الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتنة للذين في قلوبهم زيغ ومرض وعمى كما قال تعالى وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا وذلك ليبقى الابتلاء الذي اقتضته الحكمة حين كان في أسماء الله المبتلى والباطن والظاهر كما مضى فمن كان نظره من الجهات المناسبة لاسمه الظاهر رشد وسعد ومن كان نظره على العكس من ذلك وقع في المحارات وبعد من مسالك النجاة فكن من ذلك على حذر وافزع إلى الله واستعذبه من ذلك وهو الهادي ولا يهدى إلا الله
الوجه الثالث أنه يظهر على كل نبي ما يميزه من السحرة وأهل الحيل مثال ذلك إيمان السحرة بموسى واعترافهم أن الذي جاء به ليس في جنس السحر واحياء عيسى للموتى وذلك ان موسى عليه السلام كان في وقت ظهر فيه علم السحر وعيسى عليه السلام كان في زمن ظهر فيه علم الطب فجاء كل واحد منهما بما يعرفه أهل عصره وكذلك محمد كان في زمان ظهرت فيه الفصاحة فجاء بالقرآن العظيم الذي لا يخفى عليهم ما اشتمل عليه من وجوه الاعجاز
ثم انه ظهر لنا في حق نبينا أمور كثيرة تميزه عن السحرة والمحتالين منها ورود البشارة به في التوراة والانجيل قال الرازي في كتابه الأربعين والدليل على ذلك أنه ادعى أن ذكره موجود فيهما قال الله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التورية والانجيل وقال حكاية عن عيسى المسيح ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ومعلوم أنه لو (1/69)
لم يكن صادقا في ذلك لكان هذا من أعظم المنفرات عنه لليهود والنصارى ولا يمكن أن العاقل يقدم على فعل يمنعه من مطلوبه ويبطل عليه مقصوده ولا نزاع بين العقلاء انه كان أعقل الناس وأحلمهم انتهى
ومنها ما ظهر من كراماته في أيام الحمل به وأيام الطفولية مثل ما روى مسلم في الصحيح والنسائي من حديث أنس أن جبريل أتاه وهو يلعب مع الصبيان فشق بطنه واستخرجه وجاء الغلمان يسعون إلى ظيره فقالوا ان محمدا قد قتل وهو منتقع اللون قال انس قد كنت أرى ذلك المخيط في صدره
ومنها علم جميع من آمن به من أهله وأصحابه وأهل بلده ببراءته من التهمة بالسحر ولا شك ان علمهم بذلك ضروري كما يعلم ذلك أحدنا في كثير من أهله وخاصته وجيرانه وأهل زمانه ولذلك حصل معنا العلم الضروري بذلك عن خبرهم ولو كان خبرهم عن ظن لم يحصل لنا منه علم ضروري ومن لم يحصل له هذا العلم الضروري فذلك لتقصيره في علم الحديث والسير والتاريخ على أنا غير محتاجين إلى شيء من هذا لما قدمناه من انه لا يمكن السحر في القرآن لدوامه وعظيم ما اشتمل عليه من البلاغة والعلوم ولو أمكن ذلك بالسحر لامكن الساحر أن يكون كلامه بليغا مفهوما ولما حصلت الثقة بكلام ولا كتاب على وجه الأرض
وقد بسطت القوم في هذا في البرهان القاطع وهذا كاف على قدر هذ المختصر وليس التآليف الامثل للثمار وطرح البذر في الأرض الطيبة ثم يهب الله من البركة ما يشاء وهو الفتاح العليم على أن السحر أحد الدلالات البينة على الله تعالى لان علمه من العلوم التي لا تدرك بالعقل مثل ما ذكره الغزالي في أمثاله مما يعلم قطعا انه ينتهي إلى تعليم عالم الغيب ولذلك جاء النص الصريح في كتاب الله تعالى بأنه من تعليم ملكين من ملائكة الله وأن علمه أنزل عليهما كما قال تعالى وما أنزل على الملكين ببابل الآيات ثم فيه دلالة على النبوات من جهة أخرى (1/70)
وذلك ان الساحر يعجز عن معارضة الانبياء وعن بلوغ درجتهم في الاعجاز الحق فتبين بذلك صدقهم وتمييزهم برفيع مقامهم عن السحر والسحرة كما كان في قصة موسى عليه السلام مع السحرة فتعرف بذلك قدر النبوات معرفة مقادير المحاسن بأضدادها ولله الحكمة البالغة في كل شيء سبحانه وتعالى
