الاذكياء والعارفون على مرور الدهور والقرون حتى قال الله تعالى في كتابه المكنون فبأي حديث بعده يؤمنون
فمن ذلك ما ذكره الامام المؤيد بالله عليه السلام في كتابه في اثبات النبوات قال عليه السلام وأنتم إذا تأملتم أحوال الفترات التي كانت بين آدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ازددتم معرفة بحسن تدبير الله تعالى لخلقه بابتعاث الرسل وتجديده ما درس أو كاد يدرس من الشرائع والملل وأنه عز و جل ابتعث حين علم الصلاح في الابتعاث ومد الفترة حين علم اقتران المصلحة بها لأن الفترة على ما يقوله بعض أهل التواريخ على اختلاف بينهم فيه والله أعلم بتحقيق ذلك كانت بين آدم ونوح صلى الله عليهما سبعمائة عام وإنما كان ذلك كذلك والله أعلم على مقدار ما يلوح لنا ويبلغه مقدار أفهامنا أن آدم هبط إلى الأرض وهو أبو البشر وأول الانس ولم يكن في زمانه شيء من الكفر وعبادة الاصنام ولم يكن غيره وغير زوجته حواء وأولادهما وكانوا يعرفون حاله فلم يكن في أمره شك عندهم لوضوح أمره وظهور آياته وقلة من بعث اليهم فامتد زمان الفترة وكان بينهما مع شيث ذلك وإدريس عليهما السلام فاستحدث الناس الكفر وعبادة الأصنام واتخذوا ودا وسواعا ويغوت ويعوق ونسرا فابتعث الله عز و جل نوحا عليه السلام يدعوهم إلى التوحيد وخلع الأصنام والأنداد فلبث فيهم كما قال الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما فغرقهم الله بالطوفان حين تمت عليهم حجته وعلم أنه لا يصلح منهم أحد كما أوحى ذلك إلى نوح عليه السلام
ثم كانت الفترة بين نوح وإبراهيم عليهما السلام نحو سبعمائة عام وإنما كانت هذه المدة نحو ذلك لأن الغرق أعاد حال نوح إلى نحو حال آدم صلى الله عليهما وسلم في ظهور أمره وابتداء البشر منه مع أنه لم يكن بقي من الكفار أحد إلا أن الناس قد كانوا عرفوا عبادة الأصنام واتخاذ الأنداد من دون الله عز و جل فأسرعوا بعده إلى الكفر وعبادة الأصنام وكان الله تعالى قد بعث هودا إلى عاد لما ازداد تمردهم وصالحا بعده إلى (1/74)
ثمود ثم لما ازداد الكفر ظهورا وانتشارا ابتعث الله عز و جل إبراهيم فدعاهم إلى الله تعالى وكسر أصنامهم ونبههم على خطأ أفعالهم وجدد لهم الذكرى وأنزل عز و جل عليه الصحف وبعث لوطا عليه السلام إلى قوم مخصوصين حين ازداد عتوهم واستحدثوا من الفاحشة ما لم يكن قبلهم ثم كانت الفترة بينه وبين موسى صلى الله عليهما نحو أربعمائة سنة وإنما كانت كذلك والله أعلم لأن ابراهيم صلى الله عليه و سلم مضى والكفر باق بينهم ظاهر ولم تكثر أتباعه الكثرة الظاهرة على ما بلغنا وبعث الله بعده إسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام والاسباط وشعيبا قبل مبعث موسى عليه السلام وقبل أيوب وكان قد بعث قبل موسى عليه السلام وتغيرت أحوال بني إسرائيل وقل قبول الناس الحق وظهر الكفر وبلغ مبلغا لم يكن بلغه من قبل لأن فرعون ادعى الربوبية فاستعبد بني إسرائيل فعظم الأمر وازداد الكفر واتسع الخرق ونسى الحق فلذلك قصرت مدة هذه الفترة حتى بعث موسى صلى الله عليه و سلم مع تلك الآيات العظام كالعصا واليد البيضاء ومجاوزة بني إسرائيل البحر بعد أن انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وتغريق فرعون ومن معه إلى غير ذلك من الحجر