عنها كان يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن تعنى قوله فسبح بحمد ربك واستغفره
ومنه قول ابن عيينة السنة هي تأويل الأمر والنهي فان نفس الفعل المأمور به هو تأويل الامر به ونفس الموجود المخبر به هو تأويل الخبر وبهذا يقول أبو عبيدة وغيره والفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة كما ذكروا ذلك في تفسير اشتمال الصماء لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أمر به ونهى عنه لعلمهم بمقاصد الرسول كما يعلم اتباع بقراط وسيبويه من مقاصدهما ما لا يعلم بمجرد اللغة ولكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته بخلاف الخبر
إذ عرفت ذلك فتأويل ما أخبر به الله عن ذاته المقدسة بما لها من الأسماء والصفات هو حقيقة ذاته المقدسة وتأويل ما أخبر به الله من الوعد والوعيد هو نفس الثواب والعقاب وليس شيء منه مثل المسميات بأسمائه في الدنيا فكيف بمعاني أسماء الله تعالى وصفاته ولكن الأخبار عن الغائب لا يفهم إن لم تعبر عنه الاسماء المعلوم معانيها في الشاهد ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد مع الفارق المميز وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما ورد في صفة الجنة كيف بالذات المقدسة إلى قوله ومما يوضح ذلك كله أن الله تعالى وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه وفي آية أن بعضه محكم وبعضه متشابه فالأحكام الذي يعمه هو الاتقان وهو تمييز الصدق من الكذب في اخباره والغي من الرشاد في أوامره والتشابه الذي يعمه هو ضد الاختلاف المنفى عنه في قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وهو الاختلاف المذكور في قوله انكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك فالتشابه به هنا تماثل الكلام وتناسبه بحيث يصدق بعضه بعضا فالاحكام العام في معنى التشابه العام بخلاف الاحكام الخاص والتشابه الخاص فانهما متنافيان فالتشابه الخاص مشابهة (1/89)


الشيء لغيره من وجه ومخالفته من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس إنه هو أو هو مثله وليس كذلك والاحكام الخاص هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر يعني على من عرف ذلك الفصل وهذا التشابه الخاص إنما يكون بقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما
ثم من الناس من لا يهتدي إلى ذلك الفاصل فيكون مشتبها عليه ومنهم من يهتدي له فيكون محكما في حقه فالتشابه حينئذ يكون من الامور الاضافية فاذا تمسك النصراني بقوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر ونحوه على تعدد الآلهة كان المحكم كقوله تعالى وإلهكم إله واحد ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحدا يزيل ما هنالك من الاشتباه اه
وقد ترك الامام والشيخ وجها آخر من المتشابه الذين يحتاج إلى التأويل مما لا يعلمه إلا الله على الصحيح وذلك وجه الحكم المعينة فيما لا تعرف العقول وجه حسنه مثل خلق أهل النار وترجيح عذابهم على العفو عنهم مع سبق العلم وسعة الرحمة وكمال القدرة على كل شيء
والدليل على أن الحكمة خفية فيه تسمى تأويلا له ما ذكره تعالى في قصة موسى والخضر فان قوله سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا صريح في ذلك وهذا مراد في الآية لأن الله وصف الذين في قلوبهم زيغ بابتغائهم تأويله وذمهم بذلك وهم لا يبتغون علم العاقبة عاقبة الخبر عن الوعد والوعيد وما يؤول اليه على ما فسره الشيخ فهم الجنة والنار والقيامة وذات الرب سبحانه كما يبغيها طالب العيان إنما يستقبحون شيئا من الظواهر بعقولهم يتكلفون لها معاني كثيرة يختلفون فيها وكل منهم يتفرد بمعنى من غير حجة صحيحة إلا مجرد الاحتمال وربما خالف ذلك التأويل المعلوم من الشرع فتأولوه وربما استلزم الوقوع في أعظم مما فروا منه
والذي وضح لي في هذا وضوحا لا ريب فيه بحسن توفيق الله أمور (1/90)


أحدها أن الكلام في ذات الله تعالى على جهة التصور والتفصيل أو على جهة الاحاطة على حد علم الله كلاهما باطل بل من المتشابه الممنوع الذي لا يعلمه إلا الله تعالى لقوله تعالى ولا يحيطون به علما ولقوله تعالى ليس كمثله شيء وانما تتصور المخلوقات وما هو نحوها ولما روي من النهي عن التفكر في ذات الله والامر بالتفكر في آلاء الله ولما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام أن ذلك مذهبه حتى رواه عنه الخصوم ومن أشهر ما حفظ عنه عليه السلام في ذلك قوله في امتناع معرفة الله عز و جل على العقول امتنع منها بها واليها حاكمها ومن التفكر في الله والتحكم فيه والدعوى الباطلة على العقول والتكلف لتعريفها ما لا تعرفه حدثت هنا البدع المتعلقة بذات الله وصفاته وأسمائه فمن أكبرها قول البهاشمة من المعتزلة أن الله تعالى عن قولهم لا يعلم من ذاته غير ما يعلمونه قال بن أبي الحديد في شرح النهج وهذا مما يصرح به أصحابنا ولا يتحاشون عنه وقد كثرت عليهم الردود حتى تولى عليهم في ذلك كثير من أصحابهم المعتزلة كابن أبي الحديد وغيره حتى قال في ذلك قصائد كثيرة بليغة منها
سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنا السفر
رجعت حسري فما وقعت ... لا على عين ولا أثر
فلحى الله الأولى زعموا ... أنك المعلوم بالنظر
كذبوا أن الذي زعموا ... خارج عن قوة البشر
فاذا كان هذا كلام إمام معارفهم والحامي عن حماهم فما ظنك بغيره من خصومهم فاعرض على فطراتك التي فطرك الله عليها هل تجد علمك بالله مثل علم الله وأنت الحكم كما قال أمير المؤمنين عليه السلام فان الانسان يعرف أحوال نفسه وعلمه وجهله مثل عافيته وألمه
وقد بسطت القول في الرد عليهم في دعوى العلم بالذات كعلمه تعالى في ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان وكفى بقول أمير المؤمنين (1/91)


