في الثبوت عند الفتن والامتحان وقد ذكرت أمور كثيرة يقدح بها على المحدثين وأئمة المنقولات وقد ذكرتها والجواب عنها في المجلد الأول من العواصم واشتمل ذلك على فوائد ومعارف مهمة يحتاج اليها من يهتم بالمعارف المنقولة ولله الحمد وهذا آخر ما حصر من التحذير من الزيادة في الدين والكلام في بطلان ذلك وتحريمه وهو الامر الأول
وأما الأمر الثاني وهو النقص في الدين برد النصوص والظواهر ورد حقائقها إلى المجاز من غير طريق قاطعة تدل على ثبوت الموجب للتأويل إلا مجرد التقليد لبعض أهل الكلام في قواعد لم يتفقوا عليها أيضا وأفحش ذلك وأشهره مذهب القرامطة الباطنية في تأويل الاسماء الحسنى كلها أو نفيها عن الله على سبيل التنزيه له عنها وتحقيق التوحيد بذلك ودعوى أن اطلاقها عليه يقتضي التشبيه وقد غلوا في ذلك وبالغوا حتى قالوا أنه لا يقال أنه موجود ولا معدوم بل قالوا أنه لا يعبر عنه بالحروف وقد جعلوا تأويلها أن المراد بها كلها أمام الزمان عندهم وهو عندهم المسمى الله والمراد بلا إله إلا الله وقد تواتر هذا عنهم وأنا ممن وقف عليه فيما لا يحصى من كتبهم التي في أيديهم وخزائنهم ومعاقلهم التي دخلت عليهم عنوة أو فتحت بعد طول محاصرة وأخذ بعضها عليهم من بعض الطرقات وقد هربوا به ووجد بعضها في مواضع خفية قد أخفوه فيها فكما أن كل مسلم يعلم أن هذا كفر صريح وأنه ليس من التأويل المسمى بحذف المضاف المذكور في قوله تعالى واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها أي أهل القرية وأهل العير وإنما علم هذا كل مسلم تطول صحبته لأهل الاسلام وسماع أخبارهم والباطني الناشئ بين الباطنية لا يعلم مثل هذا فكذلك المحدث الذي قد طالت مطالعته للآثار قد يعلم في تأويل بعض المتكلمين مثل هذا العلم وإن كان المتكلم لبعده عن أخبار الرسول وأحواله وأحوال السلف قد بعد عن علم المحدث كما بعد الباطني عن علم المسلم فالمتكلم يرى أن التأويل ممكن بالنظر إلى وضع علماء الأدب في شروط المجاز وذلك صحيح ولكن مع المحدث (1/123)
من العلم الضروري بأن السلف ما تأولوا ذلك مثل ما مع المتكلم من العلم الضروري بأن السلف ما تأولوا الاسماء الحسنى بامام الزمان وان كان مجاز الحذف الذي تأولت به الباطنية صحيحا في اللغة عند الجميع لكن له موضع مخصوص وهم وضعوه في غير موضعه كذلك المتكلم في بعض أسماء الله الحسنى كالسميع والبصير والحكيم والرحمن والرحيم فانها من الاسماء الحسنى المعلوم ورودها في كتاب الله على سبيل التمدح بها والثناء العظيم ونص الله تعالى ورسوله على أنها ثناء على الله تعالى في حديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي وفيه فاذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى أثنى علي عبدي مع تكريرها في عهد النبوة والصحابة والتابعين لم يشعر أحد منهم في تلك الاعصار كلها بتقبيح شيء من ظواهرها ألا ترى أن الرحمن الرحيم ثابتان في السبع المثاني المعظمة متلوان في جميع الصلوات الخمس مجهور بهما في أكثرها في محافل المسلمين مجمعين على أنهما من أحسن الثناء على الله تعالى وأجمله وأفضله متقربين إلى الله بمدحه بذلك مظهر من أنه أحب الحمد اليه ولذلك كرر تكرارا كثيرا في كتاب الله سبحانه وفي بسم الله الرحمن الرحيم