الذي انفجرت منه العيون وما كان ظهر قبل ذلك من الجراد والقمل والضفادع والدم وغير ذلك مما يطول ذكره وأنزل عليه التوراة وبين فيها الأحكام والحلال والحرام وظهر أمره أتم الظهور وإنما كانت أعلام موسى أكثر وآياته أظهر لأن بني إسرائيل كانوا والله أعلم أجهل الأمم وأغلظهم طبعا وأبعدهم عن الصواب وأبلدهم عن استدراك الحق ألا ترى أنهم بعد ما جاوز الله بهم البحر وغرق آل فرعون وهم ينظرون قالوا لموسى حين مروا على قوم عاكفين على أصنام لهم يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة واتخذوا العجل وعبدوه وظنوا أنه إلههم وإله موسى وأنه نسي فبحسب هذه الأحوال اقتضت الحكمة إيضاح الآيات والاعلام وتكثيرها لهم ثم بعث يوشع ويونس ثم بعث داود وأنزل عليه الزبور وبعث سليمان وآتاه الله الملك مع تلك الآيات العظيمة ثم بعث بعده زكريا ويحيى صلى الله عليهم وكانت الفترة بين موسى وعيسى نحو ألفي سنة لعظم آيات موسى وعظم الكتاب الذي أنزل (1/75)
معه ولما بعث بينهما من الأنبياء عليهم السلام وهذه المدة أطول المدد التي كانت بين من ذكرنا عليهم السلام
ثم لما تزايد الكفر وتغيرت أحوال بني إسرائيل وشاع الإلحاد في الفلاسفة بعث الله عيسى عليه السلام بتلك الآيات الباهرة وبقي فيهم ما بقي ثم أكرمه الله تعالى ورفعه إليه ثم كانت الفترة بينه وبين نبينا محمد نحو ستمائه عام وكانت هذه المدة أوسط المدد وذلك والله أعلم لأن حجج الله تعالى كثرت فيها لبقاء التوراة والزبور والانجيل ومع ذلك كثر الضلال وقيل في المسيح قولان عظيمان أحدهما ما قالته اليهود والثاني ما قالته النصارى ثم بعث الله تعالى النبي محمدا وختم به الرسالة ونحن من مبعثه على نحو من أربعمائة عام فدل على قرب الساعة وأزوف القيامة وحقق ذلك قوله تعالى اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون وقوله تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر وقول النبي بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه اه
قلت وهذا كلامه عليه السلام في هذا التاريخ المتقدم فكيف بنا اليوم وقد دخلنا في المائة التاسعة أكثر من ثلثها قال فانظروا رحمكم الله في حسن نظر الله عز و جل لعباده بما ذكرنا فاعتبروا به واستعدوا للدوام والبقاء فله خلقتم فكأن الواقعة قد وقعت والحاقة قد حقت فريق في الجنة وفريق في السعير فلا يصدنكم الشيطان وأتباعه عنها كما قال الله تعالى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى وفقنا الله وإياكم لطاعته واتباع مرضاته قلت ومع قرب مبعث محمد من القيامة فلم يخل الله عباده من تجديد الآيات وما يقوم مقام تجديدها وذلك بأمور أعظمها إعجاز القرآن العظيم وبقاؤه في الأمة وحفظه له عن التغيير
وقد جود الامام المؤيد بالله عليه السلام ومن سبقه من علماء الاسلام (1/76)
القول في ذلك وقد جمعه عليه السلام في كتابه في النبوات وجوده وإن كان قال عليه السلام أنه لم يزد على ماقالوه وإنما أوجز من كلامهم ما جعله البسط متباعد الأطراف أو بسط ما جعله الايجاز خفي الاغراض فقد أفاد وأجاد وأحسن وزاد فينبغي مطالبة كتابه في ذلك وكتاب الجاحظ فيه أيضا فانه السابق له عليه السلام إلى ذلك والمشهور بالتجويد في هذه المسالك
