبي في ترجمته من التذكرة وسمى أبو بكر رضي الله عنه تفسيره للكلالة رأيا لأجل هذا رواه البغوي في تفسيره وغيره وإلا فما فسرها إلا بمقتضى اللغة العربية
فان قلت لابد من العمل بدلالة التضمن والالتزام فكيف منعت منهما
قلت لم أمنع من العمل بهما في العمليات الظنيات وإنما منعت من أمرين أحدهما تبديل المطابقة بهما فكما أنه لا يجوز لك أن تقول أن الله حرم عظام الخنزير وشعره أعني لا يجوز أن تنسب ذلك إلى قول الله ونصه (1/135)


بدلالة التضمن وهي أن هذه الأشياء بعض الخنزير الذي حرمه الله تعالى وهو متضمن لها وان كان لك أن تذهب إلى ذلك وتعمل فيه بمقتضى ما تضمنه على أن المنصوص من تحريمه هو لحمه لا جملته وثانيهما العمل بالتضمن والالتزام في الاعتقاد القاطع لأنهما غير قاطعين ولا ضرورة اليهما فيه ولخوف الفتنة وفتح أبواب الاختلاف والتفرق المنهي عنه
وقد روى البخاري ومسلم والنسائي حديث ابن عمران الجوني عن النبي اقرأوا القرآن ما أئتلفت عليه قلوبكم فاذا اختلفتم فقوموا عنه وشواهده كثيرة فهذا في القرآن المأمور بالاعتصام به كيف بما سواه
الامر الثاني مما يدل على جواز الخطأ على أهل العلم في الفهم والتعبير أنه اشتد اختلاف فطنائهم وأذكيائهم في تعريف الامور الظاهرة بالحدود الجامعة المانعة وقد تسمى الحقائق فانه قد علم شدة اختلافهم في ذلك وقدح بعضهم على بعض وعلم اجتهادهم في تحريرها وندور الحد الذي لا يعترض مع أن كثيرا من الامور التي يتعرضون لحدها يكون جليا واضحا كالعلم والخبر وقد اشتد الخلاف في تحديدهما كما ذكره ابن الحاجب في مختصر المنتهى وشراح كتابه وغيرهم وكذلك يختلف المتكلمون والنحاة والفقهاء في نحو ذلك فثبت أن المعبرين عن المعانى كالرماة للاغراض يقل منهم المصيب ومن يفوز من الاجادة بنصيب
بل قد وضح في كتاب الله عز و جل اختلاف سليمان وداود عليهما السلام في الفهم كما مضى ونص موسى على أن أخاه هارون أفصح منه لسانا فاذا ثبت جواز الخطأ على العلماء في الفهم أولا ثم في التعبير عما فهموا ثانيا وكانوا قد اختلفوا في كثير من القرآن والسنة وعبر كل منهم بعبارة محدثة مبتدعة وقد رأيناهم متباعدي الفهم والاجادة في التعبير عن الجليات كالعلم والخبر مع جمع الخواطر على تنقيح العبارة في الحدود وحذف الفضلات واجتناب المجاز وقصد صحة الجمع لأوصاف المحدود والمنع من دخول غيره فيه والعناية التامة في تحرير الحد على جميع شرائطه المعروفة والحذر من قدح الاذكياء فيه بأدنى أمر يلمحه فطنهم الوقادة وقرائحهم النقادة فمع هذا الاحتراز الكثير وقع الخلل الكبير في (1/136)


كثير من الجليات التي هي أفعالنا كالخبر أو صفاتنا الوجدانية كالعلم والوجود فكيف إذا وقع التعبير عن محارات العقول ومواقفها من أحكام القدم والقديم سبحانه ونعوت جلاله الاكبر الاعز الاعظم وسائر ما يتعلق به من الاسماء والاحكام ثم سائر دقائق الجواهر والاعراض وغوامض علم الكلام وما لم تعرف العقول منه إلا مجرد العبارات الرائعة والاشارات الغامضة في أسرار الاقدار والحكم الخفية وتأويل المتشابهات التي تفرد الرب سبحانه بعلمها على الصحيح والجمع بين المتعارضات والخوض في الممنوعات مثل كلامهم في الروح مع توقف النبي فيه ونزول القرآن بما يقتضي الكف عنه ورعا وأدبا وحياء من الله ورسوله حتى تجاسروا على تأويل الروح بغير دليل
ومنتهى الامر أن ما قالوه محتمل فمجرد الاحتمال لا يبيح الممنوع من غير يقين مع التساهل وعدم الاحتراز الذي ذكرناه في الحدود ومع اعتماد المجاز والاستعارات والتورية والاشارات في كثير من المواضع على أن الله تعالى قد حكى في كتابه من زجر الملائكة عن الخوض في بعض ذلك ما كان فيه كفاية وعبرة حيث تعرضوا عليهم السلام لمعرفة سر القدر في أمر واحد وهو خلق آدم وذريته بقولهم للملك العزيز العليم الحكيم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فقوبلوا من الخطاب بما لم يكن لهم في حساب حتى قيل لهم إن كنتم صادقين فيما خاطبهم به رب العالمين وأمرهم أن يكونوا لآدم ساجدين وكان إبليس بسبب تكبره عن ذلك من الكافرين وهذا كله بسبب خوضهم في السر الممنوع والامر المحجوب وكذلك موسى الكليم عليه أفضل الصلاة والتسليم وهو المقرب نجيا والوجيه عند الله نصا جليا لما تعرض لما ليس من شأنه من علم السر الذي هو تأويل المتشابه نزل إلى مقام السائل المحروم والمخطئ المكظوم وقطع على خطا الخضر عليهما السلام في موضع كان يجب عليه القطع فيه بتصويبه لما تقدم من أخبار الله تعالى له بأنه أعلم منه وسؤاله لقاءه وإجابته دعوته (1/137)

26 / 83
ع
En
A+
A-