العقل على صحته لبطلا معا أيضا لأن العقل قد كان حكم بصحة السمع وأنه لا يبطل فحين بطل السمع علمنا ببطلانه بطلان الاحكام العقلية وممن ذكر ذلك ابن تيمية وابن دقيق العيد والزركشي في شرح جمع الجوامع
الصورة الثانية أن يتيقن المتكلم بعض الأدلة العقلية حتى لا يشك في صحتها وهي كذلك ثم يعتقد لتقصيره في علم السمع أن السمع ورد بنقيض ذلك الأمر المعلوم عنده فيقع في الكفر الصريح كابن الراوندي وسائر من صرح بالردة لذلك ومن هؤلاء بعض الفلاسفة وأكثر البراهمة أعني أن بعضهم كفر من هذه الجهة وبعضهم كفر من جهة أخرى وذلك أن هؤلاء اجتمعت كلمتهم على أن عذاب الآخرة خال عن المصلحة والحكمة وأن ذلك لا يجوز على مختار عليم حكيم فقولهم أن التعذيب لغير حكمة لا يجوز على المختار العليم الحكيم حق وصواب لكنهم قصروا في علم السمع فظنوا أنه ورد بأن ذلك العذاب خال عن الحكمة ودعوى هذا على السمع باطلة وقد جود ابن تيمية غاليا في الرد عليهم على التفصيل كما هو مبسوط في حادي الارواح وأشار إلى مثل قولة الغزالي في المقصد الاسنى في شرح الرحمن الرحيم منه ولم يصرح وجعل ذلك من الاسرار التي لا تفشى وسيأتي طرف من ذلك وبيان المختار منه في مسألة اثبات الحكمة قريبا إن شاء الله تعالى
الصورة الثالثة قوم أسرفوا في التقصير في علم السمع تارة في طلب معرفة نصوصه وألفاظه وطرق صحتها وتارة في معانيها وتارة في كيفية الجمع بين المتعارض فيقدمون العموم على الخصوص والظواهر على النصوص ونحو ذلك حتى ظنوا في بعض الأمور أن السمع ورد به ورودا ضروريا أو قطعيا ولم يرد به السمع أصلا لا ضرورة ولا قطعا ولا ظنا ثم عارضته أدلة كثيرة جلية عقلية أو سمعية أو كلاهما كالنواصب والروافض وكثير من الوعيدية والمبالغين في التكفير والتفسيق والتقنيط والتبري من كثير من أهل الاسلام والمبتدعة الذين لهم ذنوب وهفوات لا تخرج عن الاسلام
ومن ذلك خبط كثير من الناس في مسألة القرآن وتكفير كل منهم لمن خالفه بغير برهان حتى اعتقد بعض المحدثين قدم التلاوة وجحد حدوث (1/118)


صوت التالي مع اعترافه بحدوث التالي وحدوث لسانه ووجودهما قبل التلاوة وقد قال الغزالي إن هذا ما درى ما القديم وقال البيهقي أن من عرف معنى هذا رجع عنه وإنما كانت هفوة ممن لم يتعقل هذا وحتى قال الشيخ أبو علي الجبائي أن الله تعالى يتكلم مع التالي وأن الصوت كامن في الحروف في المصاحف وكل ذلك لاعتقادهم أن السمع ورد بان كلام الله هو المسموع في المحاريب المكتوب في المصاحف وان منكر هذا كافر
وما قالوه من أن ذلك كلام الله في الجملة حق ولكن لابد من الفرق بين التلاوة والمتلو والحكاية والمحكى وهو فرق ضروري فان المتلو المحكي كلام الله بغير شك والتلاوة والحكاية فعل لنا مقدور اختياري بغير شك ولا شك أن ما هو مقدور لنا واقع باختيارنا غير المعجز الذي لم يقدر عليه أحد فالشيخ أبو علي خاف ما خاف أهل الأثر في المرتبة الأولى من الكفر في مخالفة السمع فتكلف مخالفة المعقول في كمون الصوت في الحروف المكتوبة وفي احداث صوت من الله مع صوت كل قارئ حتى يكون السامع لكل قارئ سامعا لكلام الله على الحقيقة كما سمعه موسى عليه السلام كل هذا حتى لا يخالف الاجماع والنص حيث قال الله تعالى فأجره حتى يسمع كلام الله فأي حرج على أهل الأثر إذا تابعوا سائر السمع وخالفوا من المعقولات ما هو أدق من المعقول الذي خالفه أبو علي في هذه المذاهب التي لولا رواها عنه أصحابه لعدت من تشنيع الاعداء عليه
وأما أولئك المحدثون فلم يفرقوا بين إنكار السلف كون القرآن مخلوقا وبين كونه قديما فظنوا ما ظن أبو علي من الاجماع من السلف على قدمه وسوف يأتي الفرق بينهما في بابه وأما الروافض والنواصب والخوارج وغلاة الوعيدية فظنوا أن السمع ورد بعقائدهم فجحدوا كل ما خالف ذلك مما لم يعلموه وتأولوا ما علموه ففحش جهلهم حيث قدموا الاكاذيب المعلوم عند أهل السمع بطلانها على المتواترات وهؤلاء لا دواء لهم لأن اعتقادهم تقليد محض لاسلافهم وهو غير منكشف لهم إلا بان يشكوا فيه ويقبلوا على تعلم السمع وقراءة كتب الرجال والتواريخ والمساند حتى (1/119)