ومن نفيس كلامه في ذلك قوله ومن الدليل على اعجاز القرآن أن النبي ابتدأ الاتيان بهذا القرآن على غاية الاحكام والاتقان وقد ثبت جريان العادة أن كل أمر يقع على وجه لا يصح وقوعه عليه إلا بعلوم تحصل للفاعل له لا يصح وقوعه ابتداء على غاية الاحكام والاتقان وأن بلوغه الغاية يتعذر إلا على مر الدهور والأعصار وتعاطي جماعة فجماعة له وانه لا فرق في ذلك بين شيء وشيء من الأمور في منظوم الكلام ومنثوره وما يتعلق بالتنجيم والطب والفقه والنحو والصناعات التي هي النساجة والصياغة والبناء وما أشبه ذلك فإذا ثبت ذلك وثبت وقوع القرآن على الوجه الذي بيناه ثبت أنه وقع على وجه انتقضت به العادة فجرى مجرى قلب العصا حية واحياء الموتى والمشي على الماء والهواء إلى آخر ما ذكروه في ذلك ولولا أن ذكره يناقض ما قصدت من الاختصار لذكرته فهذا أعظم الآيات لبقائه في أمة محمد وفناء آيات الأنبياء في أعصارهم عليهم السلام ولكن الله لما علم أن النبوة قد انقطعت جعل هذا المعجز الجليل باقيا على مر الدهور جديدا على طول العصور
الأمر الثاني ما أشار إليه رسول الله حيث قال إن الله يبعث لأمتي من يجدد لها دينها رأس كل مائة عام وهذه إشارة إلى ما من الله تعالى به على أهل الاسلام من الأئمة الهداة للأنام عليهم السلام ومن سائر العلماء الاعلام والصالحين الكرام ومما يجعل الله تعالى فيهم من الاسرار ويجدد بهم من الآثار ويوضح بهم من المشكلات ويبين بهم (1/77)
من الدلالات ويرد بعلومهم من الجهالات ويؤيد بهم من الكرامات وصادق المبشرات من رؤيا الحق الواردة في محكم الآيات وصحيح الروايات
الأمر الثالث نصر الله تعالى لحماة الاسلام المجاهدين وإنجازه ما وعدهم به في كتابه المبين من نصره للمؤمنين وعلى لسان رسوله الصادق الأمين من حفظه لهذا الدين على كثرة الكافرين والمفسدين والملاحدة والمتمردين ولو نذكر القليل من ذلك لطال وقد اشتملت عليه تواريخ الاسلام وتواريخ الرجال فالحمد لله رب العالمين
وأما ما يختص بنبينا محمد من الآيات الباهرة والدلالات الواضحة فأكثر من أن يحصر وأشهر من أن يذكر وقد صنفت في ذلك مصنفات كثيرة منها كتاب الشفاء للقاضي عياض المالكي وغيره لكن تقصيها هنا مما لم تدع إليه الحاجة إذ لا منازع من أهل الاسلام في نبوته ولا شاك ولا مشكك فيها وإنما المراد هنا ارشاد المختلفين من أمته إلى أوضح الطرق وأنصفها وأهداها إلى اتباع سنته والسلامة من مخالفته ولكنا نتبرك ونتشرف بذكر شيء يسير منها على جهة الاشارة والرمز إلى جمل من ذلك على حسب ما يليق بهذا المختصر فنقول كما قال واحد من علماء الاسلام
إن معجزاته قسمان حسية وعقلية أما الحسية فثلاثة أقسام أحدها أمور خارجة عن ذاته وثانيها أمور في ذاته وثالثها أمور في صفاته
أما القسم الأول وهو الاشياء الخارجة عن ذاته فمثل انشقاق القمر وطاعة الشجر في المشي إليه وتسليم الحجر وحنين الجذع إليه ونبوع الماء من بين أصابعه واشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وشكاة الناقة وشهادة الشاة المشوية واظلال السحاب قبل مبعثه وما كان من حال أبي جهل وصخرته حين أراد أن يضربها على رأسه وما كان من شاة أم معبد حين مسح يده المباركة على ضرعها وأمثال ذلك ولو ذكرت طرق ذلك وأسانيده لمنع عن المقصود بالاختصار وأخرج عنه إلى التآليف الكبار (1/78)