المكرر في أول كل سورة المتبرك به في أول كل عبادة وجمعا معا ومرجعهما إلى معنى واحد ولم يجمع اسمان في معنى واحد في موضع واحد قط كالغفار الغفور ونحو ذلك بخلاف الرحمن الرحيم فتأمل ذلك فهما الغرة والمقدمة في ممادح رب العزة في خطب المسلمين وجمعهم وجماعتهم وحوائجهم ومجامعهم ورسائلهم ومكاتباتهم وتصانيفهم وتصرفاتهم وكل أمر ذي بال كان منهم في مصادرهم ومواردهم وتضرعهم إلى ربهم ودعائهم وعند رقتهم وخضوعهم وجدهم واجتهادهم يلقنها سلف المسلمين خلفهم ويتلقنهما خلفهم عن سلفهم ويعلمهما الآباء أبناءهم ويتعلمهما الابناء من آبائهم ويتردد التشفي بذكرهما بين أصاغرهم وأكابرهم وبدوهم وحضرهم وخاصتهم وعامتهم وذكرانهم وإناثهم وبلدائهم وأذكيائهم فأي معلوم من الدين أبين من كونهما من ممادح الله تعالى وأشهر وأوضح وأظهر وأكثر استفاضة وشهرة وتواترا وعظمت الشناعة في إنكار حقيقتهما ومدحتهما حين وافق ذلك مذهب القرامطة ومذهب أسلافهم من المشركين في انكارهم الرحمن ونص القرآن على الرد عليهم (1/124)
في ذلك والصدع بالحق فيه حيث حكى عنهم قولهم وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا فقال عز من قائل الذي خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا وحيث قال وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو وحيث قال وهم بذكر الرحمن هم كافرون وعظم الله تعالى هذا الاسم الشريف وبالغ في تعظيمه حيث قال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الاسماء الحسنى وقال حاكيا عن خيار عباده هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وجاءت الصوادع القرآنية مادحة لله تعالى بأعظم صيغ المبالغات في هذه الصفة الشريفة الحميدة بأن الله عز و جل خير الراحمين وأرحم الراحمين وكرر هذه المبالغة في مواضع من كتابه الكريم الذي قال فيه إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وجاءت في كلام موسى وأيوب ويعقوب ويوسف عليهم السلام
وكرر الله تعالى التمدح بالرحمة مرارا جمة أكثر من خمسمائة مرة من كتابه الكريم منها باسمه الرحمن أكثر من مائة وستين مرة وباسمه الرحيم أكثر من مائتي مرة وجمعهما للتأكيد مائة وست عشرة مرة وأكد الرحيم فجمعه مرارا مع التواب ومرارا مع الرؤوف والرأفة أشد الرحمة ومرارا مع الغفور وهي أكثر عرفت منها سبعة وستين موضعا وأخبر أنه كتب على نفسه الرحمة مرتين وأنه لا عاصم من أمره إلا من رحم وأن من لم يرحمه يكن من الخاسرين ولا يزالون مختلفين إلا من رحم وإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم وأنه ذو رحمة واسعة إلى غير ذلك من صيغ المبالغات القاضية بأن ذلك من أحب الثناء والممادح والمحامد اليه عز و جل (1/125)
وبالغت الملائكة الكرام في ممادح الرب سبحانه بذلك فأوردت أبلغ صيغ المبالغات فقالت ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ومدح الله ذاته الكريمة بهذه الصيغة البليغة فقال ورحمتي وسعت كل شيء وفي كتاب سليمان عليه السلام الذي حكاه الله عنه في كتابه الكريم لشرفه العظيم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم وحكى الله نحو ذلك في كتابه الكريم عن إبراهيم ويعقوب وموسى وأيوب وصالح وعيسى ابن مريم