فهذا كلام سلاطين أئمة المعارف العقلية من فريقي الملة الإسلامية وسيأتي هذا مبسوطا في موضعه
فأما بعض الطلبة من أتباع أهل الكلام الذين قلدوا في تلك القواعد وهم يحسبون أنهم من المحققين فهم أبلد وأبعد من أن يعرفوا ما أوجب اعتراف هؤلاء الأئمة بالجهل والعجز وإنما هم بمنزلة من سمع أخبار الحروب والشجعان وهؤلاء الأئمة بمنزلة من مارس مقارعة الأبطال ومنازلة الأقران ولا يلزم من التزهيد في طلب ما لا يحصل والاشتغال بما يضر من علوم الفلاسفة والمبتدعة التزهيد في العلم النافع وسيأتي اشباع القول في عظم فضله والحث عليه بعد تقرير صحته والرد الشافي على من نفاه
ومن ها هنا أمر رسول الله وآله وسلم بالإقتصاد في الأمور وقال إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وهو الذي اختاره الله تعالى معلما للأميين ورحمة للعالمين وعلم بالضرورة لا بأخبار الآحاد إن ذلك كان خلقه ودينه عند العلماء النقاد فتعين حينئذ طلب الطريق القريبة الممكنة التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها كما نص على ذلك في كتابه الكريم وسنة رسوله عليه أفضل ولولا ما وقع فيها من التغيير لما احتاجت إلى طلب ولكنه قد وقع فيها التغيير كما أخبر بذلك رسول الله في الحديث المتفق على صحته عند أهل النقل وفيه تفسير الفطرة وتقريرها من المبلغ المبين لما أنزل عليه من الهدى والنور حيث قال كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه وفي ذلك يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في ممادح ربه سبحانه وتعالى التي أودعها خطبه في محافل المسلمين وأما العارفين وعلمها من حضره من خيار المؤمنين حيث قال في محامد رب العالمين لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته فهو الذي يشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود وقد جود في شرحه ونصرته العلامة ابن أبي الحديد وعزاه إلى قاضي القضاة وفرق بينه وبين قول الجاحظ فقال أنا ما ادعينا في هذا المقام إلا أن العلم بإثبات الصانع هو الضروري والجاحظ (1/14)


ادعى في جميع المعارف أنها ضرورية وأين أحد القولين من الآخر انتهى كلام الشيخ ويدل عليه قوله تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه وقوله الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه وقوله تعالى قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض ولذلك كان المختار في حقيقة النظر إنه تجريد القلب عن الغفلات لا ترتيب المقدمات كما ذكره الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى فتأمل ذلك
قلت وبيان هذه الجملة في أمرين أحدهما بيان المحتاج إليه من المعارف الإسلامية في الأصول وهي سبعة أمور كلها فطرية جلية كما يأتي وعليها مدار خلاف العالمين أجمعين وإنما تدرك بالفطرة قبل التغيير أو مع الشعور بذلك التغيير فإن مداواته بعد الشعور به سهلة وذلك لأن البصيرة في المعلومات كالبصر في المحسوسات كلاهما مخلوقان في الأصل على الكمال ما لم يغيرا فمتى وقع فيهما التغيير ولم يشعر به صاحبه فحش جهله وخطأه ومتى شعر بذلك سهل علاجه واستداركه والحكم عليه بحكم العميان والله المستعان الأمر الثاني بيان أن خوض جميع المتكلمين في عقائدهم الخلافية بين الفرق الإسلامية يتوقف دائما أو غالبا على الخوض في مقدمات لتلك العقائد وجميع تلك المقدمات مختلف فيها أشد الاختلاف بين أذكياء العالم وفحول علم المعقولات من علماء الإسلام دع عنك غيرهم ومن شرط المقدمات أن تكون أجلى وأن لا تكون بالشك والإختلاف أولى فلينظر بإنصاف من كان من أهل النظر من علماء الكلام في تلك القواعد الدقيقة والمباحث العميقة والمعارضات الشديدة والمناقشات اللطيفة في أحكام القدم ومتى يصح من الله تعالى إيجاد الحوادث وما لزم كل خائض في ذلك حتى التزم بعض شيوخ الكلام نفي القدرة على تقديم الخلق عن وقته وبعضهم أن الحوادث لا نهاية لها في الابتداء كما لا نهاية لها في الإنتهاء وقال جمهورهم أنه قادر في القدم ولا يصح منه الفعل فيه مع قدرته وكذلك اختلافهم فيما تعلق به العلم في القدم وفي أحكام الوجود والموجود وهل هما شيء واحد على (1/15)