يكونوا من أئمة السمع وينكشف لهم جهل أسلافهم أو عنادهم وهم غير ملتفتين إلى شيء من هذا بل هم في غاية العجب بعلمهم واتقانهم وغاية السخرية بخصومهم فهم أفحش الاقسام الاربعة المشهورة وهم من الذين لا يدرون أنهم لا يدرون
وقد رأيت لبعض حذاق الباطنية في كتاب الملل والنحل القدح في الاخبار بذلك فانه لم يفرق بين التواتر الحق ودعوى التواتر فقال أما التمسك بالاخبار فانه متعارض لأن كل طائفة قد تواتر لهم ما هم عليه عن أسلافهم الذين يثقون بهم ولم يعلم المغفل أن هذا مثل دعوى اليهود لقول موسى عليه السلام تمسكوا بالسبت أبدا ودعوى تواتر ذلك عنه وأنه لا فرق بين تلك الدعوى وبين ما صح عن نبينا محمد أنه لا نبي بعدي وأنه خاتم الأنبياء وكم بين تواتر صفات الكمال في رسول الله وتواتر معجزاته وفضائله للعارفين وبين تلقي صبيان اليهود لما يعارض ذلك كله عن آبائهم القوم البهت وهل يقول مميزان الامرين في التواتر سواء فجهال هذه الصورة مثل صبيان اليهود حين نشؤا على ظن السوء برسول الله وأنه لا دواء لهم إلا أن يتركوا تقليد آبائهم في ذلك الظن السيء ويطالعوا كتب الاسلام التي فيها سيرته وأخلاقه ومعجزاته وسائر مناقبه والتواتر مما لا يمكن تعريف الجاهل به ألبتة
ولذلك يقول العلماء في ذلك أنه معلوم لمن طالع كتب الاخبار وإلا فكل مبطل معتقد لصحة باطله ولولا الفرق بين الاعتقادات الباطلة والعلوم الصحيحة ما تميز كفر من اسلام ولا شرك من توحيد ولا عالم من جاهل فالعلم الحق ما جمع الجزم والمطابقة والثبات عند التشكيك فالظنون تلتبس بالعلوم الجازمة عند كثير من العامة والاعتقادات الباطلة وإن كانت جازمة في نفوس أهلها فهي غير مطابقة في الخارج واعتقادات عوام المسلمين وإن كانت جازمة في نفوسهم مطابقة للحق فانها لا تثبت في نفوسهم عند التشكيك والعلم الحق هو ما جمع هذه الأوصاف الثلاثة والله سبحانه قد خص بالهداية له من علم منه القبول والانصاف والاهلية لذلك كما قال في إبراهيم عليه السلام وكنا به عالمين وقال معاذ إن العلم والإيمان (1/120)