عليهم السلام للدلالة على اتفاق الأديان النبوية الأولى والآخرة على مدح الله تعالى بذلك وخاطب الأنبياء عليهم السلام بذلك الجفاة الاجلاف من المشركين ونحوهم ممن لا يفهم دقائق الكلام الصارفة إلى مقاصد أهله فقال الخليل عليه السلام في خطاب أبيه يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا وقال هارون عليه السلام لعباد العجل ما ذكره الله عنه ومدحه به حيث قال ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وكتب ذلك سليمان إلى بلقيس وقومها وأمر الله تعالى في كتابه الكريم بالفرح برحمته والفرح بها فرع التصديق بها فقال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا وفي عطفها على فضله دلالة على المغايرة بينهما وذلك خلاف ما يقول من تأولها
وفي الصحاح من ذلك الكثير الطيب وما لا تتسع له هذه التذكرة المختصرة منه حديث سلمان وأبي هريرة وجندب وابن عباس وعبادة وأبي سعيد الخدري وابن حيدة وخلاس والحسن وابن سيرين في المائة الرحمة التي لله تعالى وإنها وسعت الخلائق منها رحمة واحدة وأن هذه الرحمة التي يتراحم بها الخلائق والسباع والدواب البرية والبحرية هي (1/126)
جزء من مائة جزء من رحمة الله وظهرت محبة الله تعالى للثناء عليه بهذه الصفة وما يشتق له منها من الاسماء الشريفة حتى كان أحب الاسماء اليه عبد الله وعبد الرحمن كما ثبت في الصحيح فكيف يقال أن ظاهرها نقص وذم وكفر وتشبيه وسب للملك الحميد المجيد الذي لا أحد أحب اليه الحمد والمدح منه ولا أعرف بما يليق بجلاله منه ثم من رسله ولا يحصى عليه ثناء هو كما أثنى على نفسه لأهليته لذلك ولذلك مدح نفسه وعلمنا مدحه ودعانا اليه وأثابنا عليه فكيف يفتتح كتبه الكريمة ويشحنها بما ظاهره السب والذم والكفر والتشبيه وبما نسبته اليه كنسبة الارادة إلى الجدار والجناح إلى الذل بل أشد بعدا من ذلك فان الجدار لا يذم بالارادة والذل لا يذم بالجناح فصار لا يوجد لذلك مثال لأنه يستلزم استعارة اسم الذم لارادة المدح كما لو مدحت بالظلم الملك العادل وبالنقص الرجل الكامل مجازا ونحو ذلك
مما لا يحسن في البلاغة بل لا يصح في اللغة ولا يوجد في كلام العامة والعجم
وقد أجمع المسلمون على حسن اطلاق الرحمة على الله من غير قرينة تشعر بالتأويل ولا توقف على عبارة التنزيل ولو كان ظاهرها القبح والذم والانتقاص لله عز و جل لم يحسن ذلك من العباد وان ورد في كلام الله أقر في موضعه على قواعد علماء الكلام على أن فطر العقول تعرف رحمة الله تعالى وسعة علمه وكمال قدرته فان العلم بضعف العباد مع تمام القدرة والممادح والمحامد وعدم المعارض يستلزم الرحمة عقلا أيضا فهي من المحكمات لامن المتشابهات على أن الله سبحانه أعلم وأحكم وأجل وأعظم وأعز في كبريائه عن أن يتخير ما ظاهره الانتقاص والذم غرة شادخة لاسمائه الحسنى مقدمة في مثاني كتابه العظمى وهو الذي بلغ كلامه أعلى درجات الاعجاز في البلاغة التي هي البلوغ إلى المراد المقصود بأوضح العبارات وأجزلها وأبينها وأجملها
وأيضا فقد ثبت أن الرحمن مختص بالله تعالى وحده ويحرم إطلاقه على غيره ولو كانت الرحمة له مجازا ولغيره حقيقة كان العكس أوجب وأولى وما المانع للمسلم من اثباتها صفة حمد ومدح وثناء كما علمنا ربنا مع نفي (1/127)