ومن أشهر ما لهم في ذلك خمس قواعد أحدها أن الجسمية أمر ثبوتي مشترك بين الأجسام زائد عليها وثانيها تماثل الأجسام وجواهرها وثالثها أن كون المتحيز في المكان أمر ثبوتي زائد عليه لا وصف عدمي وسواء كان حركة أو سكونا أو اجتماعا أو افتراقا ويسمونه دليل الاكوان ورابعها قياس واجب الوجود عز و جل على ممكن الوجود في أشياء كثيرة مثل قول الملاحدة نفاة الاسماء الحسنى أن كونه تعالى على صفة دون أخرى يقتضي أن يجري مجرى الممكنات الحادثات التي تحتاج في مثل ذلك إلى تخصيص مخصص وقد أوضحت ما أورد بعضهم على بعض من الاشكالات الصعبة في ذلك في مسألة الرؤية من العواصم وربما نقلته مفردا في موضعه من هذا المختصر لينظر فيه من يفهمه إن شاء الله تعالى وخامسها أن كل موجود في الخلاء العدمي حتى الظلمة والنور فانه جسم أو حال فيه محتاج اليه
وخالفهم في القاعدة الأولى أكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على ما نقله ابن تيمية فقالوا أن الماهية المشتركة المعروفة بالمجردات لا وجود لها ألبتة إلا في الاذهان ولم يقم على وجودها برهان في الخارج كما بسط في موضعه
وخالفهم في الثانية الرازي والشيخ أبو القاسم البلخي الكعبي وأصحابه معتزلة بغداد
وخالفهم في الثالث الشيخ أبو الحسين البصري وخلق كثير ذكرهم الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى وخالف أهل القاعدة الرابعة جمهور أهل الاسلام
وخالفهم في الخامسة أهل اللغة وأهل الأثر وبعض أهل الكلام والمعقولات والسلف الصالح من الصحابة والتابعين ظاهرا لا رواية ومستند الظهور نقل أهل اللغة وهم من أهلها بلا ريب
وخالفهم في القواعد الخمس كلها جميع أهل الآثار وسلفهم من الصحابة والتابعين ظاهرا مع من ذكرنا معهم من ذلك من أهل المعقولات والمتكلمين كما بسط في مواضعه والحمد لله (1/113)
ومما اختلفوا فيه هل يجب بناء الدليل على الضرورة فيما انتهى اليه النظر أو على سكون النفس فعند المنطقيين وأبي الحسين من المعتزلة وأكثر المحققين أنه لابد من الانتهاء إلى الضرورة وإلا أدى إلى التسلسل أو التحكم وعند جمهور المعتزلة أنه يكفي أن ينتهي إلى سكون النفس ويرد عليهم سكون نفوس المبطلين ببواطلهم وهذا ما عارض والقصد بذكره بيان أن كون الدليل العقلي قاطعا من المواضع الدقيقة التي اختلف فيها أهل الدعوى للذكاء والكمال في التدقيق فيجوز أن يقع الخطأ على المحقق في مثل هذا وينبغي أن يحذره المنصف فان كثيرا من أهل العقول يقصر في هذا الموضع فيظن في بعض العقليات أن دليله قاطع وليس بقاطع في نفس الامر ثم يعارضه السمع فيرى في نفسه أن التأويل يتطرق إلى السمع لاحتمال اللفظ اللغوي له دون الادلة العقلية القاطعة في ظنه وزعمه أنها قاطعة ولا يدري أن قطعه بأنها قاطعة قطع بغير تقرير ولا هدى ولا كتاب منير وانه مقام صعب خطير وأنه بطول النظر والمراجعة فيه جدير ولو لم يكن في ذلك عبرة للمعتبرين إلا ما جرى لموسى الكليم عليه أفضل الصلوات والتسليم حيث قطع بالنظر العقلي على قبح ما فعله الخضر عليه السلام فانكشف له خلاف ما قطع عليه وكذلك نوح عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قطع على أن ولده من أهله فبان له خلاف ذلك فاذا كان هذا في حق أرفع البشر مرتبة فمن الناس بعدهم فليتفطن طالب النجاة لذلك وليحذر أشد الحذر
