وذكر الشيخ مختار في المجتبى في المسألة السادسة من خاتمة أبواب العدل ما لفظه اعلم أن شيوخ المعتزلة إلى زمن الشيخ أبي هاشم لم ينصوا على اثبات الصفات ولا على نفيها إلى أن صرح باثباتها أبو هاشم وصرح بنفيها أبو علي وأبو القاسم البلخي والاخشيد وأبو الحسين قلت وقد علم تعظيم خلفهم لسلفهم وعلم أن الاقتداء بسلفهم خير من الاقتداء بخلفهم بالنص في خير القرون ان ادعوا منهم أحدا وباقرارهم هذا لو اجتمع خلفهم على أمر وأما مع اختلاف خلفهم واجتماع سلفهم على ترك الخوض فيما خاض فيه خلفهم فأدى خوضهم فيه إلى الاختلاف والتأثيم فلا يشك منصف أن الاقتداء بسلفهم أرجح فان نفاة الصفات ألزموا المثبتين تركيب الذات وما يترتب عليه بل ألزموهم ذلك في مجرد قولهم أن الوجود غير الموجود ومن أثبت الصفات ألزم النفاة تعطيل الاسماء الحسنى ومخالفة الاجماع فلزم التمسك بما اعترفوا بأن السلف كانوا مجتمعين عليه سلفهم وسلف سائر الفرق الاسلامية وترك ما اختلفوا فيه ويسعنا ما وسع السلف الصالح للاجماع على صلاحهم
فاذا عرفت هذا في الجملة فلنعد إلى ذكر الدليل الثاني على بطلان هذين الامرين المضلين للاكثرين وهما الزيادة والنقصان في الدين ثم نتبع ذلك زيادة بيان في المنع من التصرف في الكتاب والسنة بدعوى التعبير عنهما وترك عباراتهما فنقول
أما الأمر الأول وهو الزيادة في الدين فسببه تجويز خلو كتب الله تعالى وسنن رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام عن بيان بعض مهمات الدين اكتفاء بدرك العقول لها ولو بالنظر الدقيق ليكون ثبوتها بعد رسول الله النظر العقلي هذا مذهب أهل الكلام ومذهب أهل الأثر أنه ممنوع والدليل على منعه وجوه
الوجه الأول قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فاذا قلنا بوجوب ما أوجبه (1/103)


أهل الكلام لزم أنه بقي أهل الدين وأوجبه من تقرير القواعد التي يجب بها تأويل السمع وبيان التأويل على التفصيل في آيات الصفات وكثير من الاسماء الحسنى كالرحمن الرحيم الحكيم وما يؤدي إلى التفرق المنصوص على تحريمه لأنه خوض في دقائق يستحيل اتفاق الأذكياء عليها بالعادات المستمرة فانها استمرت العوائد على اختلاف العقلاء متى خاضوا في نحو ذلك حتى الطائفة الواحدة ولذلك كانت المعتزلة عشر فوق وأهل السنة كذلك أو قريبا منه وكذلك سائر الفرق حتى قيل إن الاتفاق في الضروريات فاذا كان الاتفاق في الخفيات ممتنعا كالافتراق في الضروريات وقد ثبت تحريم الافتراق لزم من ذلك تحريم الخوض في الخفيات ما لم يدل على وجوبه دليل صحيح
الوجه الثاني أنه لا نزاع أنه لا يجوز اثبات العقول لزيادة في الشريعة لا يدكها العقل وإنما النزاع فيما تدركه العقول مثل نفي الولد عن الله تعالى ونفي الثاني لكن السمع دل على أنه لا يجوز خلو كتب الله تعالى عن بيان مثل ذلك قال الله تعالى في نفي الولد عنه جل جلاله قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي وقال سبحانه في نفي الثاني قل أرأيتم ما تدعون من دون الله إلى قوله تعالى ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين فهاتان الآيتان تدلان على أنه لا يجوز خلو كتب الله تعالى وسنن أنبيائه عن أمر كبير من مهمات الدين العقلية وكذلك قوله تعالى وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون فثبت أن ما خلت عنه كتب الله تعالى فليس من مهمات الدين وإن زيادته في الدين محرمة ألا ترى أن رسول الله حذر أمته من فتنة الرجال وعظمها وأخبر عن الأنبياء كلهم أنهم حذروا أممهم منها مع أن (1/104)