التحقيق أو بينهما فرق دقيق وفي دعوى أبي هاشم وأصحابه أن الثبوت غير الوجود حتى جمعوا بين الثبوت والعدم دون الوجود والعدم وقضوا بأن الله تعالى لا يدخل في قدرته سبحانه أن يكون هو المثبت للأشياء الثابتة في العدم مع قضائهم بثبوت جميع الأشياء في العدم بغير مؤثر وإنما تفسير خلق الله للأشياء عندهم أن يكسبها بعد ثبوتها صفة الوجود مع مخالفة جمهور العقلاء لهم في ذلك
وفي أدلتهم عليه كما أوضحه صاحبهم أبو الحسين وأصحابه وأوضحوا أيضا مخالفتهم في اثبات الأكوان والإستدلال بها إلى أمثال لذلك كثيرة مما اشتملت عليه التذكرة لابن متويه والملخص للرازي وشرحه والصحائف الإلهية لبعض الحنفية ونحوها من جوامع هذا الفن فعلى قدر ما في تلك القواعد من الشكوك والإحتمالات تعرف ضعف ما تفرع عنها
ولعل كثيرا من النظار المتأخرين يعترف بأنها محارات ومجاهل لا هداية للعقول فيها إلى اليقين ثم يعتقد أن عقائده المبنية عليها صحيحة قطعية وهذه غفلة عظيمة فإن الفرع لا يكون أقوى من الأصل لا في علوم السمع ولا في علوم العقل ثم أن المتكلمين كثيرا ما يقفون المعارف الجليلة الواضحة على أدلة دقيقة خفية فيتولد من ذلك مفاسد منها إيجاب ما لا يجب من الإستدلال وتكلفه وتكليفه المسلمين ومنها تكفير من لا يعرف ذلك أو تأثيمه ومعاداته ومع ذلك تحريمه يؤدي إلى حرام آخر وهو التفرق الذي نص القرآن الكريم على النهي عنه ومنها تمكين أعداء الإسلام من التشكيك على المسلمين فيه وفي أمثاله ومنها الإبتداع وتوسيع دائرته وما أحسن قول أمير المؤمنين علي عليه السلام في مثل ذلك العلم نكتة يسيرة كثرها أهل الجهل
ولنذكر شيئا من ذلك نخرج به عن التهمة بدعوى ما لم يكن منهم فنقول انا لا نحتاج إلى دليل على وجوب الله تعالى بعد علمنا بالضرورة الفطرية أنه الذي أوجد الموجودات وخلق العوالم ودبرها واستحق المحامد جميعها والأسماء الحسنى كلها وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم خبير وهذا هو قول الشيخ أبي الحسين وأصحابه وأكثر العقلاء وجماهير الأمة وذهب الشيخ أبو هاشم الجبائي وأتباعه إلى أنا بعد علمنا بذلك كله نشك هل هو سبحانه موجود أو معدوم بعد علمنا بأنه موجد (1/16)