وقد أشار إلى ذلك ابن عبد السلام في قواعده في حقوق القلوب وما يجب من معرفة الله وتقرير العامة على ما علم أنهم لم ينفكوا عنه لدقة الأمر المانع مما هم عليه وصعوبة معرفته عليهم وذلك كغلاة الاشعرية في نفي حكمة الله تعالى وتقبيح اسم الحكيم في الظاهر وإيجاب تأويله بالمحكم لصنعه من غير حكمة له في ذلك الاحكام وغلاة المعتزلة في نفي السميع البصير والمريد وتقبيحها في الظاهر وإيجاب تأويلها بالعليم لا سواه وذلك يضعف في مثل يريد الله بكم اليسر وقول الخليل لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (1/114)
وكذلك الجميع من الاشعرية والمعتزلة في نفي حقيقة الرحمن الرحيم وما في معناهما من الرؤوف والودود وأرحم الراحمين وحكمهم بأنها أسماء قبيحة الظواهر في حق الله تعالى وأنها لا تليق بجلاله إلا بصرفها عن ظواهرها وتعطيلها عن حقائقها إلى المجاز المحض وأن نسبة الرحمة إلى الله سبحانه كنسبة إرادة الانقضاض إلى الجدار والجناح إلى الذل وكل ذلك بمجرد ظن أن الدلالة العقلية القاطعة دلت على ذلك وستأتي الاشارة إلى تلك الأدلة وما يرد عليها على قواعد أئمة المعقولات على حسب هذا المختصر مع الارشاد إلى مواضع البسط
فأما لوازم رحمة المخلوقين المستلزمة للنقص فواجب تنزيه الله تعالى عنها قطعا وفاقا كلوازم علمهم وارادتهم ونحو ذلك كما سيأتي تحقيقه
ومن مظان بطلان ذلك النظر في كيفية بعض صفات الله تعالى اللائقة به بل الواجبة له على التفصيل المؤدي إلى القطع بتسمية تلك الصفات معاني وإلى القطع بالفرق بينهما وإلى القطع بأن ذات الله تعالى لا يصح وجود المعاني فيها ومجموع ذلك هو الذي اضطر البهاشمة إلى أنه تعالى مريد بارادة حادثة لا فيه ولا في غيره ولا يحتاج في خلقها إلى ارادة والحازم يوازن بين الممتنعات فيرد أشدها امتناعا في الفطر ولعل وجود العرض لا في محل بل لا في العالم ولا خارجه وتأثيره لمن لم يوجد فيه أبعد مما فروا منه
وقد جود ابن تيمية وغيره من أئمة العلم الجامعين بين التحقيق في هذين العلمين العقلي والسمعي الكلام في ذلك وفي المختصرات من ذلك ما يكفي المقتصد وأما من أراد الغاية في البحث فلا تكفيه المختصرات ولا النظر في كتب بعض الخصوم بل يحتاج إلى النظر في الكتب البسيطة للمعتزلة والاشعرية ومتكلمي أهل السنة وكتبهم أقل الكتب وجودا (1/115)
ومن مشاهيرها منهاج السنة النبوية لابن تيمية على ما قيل ولم أقف عليه وفي هذه الصورة يتكلف المتكلمون كلهم التأويلات البعيدة تارة لما يمكن تأويله لو دل دليل قاطع على امتناع ظاهره ولكن لا قاطع محقق إلا مجرد دعوى وتارة لما لا يمكن تأويله إلا بتعسف شابه تأويل القرامطة وربما استلزم بعض التأويلات مخالفة الضرورة الدينية وهم لا يعلمون ولا يؤمن الكفر في هذا المقام في معلوم الله تعالى وأحكام الآخرة وإن لم نعلمه نحن وتوقفنا لشبهة التأويل وعدم علمنا بعلمهم بما أنكروه فانه لا يؤمن في حكم الله والله المستعان
فسبب الاختلاف في هذه الصورة وما يتركب عليها وهو معظم التأويل هو الاختلاف في أن الأدلة العقلية الموجبة للتأويل عند المتأولين قطعية أم لا أما من علم بطلان القطع إما بالعقل أو بالسمع القاطع أو بهما معا فعليه البيان لذلك فاذا سطع الحق وجب اتباعه من أي الجانبين كان