مكانهما من طلبهما وجدهما فاطلبوا ذلك من حيث طلبه إبراهيم حيث قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقد تقدم الارشاد إلى طريق الظفر بالحق في هذه المقدمة من هذا المختصر
الصورة الرابعة طائفة من أهل السمع أتقنوا علم السمع وعلموا منه بعض القواعد علما صحيحا وتواتر لهم ما لم يتواتر لغيرهم لشدة بحثهم وقطعهم أعمارهم في ذلك ثم نازعهم في ذلك جماعة من علماء المعقولات المقصرين في علم السمع كبعض المعتزلة خصوصا المتأخرين في نفي الشفاعة للموحدين ونفي الرجاء للمذنبين منهم وإيجابب خلودهم في النار مع المشركين فظن أولئك الذين أتقنوا ما علموا من السمع أن العلوم العقلية هي المعارضة لما عرفوه من السمع الحق في ذلك لشبهة أن المعارضين لهم فيه يدعون التحقيق في المعقولات فيعادون علم المعقول ومن خاض فيه حتى من أهل السنة وظنوا أن الاصغاء اليه والنظر فيه يستلزم البدعة من غير بد ولو نظروا بعين التحقيق لعلموا أن خصومهم في هذه المسألة إنما أتوا من التقصير في علم السمع وإقلال البحث عنه وما شابوا به جدا لهم من المعقولات فانما ادعوا فيه على العقل ما هو بريء منه كما يدعون على العقل تقبيح خطاب الله لنا بالعموم المخصوص في العقائد من غير بيان مقترن به ولم يعلموا أنه يرد عليهم هذا بعينه في عمومات الوعد كعمومات الوعيد فلو حرم تخصيص الوعيد بالأدلة المنفصلة عنه لحرم تخصيص الوعد كذلك بل أولى وأحرى وحينئذ يحصل بطلان مقصودهم
فان قالوا في عمومات الوعد يمكن أن تخصيصها قد كان تقدمها وعلم
قلنا وكذلك يمكن في عمومات الوعيد فان قالوا في تخصيص الوعيد أنه ظني قلنا صدقتم أنه ظني عندكم لكن قد علم غيركم ما لم تعلموه من تواتره كما أوضحته في العواصم ولئن سلمنا أنه ظني فان حكم الظني أن لا يقطع بصدقه ولا كذبه لا أنه يقطع يكذبه لأنه لا طريق إلى ذلك وأنتم لم تتوقفوا في صدقه بل قطعتم بكذبه وهذا هو القطع بغير تقدير والخبط الذي ليس من العلم العقلي في قبيل ولا دبير (1/121)


واعلم أنه لا يكاد يسلم من هذه الاغلاط إلا أحد رجلين إما رجل ترك البدعة كلها والتمذهب والتقاليد والاعتزاء إلى المذاهب والأخذ من التعصب بنصيب وبقي مع الكتاب والسنة كرجل نشأ قبل حدوث المذاهب ولم يعبر عن الكتاب والسنة بعبارة منه مبتدعة واستعان الله وأنصف ووقف في مواضع التعارض والاشتباه ولم يدع علم ما لم يعلم ولا تكلف ما لا يحسن وهذا هو مسلك البخاري وأئمة السنة غالبا في ترجمة تصدير الأبواب وفي العقائد بالآيت القرآنية والاخبار النبوية كما صنع في أبواب القدر وكتاب التوحيد والرد على الجهمية وأبواب المشيئة ورجل أتقن العلمين العقلي والسمعي وكان من أئمتهما معا بحيث يرجع اليه أئمتهما في وقائعهما ومشكلاتهما مع حسن قصد وورع وانصاف ونحر للحق فهذا لا تخلف عنه هداية الله واعانته وأما من عادى أحد هذين العلمين وعادى أهله ولم يكن على الصفة الأولى من لزوم ما يعرف وترك ما لا يعرف فانه لابد أن تدخل عليه البدع والاغلاط والشناعات
ومن أنواع الزيادة في الدين الكذب فيه عمدا وهذا الفن يضر من لم يكن من أئمة الحديث والسير والتواريخ ولا يتوقف على نقدهم فيه بحيث لا يفرق بين ما يتواتر عند أهل التحقيق وبين ما يزوره غيرهم وليس له دواء إلا اتقان هذا الفن والرسوخ فيه وعدم المعارضة لأهله بمجرد الدعاوى الفارغة وهو علم صعب يحتاج إلى طول المدة ومعرفة علوم الحديث وعدم العجلة بالدعوى وإن كان جليا في معناه فان الرسوخ فيه بعيد عن حصول العلم الضروري بأحوال رسول الله وأحوال السلف بحيث يعلم دينهم بالضرورة مثل ما يعلم مذهب المعتزلة والأشعرية كذلك يطول البحث في علم الكلام ويعلم ما يختلفون فيه وما لا يختلفون فيه وما يمكن القدح فيه من المنقولات المشهورة وما لا يمكن من غير تقليد ولا أقل من معرفة مثل علوم الحديث للحاكم في ذلك وهذا عندي هو الفائدة العظمى في الرسوخ في علم الحديث وليس الفائدة العظمى فيه معرفة أحاديث الاحكام في فروع الحلال والحرام كما يظن ذلك من يقتصر على قراءة بعض المختصرات في ذلك ويكتفي به في هذا العلم الجليل ولأمر ما كان أئمة الحديث الراسخون أركان الايمان (1/122)

23 / 83
ع
En
A+
A-