يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده وهذه حجة أجمع عليها الكفرة مع المسلمين فإن الجميع اتفقوا على أن العالم في الهواء أرضه وسماؤه وما فيه من البحار والجبال وجميع الاثقال وقد ثبت بضرورة العقل أن الثقيل لا يستمسك في الهواء إلا بممسك وأن هذا الامساك الدائم المتقن لا يكون بما لا يعقل من الرياح كما زعمت الفلاسفة على أن الرياح تحتاج إلى خالق يخلقها ثم إلى مدبر يقدرها مستوية الانفاس موزونة القوة لا يزيد منها شيء على شيء حتى تعتدل اعتدالا أتم من اعتدال الفاعل المختار فإن الفاعل المختار لو قصد الاعتدال التام حتى يستوي على رأسه حفنة مملوءة ماء لم يستطع تمام الاعتدال إلا برياضة شديدة فكيف تعتدل عواصف الرياح وتقع موزونة وزن القراريط في الصنجات المعدلة حتى يستوي عليها ثقل الأرض والجبال من غير رب عظيم قدير عليم مدبر حكيم
وأما دلالة المعجزات فهي من أقوى الدلالات وأوضح الآيات لجمعها بين أمرين واضحين لم يكن نزاع المبطلين إلا فيهما أو في أحدهما وهما الحدوث الضروري والمخالفة للطبائع والعادات وهذا هو الذي أراه الله خليله عليه السلام حين سأل الله طمأنينة قلبه والذي احتج به موسى الكليم عليه السلام على فرعون وسماه شيئا مبينا كما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء حيث قال فرعون لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال موسى أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين إلى قوله فألقي السحرة ساجدين وكل ما تعارضت فيه أنظار العقلاء وقدحت فيه شكوك الأذكياء فلا شك أن لأهل الاسلام من ذلك القدح المعلى في اثبات الصانع الحكيم تعالى وعلى كل حال فالنبوات وآياتها البينة ومعجزاتها الباهرة وخوارقها الدامغة أمر كبير وبرهان منير ما طرق العالم له معارض ألبتة (1/54)


خصوصا مع قدمه وتواتره فإن آدم عليه السلام أول البشر وأبوهم نبي مرسل إلى أولاده ثم لم تزل رسل الله عز و جل لترى مبشرين ومنذرين وعاضدين لفطرة الله التي فطر الخلق عليها فلا أشفى ولا أنفع من النظر في كتبهم وآياتهم ومعجزاتهم وأحوالهم ثم اعتضد ذلك بأمرين أحدهما استمرار نصر الأنبياء في عاقبة أمرهم وإهلاك أعدائهم بالآيات الرائعة وثانيهما سلامتهم واتباعهم ونجاتهم على الدوام من نزول العذاب عليهم كما نزل على أعدائهم ولا مرة واحدة وذلك بين في القرآن وجميع كتب الله تعالى وجميع تواريخ العالم ومن غريبها الذي لا يكاد أحد ينظر فيه حفظهم مع ضعفهم من الأقوياء الاعداء وأهل القدرة مثل حفظ موسى وهارون من فرعون مع ظهور قدرته ولذلك قالا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى فقال الله تعالى لهما لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى وكذلك قال نوح لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ونحو ذا قال هود لقومه وكذلك قال الله تعالى لمحمد قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ولما نزل عليه قوله تعالى والله يعصمك من الناس ترك الحرس وكان يحرس قبل نزولها وقصة إبراهيم عليه السلام في ذلك أشهر وأبهر بل على هذا درج أهل الصلاح ووضحت حماية الله لأهل الصدق في التوكل كما وعد الله تعالى به والمختصر لا يحتمل إلا الاشارة ثم يفتح الله تعالى على المتأمل ومنهم من كفاه الله بالاسباب الظاهرة الحارقة مثل ملك سليمان عليه السلام واخدام الجن مع الانس وتسخير الريح له وجميع ما حكى عنه فهذا أيضا يدل على الله تعالى أوضح الدلالة حيث جمعت قدرته الباهرة خرق العادات في نصرتهم بالأسباب الباطنة والظاهرة وكذلك عقوبات أعداء الله الخارقة كمسخ أهل السبت قردة وبمثل ذلك (1/55)