وأما من لم يعلم ذلك لكن علم أن أذكياء العقلاء ما زالوا يغلطون في اعتقاد القطع في مثل هذه الدقائق وان خوضه فيها أشبه شيء بركوب البحر عند هيجه واضطرابه وان الجميع قد انعقد اجماعهم على أن مخالفة العقل إذا تجرد عن السمع ليست بكفر ولا فسق وإن كان فيها مخالفة ضرورة العقل فان من اعتقد في حنظلة مرة أنها حلو يكون قد خالف ضرورة العقل ولا يكفر بل ولا يفسق لقول النبي أن كذبا علي ليس ككذب على غيري أنه من يكذب علي يلج النار وإنما هذا كاذب على نفسه ولم يكذب على الله ولا رسوله فكيف من قال بغير الحق في دقائق الكلام متأولا
وكذلك انعقد إجماعهم على أن مخالفة السمع الضروري كفر وخروج عن الاسلام وأن ذلك لا يؤمن في القول بأن الرحمن الرحيم الحكيم السميع البصير ليست بأسماء مدح الله تعالى بل أسماء ذم قبيحة يجب تأويلها وتحذير عوام المسلمين من الاغترار باطلاقها وأنها ليست أسماء حسنى لأن الحسنى جمع الاحسن لا جمع الحسن وهذه لم تدخل في الحسن كيف في أحسن الحسن فان عامة أهل الاثر رجحوا الاعتقاد الاسلم على الاعلم لأن المتكلمين قد اعترفوا بأن طريقة السلف أسلم لكن ادعوا أن طريقهم أعلم (1/116)
ووجه الترجيح عندهم أنهم علموا من كثرة نصوص الكتاب والسنة في هذه الأسماء أنها على جهة التمدح كما يأتي في موضعه وظهور ذلك في عصر النبوة والصحابة والتابعين من غير تحذير لأحد من الاغترار بظاهرها مع اعتقاد الجميع أن الله ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته يقتضي عادة العلم الضروري بأنها أسماء مدح وأنها من الاسماء الحسنى التي لا قبح فيها وخافوا الكفر في مخالفة هذا العلم
وأما الادلة الموجبة للتأويل فسوف يأتي البيان الواضح أنها قد انتهت إلى غاية الدقة ووردت عليها الشكوك الصعبة حتى اختلف في صحتها أئمة المعقول فمخالفة الحق فيها على جهة التأويل لا يكون كفرا ولا فسقا على جميع قواعد العقلاء قالوا ولا شك أن الفوز بالامان من الكفر الموجب الخلود في النار أرجح من الفوز بالظفر بالحق في دقائق الجواهر والاعراض كما نص عليه المؤيد بالله في الزيادات من أئمة العترة وغيره منهم عليهم السلام فشد على هذه يديك ولا تغفل النظر فيها
فان قلت فما يعتقد أهل الاثر في رحمة الله وهل يجوزون أنها رحمة مثل رحمة المخلوقين
قلت كلا فان رحمة المخلوقين ممتزجة بجهلهم وعجزهم فيدخلها الحسرة والاسف والبكاء والاماني الباطلة فتغلبهم فتصرفهم عن العدل والحق وقد أجمعنا على أن العليم القدير محكمان لا يجب تأويلهما ولو قال قائل أنهما في حق الله مثلها فينا لكان كافرا بالاجماع فاذا وجب نفي التشبيه في المحكمات بالاجماع فكيف لا ننفيه في غيرها وسيأتي إيضاح ذلك وإنما بسطت القول هنا لأن أكثر التأويل يدور على هذه الصورة
فان قيل تقديم العقل على السمع أولى عند التعارض لأن السمع علم بالعقل فهو أصله ولو بطل العقل بطل السمع والعقل معا وهذه من قواعد المتكلمين
قلنا قد اعترضهم في ذلك المحققون بأن العلوم يستحيل تعارضها في العقل والسمع فتعارضها تقدير محال فانه لو بطل السمع أيضا بعد أن دل (1/117)