الموجودات ومدبرها القيوم بها وأنا بعد العلم بذلك ومعه نحتاج إلى النظر الدقيق في دليل يدل على أن خالقنا الكامل الأسماء والنعوت غير معدوم ولا يكفينا العلم بأنه خالقنا ومدبرنا دليلا على وجوده قط وغفلوا عن كون وجود الخالق القيوم بخلقه أقوى في التعريف بوجوده من الدليل الذي يتكلفونه على ذلك في فطر العقلاء وأنه إن أمكن الشك في هذه الفطرة أمكن الشك في دليلهم عليها إذ لا يمكن أن يكون أقوى منها بل هو أخفى بغير شك كما يعلم ذلك من وقف على أدلتهم في ذلك وقد كنت أوردتها هنا وبيان ما فيها من الشكوك ثم صنت ديباجة هذا المختصر من ذلك ونحوه من علم الجدل ورأيت أن أورد ذلك في فصل مفرد في آخر هذا المختصر إن شاء الله تعالى وإلا فهي في العواصم مجموعة وفي كتب الكلام مفرقة وإنما فعلت ذلك معا ليسلم أولا من كدورته أهل الاثر ثم ينتفع ثانيا بالنظر في الشكوك الواردة عليه أهل الكلام والنظر إن شاء الله تعالى وإنما اضطر أبو هاشم وأتباعه إلى ذلك لأنهم جوزوا للمعدوم تحققا في الخارج لا في الذهن على ما حققه الشيخ مختار المعتزلي في كتابه المجتبى في الفصل الرابع في صفات الله تعالى
واعلم أن كثرة التعنت في النظر تؤدي إلى طلب تحصيل الحاصل والتشكيك فيه وقد جربنا ذلك وتأثيره في الموسوسين في الطهارة وفي النية وأمثالهما من الأمور الضرورية فإذا صح مرض العقول في الضروريات بسبب التعنت والغلو في تحصيل الحاصل فكيف إذا وقع هذا السبب في محارات العقول ودقائق الكلام وتوهم المبتلي بالوسوسة أنه لا طريق له إلى معرفة الله تعالى إلا تلك الدقائق الخفية والقواعد المختلف فيها بين أذكياء البرية ومن أمارة عدم اليقين فيها استمرار الخلاف بعد طول البحث من الأذكياء من أهل الإنصاف ومن علماء أهل الإسلام ولا تحسبن أن العلة في ذلك وقتها بل العلة عدم الطريق إلى معرفتها يوضح هذان علم الحساب والفلك وتسيير الشمس والقمر ومعرفة أوقات الكسوفيين من أدق العلوم ومع دقته فإن غالبه صحيح متفق عليه بين العارفين له وما كان منه خفيا ظنيا فهو معروف بذلك بين أهله وعكس ذلك علم أحكام النجوم (1/17)


في حدوث الحوادث فإن غالبه باطل لأنها لم تصح منه المقدمات فدل الضعف والإختلاف على ضعف القواعد لا على دقتها ولذلك لا يختلف أهل الحساب الدقيق في الفرائض وقسمة المواريث في المناسخات ونحوها مع دقته ولذلك لا تختلف علماء العربية والمعاني والبيان في كل دقيق بل يتفقون حيث تكون المقدمات صحيحة وإن دقت ولا يختلفون إلا حيث تكون المقدمات ظنية بل المتكلمون في الحقيقة كذلك لكنهم إنما يتفقون في أمور يستغنى في معرفتها عن علم الكلام وعن معرفتها في علم الكلام ثم يختصون من بين أهل العلوم بدعوى القطع في مواضع الظنون وتركيب التعادي والتأثيم والتكفير على تلك الدعاوى إلا أفرادا من أئمتهم وأذكيائهم توغلوا حتى فهموا أنهم انتهوا إلى محارات منتهى العقول فيها الميل إلى إمارات ظنية فرجعوا إلى التسليم وترك التكفير كما سيأتي بيان ذلك عنهم ونصوصهم فيه
ومن العبر الجلية في هذا للمتأملين أن أهل الدنيا الموصوفة بأنها لعب ولهو ومتاع قد اتقنوا موازين معرفة الحق من الباطل فيما بينهم وتمييز يسير الحيف في ذلك حتى لا يستطيع أحد تدليس الباطل مع وزنهم وتمييزهم لذلك بتلك الموازين الموصلة إلى العلم اليقين القاطع لا مكان اللجاج والخلاف من المخالفين فلو استطاع أهل الكلام أن يضعوا في أمور الدين المهمة موازين حق تميز الحق من الباطل على وجه واضح يقطع الخلاف ويشفي الصدور مثل موازين أهل الدنيا ما كرهوا ذلك وهم لا يتهمون بالتقصير في ذلك وإنما أتوا من أنهم تركوا الإعتماد على تعلم الحق من الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي أنزله من أنزل الميزان ليتعرف به الحق بعد دلالة الإعجاز على صدقه كما يعرف الحق في الأموال بالميزان بعد دلالة العقل على صحته ولذلك جمعهما الله تعالى في قوله الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان أنزل الكتاب لتعريف الحق الديني والميزان لتعريف الحق الدنيوي فترك الأكثرون الإعتماد عليه لما سنذكره من الأسباب التي ظهرت في أعذار (1/18)

2 / 83
ع
En
A+
A-