يعلم الله ضرورة لأن مثل ذلك لا يصح بالطبع وهو متواتر مع اليهود مع ثبوته في كتاب الله وفيه ما يدل على وقوعه ضرورة لقوله تعالى ولقد علمتم الذي اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين فلو لم يكن هذا حقا معلوما عند خصوم رسول الله ما خوطبوا بذلك ولو خوطبوا بذلك وعندهم فيه أدنى ريب لبادروا إلى التكذيب والتشنيع وكل هذا يعلم ضرورة من العوائد المستمرة وكذلك نتق الجبل وفلق البحر وقصة أصحاب الفيل وأصحاب الجنة في ن وصاحبا الجنة في الكهف وشفاء أيوب وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام بل منه جميع المعجزات والكرامات الخارقات ومن أعظمه إحياء الموتى لعيسى عليه السلام وكلام عيسى عليه السلام في الطفولة وهو معلوم بالتواتر وسبب غلو النصارى فيه وهم خلائق يعلم بخبرهم العلم الضروري وخسف قارون وداره والخلق ينظرون ونحو ذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى وذكرهم بأيام الله وقوله تعالى ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون
وقد نبه الله سبحانه وتعالى على هذه الدلالات الثلاث في أول سورة الأنعام فتأملها لكنه يسمي المعجزات الآيات ثم أتبعها بابطال اعتلالهم بالسحر كما سيأتي في النبوات
وينبغي ههنا مطالعة كتب قصص الأنبياء ومن أجودها كتاب ابن كثير البداية والنهاية وكتب المعجزات مثل الشفاء للقاضي عياض والمعجزات النبوية من جامع الأصول في حرف النون ولي في ذلك كتاب (1/56)


مختصر سميته البرهان القاطع في معرفة الصانع ومن أحسن ما أشير فيه إلى المعجزات المذكورة في كتاب الله تعالى هذه الأبيات
هو الله من أعطى هداه وصح من ... هواه أراه الخارقات بحكمة
بذاك على الطوفان نوح وقد نجا ... به من نجا من قومه في السفينة
وغاض على ما فاض عنه استجابة ... وجد إلى الجودي بها واستقرت
وسار ومتن الريح تحت بساطه ... سليمان بالجيشين فوق البسيطة
وقبل ارتداد الطرف احضر من سباله ... عرش بلقيس بغير مشقة
وأحمد ابراهيم نار عدوه ... ومن نوره عادت له روض جنة
ولما دعا الاطيار من رأس شاهق ... وقد ذبحت جاءته غير عصية
ومن يده موسى عصاه تلقفت ... من السحر أهوالا على النفس شقت
ومن حجر أجرى عيونا بضربة ... بها دائما سقت وللبحر شقت
ويوسف إذ ألقى البشير قميصه ... على وجه يعقوب عليه بأوبة
رآه بعين قبل مقدمه بكى ... عليه بها شوقا إليه فكفت
وفي آل إسرائيل مائدة من ... السماء لعيسى أنزلت ثم مدت
ومن أكمه أبرى ومن وضح غدا ... شفى وأعاد الطير طيرا بنفخة
وصح بأخبار التواتر أنه ... أمات وأحيا بالدعا رب ميت
وأبعد من هذا عن السحر أنه ... رضيع ينادي باللسان الفصيحة
ينزه عن ريب الظنون عفيفة ... مبرأة من كل سوء وريبة
وقال لأهل السبت كونوا إلهنا ... قرودا فكانوا عبرة أي عبرة
وصرع أهل الفيل من دون بيته ... بطير أبابيل صغار ضعيفة
وأحرق روض الجنتين عقوبة ... بكاف ونون عبرة للبرية
من نبوع العيون من الحجر بضرب العصا دليل سمعي خاص قاطع على خلق الماء وعلى إخراج المخلوق من العدم المحض وكذلك قوله تعالى وفار التنور وكذلك خروج الماء الكثير من أصابع رسول الله (1/57)


وإنما ذكرت هذه الآيات لأن بعض الناس ذكر أنه ليس في هذا نص شرعي وإنما يدل عليه العقل والعمومات لا النصوص وقد روى الحاكم في هذا المعنى حديثا في تفسير قوله تعالى جميعا منه
تكميل
ثم يعتضد هذا بما يناسبه من كرامات الصالحين وعقوبات الظالمين المذكورة في كتاب الله تعالى والمتواترة والمشاهدة ثم ما وقع من تكرر نصر الله تعالى للحق والمحقين وإنهم وان ابتلوا فالعاقبة لهم على ما دل عليه قوله عز و جل ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وكذلك قول الله تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وقوله انا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد وقوله تعالى كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقد جود الزمخشري هذا المعنى في تفسير قوله تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وفسرها بما كان من فتوح الاسلام الخارقة في الآفاق وفسرها ببلاد العجم وفي أنفسهم وفسرها ببلاد العرب وفي ذلك حديث ابن عباس الطويل وكذلك الأنبياء تبتلى ثم تكون لهم العاقبة رواه البخاري ويشهد لصحته الاستقراء من التواريخ وقوله تعالى والعاقبة للمتقين وفي الشعراء تنبيه على ذلك في آيات كثيرة يعقبها بقوله تعالى إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم (1/58)

10 / 83
ع
En
A+
A-