بطلان دعواه معلوم بالعقل لأنه يدعي الربوبية وهو بشر يحتاج إلى الأكل والشرب وينام ويعجز ويجهل ويمرض ويبول ويتغوط وينكح دع عنك كونه جسما مركبا من لحم ودم وعظام وعصب فلم يكلنا ربنا سبحانه وتعالى إلى معرفة عقولنا بحدوث ما كان على هذه الصفات واستحالة ربوبية الحادث بل زاد في البيان على لسان رسوله حتى أبان لنا أنه أعور وأنه مكتوب بين عينيه كافر يقرأه من يكتب ومن لا يكتب فلو كان يجوز عليه الاهمال لكان ذلك أحق ما يهمل لقوله في الاحاديث الصحيحة ما خفي عليكم من شيء فلا يخفى عليكم إن ربكم ليس بأعور لأنه قد تقرر أنه ليس كمثله شيء عقلا وسمعا فيجب أن لا يكون بشرا كاملا فكيف يكون بشرا ناقصا معيبا فدل الحديث على تأكيد ما دل القرآن عليه في الآيتين المتقدمتين
الوجه الثالث قوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولا معنى للارسال إلا البيان وإلا لصح أن يرسل الله تعالى رسولا أبكم غير ناطق وقد ورد القرآن بتقبيح ارسال الاعجمي إلى العربي لذلك في قوله تعالى أأعجمي وعربي بل نص الله تعالى على أنه أرسل كل رسول بلسان قومه ليتم لهم البيان
وقد أجمعت الامة على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فكل ما لم يبين من العقائد في عصر النبوة فلا حاجة إلى اعتقاده ولا الخوض فيه والجدال والمراد سواء كان إلى معرفته سبيل أو لا وسواء كان حقا أو لا وخصوصا متى أدى الخوض فيه إلى التفرق المنهي عنه فيكون في إيجابه إيجاب ما لم ينص على وجوبه وان أدى إلى المنصوص على تحريمه وهذا عين الفساد
قالت الخصوم العقل يكفي بيانا في العقليات فلا يجب البيان فيها من الشرع (1/105)


قلت إن أردتم الجليات التي لا يقع في مثلها التنازع أو لا يحتاج في الدين إلى معرفتها أو لا يحتاج البليد فيها إلى تفهيم الذكي أو الظنية التي لا إثم فيها على المخطئ فمسلم ولا يضر تسليمه ومن القسم الأول من هذا علم الحساب وإن دق بعضه فان طرقه معلومة الصحة عند الجميع ولذلك لم تمنع دقته من الوفاق فيه وكذلك كثير من علم الغربية والمعاني والبيان والبلاغة وإن أردتم القسم الآخر وهو ما يحتاج اليه في الدين ويكون مفروضا على جميع المسلمين من الخاصة والعامة أجمعين ويقع في مثله الخفاء والنزاع والاختلاف الكثير ويأثم المخطئ فيه ولا يسامح فغير مسلم لكم أن مثل هذا يوكل إلى عقول العقلاء وتترك الرسل بيانه لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فلم يكتف سبحانه بحجة العقل حتى ضم اليها حجة الرسالة مع أن معرفته سبحانه ونفي الشركاء عنه من أوضح المعارف العقلية ولذلك قالت الرسل فيما حكى الله عنهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض
وقد مر بيان ذلك في مقدمات هذا المختصر وفي هذه الآية وما في معناها من السمع حجة على أن ما لم يبينه الله تعالى سمعا لم يعذب المخطئ فيه إن شاء الله تعالى لكن يخشى على من خاض فيا لم يبينه الله أن يعذب على الابتداع وقد بين الله تحريمه وبيان تحريم ذلك في قوله ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا وبقوله تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لهم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون فنسأل الله السلامة
الوجه الرابع قوله تعالى في وصف القرآن تبيانا لكل شيء وقوله سبحانه ما فرطنا في الكتاب من شيء ولا شك أنه يدخل (1/106)


في ذلك بيان مهمات الدين الاعتقادية وإن كانت عقلية ويدخل فيه ما بنه النبي لقوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ولقوله تعالى في خطاب النبي لتبين للناس ما نزل إليهم فهذا بيان جملي ومنه قوله إني أوتيت القرآن ومثله معه الحديث
ومما يصلح الاستدلال به في هذا المقام قوله تعالى وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فلولا أن كتابها هو موضع الحجة عليها في أمور الدين ومهماته ما اختص بالدعاء اليه ونحوها قوله تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان فجعل الكتاب في بيان الدين وحفظه وتمييز الحق من الباطل كالميزان في بيان الحقوق الدنيوية وحفظها بل جعل الحق مختصا به بالنص والميزان معطوفا عليه بالمفهوم أي والميزان بالحق وقال بعد الامر بوفاء الكيل والوزن لا تكلف نفسا إلا وسعها لأنه يحتاج إلى المعاملة بالكيل والوزن وإن وقع التظالم الخفي في مقادير مثاقيل الذر أو أقل منه ولم يقل ذلك بعد الأمر بلزوم كتابه واتباع رسله لأنه لا حاجة ولا ضرورة إلى البدعة في الاعتقاد
وأما الفروع العملية فلما وقعت الضرورة إلى الخوض فيها بالظنون لم يكن فيها حرج بالنص والاجماع فتأمل ذلك فانه مفيد
ومن ذلك قوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول واتفق أهل الاسلام على أن المراد بالرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله ولو لم يكونا وافيين ببيان مهمات الدين ما أمرهم الله بالرجوع اليهما عند الاختلاف
الوجه الخامس في الدليل على منعه أيضا الاجماع على تحري البدعة في الدين وما زال الصحابة والتابعون لهم باحسان يحذرون من ذلك حتى (1/107)

20 / 83
ع
En
A+
A-