عليه السلام في ذلك ولم يعلم له مخالف في الصدر الاول وكفى به عليه السلام سلفا وقدوة وإماما وحجة في هذه المشكلة ومن أبيات في الرد عليهم كنت قلتها وهي أيضا
لي في القدم مقال غير مبتكر ... سبحانه عن خيال الوهم والفكر
أجله أن يحيط الناظرون به ... ذاتا وأين قوى النظار والنظر
فالعلم قسمان تصدق ومعرفة ... تختص بالذات والتصديق بالخبر
ومنها
الله أكبر هذا قاطع ولنا ... عليه أكبر برهان من الزبر
تنزه الرب في الذكر المنزل ان ... يحيط علما به خلق من البشر
تمدحا لم يكن في الذكر مختلفا ... قطعا ولا غلطا من وهم ذي نظر
وفي الحديث دلالات لنا ولنا ... حديث موسى كليم الله والخضر
وفي كلام أمير المؤمنين هدى ... هذا وحسبك برهانا لمنتصر
وفي وصيته ابن المصطفى حسنا ... دلائل لفقيه القلب معتبر
وعن وجوه الكراسي قد رواه لنا ... عبد الحميد بشرح النهج ذي العبر
وجنح القول فيه بالقصائد أمثالا ... تسير مسير الشمس والقمر
تلك الأولى حكمت بالمنع قد حكمت ... بها الملائك أهل القرب والنظر
والراسخين وأدنى من له أدب ... وكل متعظ لله منكسر
فلا ترجح عليهم غير محتفل ... شيوخ جبة إن جاوزوا فلا تجر
والفرق كالصبح لا يخفى على أحد ... والخبر تميز فليس الخبر كالخبر ولبعض الاصحاب أبيات في هذا المعنى جيدة
ومن البدع في هذا الموضع بدع المشبهة على اختلاف أنواعهم وبدع المعطلة على اختلافهم أيضا فغلاتهم يعطلون الذات والصفات والاسماء الجميع ومنهم الباطنية ودونهم الجهمية ومن الناس من يوافقهم في بعض ذلك دون بعض وقد بسطت القول في ذلك في الوهم الخامس عشر من العواصم في نحو مجلد ويأتي إلى ذلك إشارة في هذا المختصر كافية إن شاء الله (1/92)


تعالى فالفريقان المشبهة والمعطلة إنما أتوا من تعاطي علم ما لا يعلمون ولو أنهم سلكوا مسالك السلف في الايمان بما ورد من غير تشبيه لسلموا فقد أجمعوا على أن طريقة السلف أسلم ولكنهم ادعوا أن طريقة الخلف أعلم فطلبوا العلم من غير مظانه بل طلبوا علم ما لا يعلم فتعارضت أنظارهم العقلية وعارض بعضهم بعضا في الأدلة السمعية فالمشبهة ينسبون خصومهم إلى رد آيات الصفات ويدعون فيها ما ليس من التشبيه والمعطلة ينسبون خصومهم وسائر أئمة الاسلام جميعا إلى التشبيه ويدعون في تفسيره ما لا تقوم عليه حجة والكل حرموا طريق الجمع بين الآيات والآثار والاقتداء بالسلف الاخيار والاقتصار على جليات الابصار وصحاح الآثار
وقد روى الامام أبو طالب عليه السلام في أماليه باسناده من حديث زيد بن أسلم أن رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة فقال يا أمير المؤمنين هل تصف لنا ربنا فنزداد له حبا فغضب عليه السلام ونادى الصلاة جامعة فحمد الله وأثنى عليه إلى قوله فكيف يوصف الذي عجزت الملائكة مع قربهم من كرسي كرامته وطول ولهم إليه وتعظيم جلال عزته وقربهم من غيب ملكوت قدرته أن يعلموا من علمه إلا ما علمهم وهم من ملكوت القدس كلهم ومن معرفته على ما فطرهم عليه فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته وتقدمك فيه الرسل بينك وبين معرفته فأتم به وأستضيء بنور هدايته فانما هي نعمة وحكمة أوتيتها فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنة النبي ولا عن أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه فانه منتهى حق الله عليك
وقد روى السيد في الأمالي أيضا الحديث المشهور في كتاب الترمذي عن علي عليه السلام عن رسول الله أنه قال ستكون فتنة قلت فما المخرج منها قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم فهو الفاصل بين الحق والباطل من ابتغى الهدى من غيره أضله الله إلى قوله من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه (1/93)

17 / 83
ع
En
A+
A-