الايمان وتخويفهم من العذاب الأدنى المعجل في الدنيا ثم من العذاب الأكبر فقال يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد الآيات وإنما بدأ بذكر عذاب الله للكافرين في الدنيا لأنه كان معلوما لهم بالضرورة فتأثيره في النفوس أقوى كما ذكره المؤيد بالله في قوة النفع بذكر الموت والبلاء في القبور وتصور ذلك وأمثاله
والآن ظهر لك أن اثبات الرب والايمان به هو الحق والأحوط كما تبين قبل ذلك أن اثبات العلوم هو الحق بحيث لا يخاف في هذين الاعتقادين مضرة ألبتة والخوف العظيم والمضار العظيمة في عدمهما كما قال القائل
قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الاموات قلت إليكما
إن صح قولكما فليس بضائري ... أو صح قولي فالوبال عليكما ومثل ذلك قول الآخر
ورغبني في الدين أن دليله ... قوي ويخشى كل شر بجحده
وكرهني للكفر أن فساده ... جلي ويخشى كل شر بقصده
بل كما قال الله تعالى قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به الآية كما تقدم والمراد ايراده من غير شك لمداواة النفوس الجامحة والوساوس الغالبة والاستعانة على تليينها بالمعارضات النافعة لتسلم العقول مما يزاحمها مما شق على الأوهام من الغيوب وتذعن لما يخالف القياس من الأحكام الباب الرابع في اثبات التوحيد والنبوات وفروعها
ثم أن المثبتين للعلوم والربوبية اختلفوا في أمور ثلاثة أحدها توحيد الرب وقد علم بالضرورة من الدين وإن خلافه كفر ودليل السمع في (1/64)


هذا المقام صحيح بالاتفاق مع ما عضده من الدليل العقلي الذي نبه القرآن عليه في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولا خفاء في ذلك ولا خلاف فيه بين المسلمين فلا يحتاج فيه إلى عناية ولا شك في قوة براهينة وسقوط المعارض لها وأنه أحوط لما في مخالفته من خوف العذاب العظيم وسيأتي تمام الكلام فيه في فروع النبوات
وأما الكلام في النبوات فاعلم أنه من أوضح المعارف وقد تطابقت دلائل المعجزات الباهرات عليه ولا شك مع ذلك أنه الاحوط لأن التكذيب بها من الكفر المعلوم الموجب للعذاب الأكبر وليس لمنكري النبوات من الشبه ما يعارض دلائل ثبوتها ولا ما ينتهض لإثارة الشكوك في هذا المقام البين وإنما قدحت البراهمة في الشرائع بنحو إباحة ذبح البهائم من غير جرائم وذلك جهل فاحش فإن الله الذي خلقها هو الذي أحلها في دار الفناء التي كتب فيها الموت على كل حي لحكمة بالغة وقد ساوى سبحانه بيننا وبينها بالموت وإن اختلفت الأسباب ولا مانع في العقل من ذلك قبل ورود الشرع على بعض الوجوه فهؤلاء البراهمة لا ينكرون تطابق العقلاء على سقي المزارع بالماء وإن مات بسبب ذلك كثير من الذر ونحوها من الحيوانات التي تكون في مجاري الماء وعلى الاستسقاء من المناهل وإن كان وسيلة إلى موت حيوان الماء وعلى إخراج دود البطن بالأدوية وإن مات ألوف كثيرة بسبب عافية انسان واحد من ألم لا يخاف منه الموت ويخرج الانسان الذباب من منزله ولو هلكن من البرد والحر ونحو ذلك وإنما أجمع أهل العقول على مثل هذا لما في فطر العقول من ترجيح خير الخيرين واحتمال أهون الشرين عند التعارض كما قيل حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ومن ذلك استحسن العقلاء تحمل المضار العظيمة في الحروب لدفع ما هو أضر منها وقالت العرب
بسفك الدما يا جارتي تحقن الدما ... وبالقتل تنجو كل نفس من القتل (1/65)


وقد جاء القرآن بذلك بأفصح عبارة وأوجزها فقال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب والقصد أنه لا ينكر في العقول أن يغذي الحيوان الشريف بالحيوان الخسيس فتدفع بالغذاء عنه المضرة وتكمل بالغذاء له النعمة وعلى تسليم أن العقل لا يستحسن ذلك فإنه يجوز أن يحكم بحسن ذلك مالك الجميع علام الغيوب الذي لا معقب لحكمه ولا عالم بغيبه ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وتوهم معارضة ذلك بالتقبيح العقلي في غاية السقوط فإن العقلاء يختلفون فيما دق من هذا الباب وإنما يتفقون على الضروري منه الذي لم يرد الشرع به قطعا مثل ترجيح الكذب على الصدق مطلقا لا مقيدا بحال الضرورة فأي عاقل يرجح هذه الحماقة على البراهين الواضحة في النبوات
وقد جود الجاحظ الكلام في النبوات في كتاب مفرد في ذلك وتبعه في ذلك الامام المؤيد بالله عليه السلام فهذب كتابه وحسن ترصيعه وقرب متباعدة فينبغي للمسلم الوقوف عليه وحسن التأمل له فالأمر في ذلك جلي فطري وإنما ينبغي أن يذكر هنا الفروق بين الأنبياء عليهم السلام وسائر من يقع منه الخوارق من أهل السحر والطلسمات وسائر أهل الرياضات
واعلم أن المتكلمين يذكرون هنا فروقا كثيرة منها أن السحر فن معروف له شيوخ يعرفونه ويعلمونه وفيه مصنفات ومن تولع به وطالع كتبه وتتلمذ لشيوخه عرفه وإنما اختلف في تعلمه فقيل حرام وقيل فرض كفاية حتى إذا ظهر ساحر عرف سحره وهذا باطل لوجهين أحدهما أنه لم يكن في الصحابة بعد رسول الله من يعرفه ولو كان فرضا كانوا أقوم الناس به وثانيهما أنه قد ثبت بالضرورة أن محمدا خاتم الأنبياء وهذا برهان يوضح لنا أن كل مدع للنبوة بعده كاذب (1/66)