ومما يقوي أمر النبوات والاسلام النظر في معارضها وضعفه فان المخالفين لذلك ضربان أحدهما أهل التجاهل المتدينون بدين الآباء وان كان عبادة الاحجار ونحو ذلك ولا يلتفت إلى هؤلاء مميز وثانيهما أهل الفلسفة وقد نقل الرازي عنهم الاعتراف بأن خوضهم في الربوبيات بالظن وأنهم لا يعلمون إلا أحكام المشاهدات والمجريات ولو لم يقروا بذلك قام الدليل القاطع عليهم بذلك وهو اختلافهم وتكاذبهم المتباعد المتفاحش الذي تميز الانبياء بالعصمة منه عن جميع أهل الدعاوي الباطلة والنظر في هذا نفيس جدا فان الشيء انما يزداد شرفا على قدر خساسة ضده وصحة على قدر ضعف معارضه وإليه الاشارة بقول يوسف عليه السلام يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار إلى آخر الآيات ويقرب منه قوله تعالى أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ثم أن الله تعالى نبه على عظيم عناد المكذبين للانبياء بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل فقوله إنما أنت نذير واضح في الرد عليهم بأن أصل القصد في النبوات اقامة الحجة على الغافلين عن الامر الجلي بمجرد ما ينبه الغافل من النذارة القائمة مقام الحاضر على القلب وذلك ما لا يحتاج إلى دليل قاطع على صدق النذير بل يكفي في النذير أن يكون ممكن الصدق غير مقطوع بكذبه في الأصل ومثله فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ولذلك ذهب إلى ذلك كثير من الامامية (1/71)
كما ذكره صاحب كتاب الدعائم عنهم لكن الله زاد في إقامة الحجة ليقوى عدله على الكافرين وفضله على المؤمنين فأيدهم بأنواع الآيات الخارقة والامارات الصادقة وفي الآية دلالة على حسن الاحتياط في الحذر بعد سماع النذر كما هو معلوم في النظر وكما تقدمت عليه الدلالة في كلام مؤمن آل فرعون وغيره مما تقدم من الآيات الكريمة في ذلك ولله الحمد ثم أن الأمة أجمعت على انقطاع الوحي بعد رسول الله وأنه لا طريق لأحد من بعده إلى معارضة ما جاء به فمن ادعى ذلك وجوز تغيير شيء من الشريعة بذلك فكافر بالاجماع
خاتمة
ثم إن المثبتين للنبوة اختلفوا في الايمان بجميع الانبياء فمنهم من فرق بين رسل الله فآمن ببعضهم وكفر ببعضهم كاليهود والنصارى ومنهم من آمن بجميع رسل الله ولم يفرق بين أحد منهم كالمسلمين فلا شك في أن إثبات النبوات أصح دليلا وأحوط ثم أن الايمان بجميع الأنبياء كذلك فان المكذب برسول واحد كالمكذب بجميع الرسل وهل أشقى ممن سلم من جميع المهالك حتى إذا لم يبق إلا مهلكة واحدة وقع فيها فانظر ما أوضح الضلال في جميع ما تقدم من انكار العلوم ثم من إنكار الربوبية ثم من إنكار التوحيد ثم من إنكار النبوات ثم من إنكار نبوة محمد خاصة وما أوضح الحق في مخالفة ذلك كله فالحمد لله رب العالمين
ومن واضحات الدلالة على اليهود أنهم مقرون برسول مبشر به في التوراة لكنه عندهم غير محمد فيقال لهم تكذيبهم بمحمد يؤدي إلى تكذيبهم بكل مدع أنه هو لأنه لا يمكن أن يأتي إلا بمعجزات وأما حديث تمسكوا بالسبت أبدا فلو كان حقا لذكروه للنبي ولم يؤمن منهم أحد لكنه موضوع في زمن الراوندي ذكره صاحب التقويم في أصول الفقه ولا حجة فيه لو صح لأن المراد بذلك قد يكون مدة طويلة وإلى غاية كقوله تعالى وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده (1/72)
فصل في تأكيد اليقين بالنبوات زيادة على ما تقدم
وذلك أن كثرتهم عليهم السلام قد علمت لأهل العلم بتواريخ العالم وأخبار الامم واشتهرت لمن كان أقل بحثا وخبرة بهذه العلوم وورد في الاخبار أنهم عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وكتب الله التي جاؤا بها مائة كتاب وأربعة كتب رواه ابن حبان والبيهقي من حديث أبي ذر بسندين حسنين وتواترت كثرتهم في الجملة ولا شك أن الجمع العظيم متى تفرقت أوطانهم وقبائلهم وأغراضهم وأزمانهم ومذاهبهم ولم يكونوا من أهل الصناعات النظرية والرياضات الفلسفية والقوانين المنطقية ثم اتفقوا على القطع بصحة أمر لا داعي له ولا مانع منه بحيث لو اجتمع عيون الفطناء وحذاق الأذكياء ومهرة العلماء على واحد منهم يشككون عليه في اعتقاده لم يرفع إليهم رأسا ولم يلتفت إليهم أصلا فعلمنا علما تجربيا ضروريا أنهم ما تواطئوا على التعمد للمباهتة والتجري على التدليس والمغالطة وأنه ما جمع متفرقات عقائدهم وألف نوافر طباعهم وربط بين جوامح مختلفات اختياراتهم وعصمهم عن متابعة سنة العقلاء في اختلاف مذاهبهم مع طول أنظارهم إلا صدق ما ادعوه من شريف علمهم وحالهم وصحة ما بنوا عليه دينهم ويقينهم من استناد هذه العوالم والخلائق والآثار والحوادث إلى رب عظيم ومدبر حكيم واضطراره لهم بالمعجزات والقرائن إلى الاجتماع على هذا الدين القويم والشأن العظيم وحينئذ لا تردد العقول ولا توقف الاذهان عن الجزم بصدقهم وثلج الصدور لصحة خبرهم فكيف إذا عضد هذا الجميع العظيم من البراهين النيرة والقرائن الواضحة والشواهد الصادقة ما لم يحصره (1/73)