وأن كل خارقة تأتي على يد مدعي النبوة بعده فأنها غير صحيحة فإذا تقرر هذا فقد اتضح الفرق فإن النبوات لا حيلة لأحد في اكتسابها
الفرق الثاني أنه لا حقيقة للسحر ولا يبقى وفي المعجزات ما يبقى مثل الناقة في قوم صالح ومثل القرآن العظيم في معجزات رسول الله ولذلك كان أبهر المعجزات فإنه لو أمكن فيه السحر لأمكن أن جميع أشعار العرب وتواريخ العالم وجميع كتب الدنيا سحر وهذا معلوم الفساد بالضرورة وقد أشار إليه في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى في أول سورة الأنعام ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين فإنه سبحانه عاب عليهم الاعتذار عن الحق بالسحر في الموضع الذي لا يمكن فيه السحر قطعا في عقول العقلاء فكيف وقد جعلوه سحرا بينا لا سحرا مشكوكا فيه لشدة عنادهم يدل على ذلك أنهم جعلوه غاية ما اقترحوا تعجيزا وعنادا وعتوا حيث قالوا أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه فتأمل ذلك وكذلك أمثالهم من أعداء الاسلام وكذلك قال تعالى في سورة يونس حكاية عن موسى وقومه فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون فاكتفى موسى بتقريعهم حيث وضح عنادهم
الفرق الثالث أنه لا يكون السحر إلا بشروط مخصوصة في أوقات مخصوصة ولا يكون بحسب الاقتراح بخلاف المعجزات
قلت وهنا فروق أوضح من هذه الفروق بين الأنبياء وغيرهم وذلك من وجوه
الأول اتفاق الأنبياء في التوحيد والدعاء إلى الله تعالى والترغيب فيما لديه والترهيب من عقوبته فالأول منهم يبشر بالثاني والآخر منهم يؤمن بالأول وليس أحد منهم يخطئ أحدا ولا ينقم عليه ولا ينتقصه بخلاف سائر أرباب الخوارق وسائر العلماء والأولياء فإنه يجري بينهم المعارضة (1/67)


الدالة على ارتفاع العصمة ألا ترى أن أهل الرياضة تكون فيهم المبتدعة بل منهم الدهرية والبراهمة وقد ذكر صاحب العوارف طرفا من ذلك في الباب السابع والأربعين وصنف شيخ الاسلام ابن تيمية مصنفا في ذلك سماه الفرق بين الأحوال الربانية والأحوال الشيطانية الوجه الثاني ما ذكره الشيخ مختار في المجتبى وهو أن صاحب المعجزات يفارق صاحب الحيل والسحر في الزي والرواء والهيبة والكلام والأفعال وفي كافة الأحوال أنوار التقوى تلألأ في وجه صاحب المعجزات وآثار الصلاح تلوح في وجوه أهل الخيرات تعرفهم بسيماهم كما قال ربهم ومولاهم شيمتهم التحلم والاصطبار ودينهم الصفح والعفو والاستغفار والجود فالسخاء والايثار والمصافاة مع المساكين والفقراء والحنو والحدب على الضعفاء والأعراض عن زخارف الدنيا وعن اتباع الشهوات والهوى
وأما أصحاب السحر والحيل فرذائل التزوير لائحة في وجوههم ومخايل الختل والغدر واضحة في جباههم قصارى همهم استمالة الأغبياء وإيثار مواطن الملوك والأمراء والأغنياء وغاية أمنيتهم نيل الجاه والعز في الدنيا والظفر بما يوافق النفس والهوى اه . وقد سبقه الرازي إلى هذا المعنى بأجود من كلامه لكنه أطول فآثرت اختصار ما ذكره الرازي في كتاب الأربعين ونقلته وزدت عليه كثيرا في كتاب البرهان القاطع في معرفة الصانع وصحة الشرائع
وإلى هذا الوجه الإشارة بقوله تعالى أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون وقوله أسحر هذا ولا يفلح الساحرون كما تقدم في كلام موسى عليه السلام وقوله تعالى اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وأمثالها وفي آية يسن اشارة إلى أن الكذب على الله وعلى الخلق في غاية القبح ونفرة العقلاء عنه متمكنة فلا يمكن صدوره من أهل العقول الراجحة والزهد المجرب لامتناع وقوع المرجوح عقلا وسمعا وهذه وأضعاف أضعافها صفات الأنبياء عليهم السلام كما أوضحته في البرهان القاطع ثم ان الله تعالى جعل في بعض أحوال (1/68)

12 / 83
ع
En
A+
A-