[ إيثار الحق على الخلق - إبن الوزير ] الكتاب : إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات الى المذهب الحق من أصول التوحيد المؤلف : محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي الناشر : دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الثانية ، 1987 عدد الأجزاء : 1 [ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ] |
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين أكمل الحمد على جميع هداياته ومعارفه وعطاياه وعوارفه وأفضل وتحياته الطيبات المباركات وإكرامه على رسوله وحبيبه وصفوته محمد الأمين خاتم النبيين والمرسلين الذي جعل الله الذلة والصغار على من خالف أمره كما ورد به الحديث المتين والقرآن المبين حيث قال رب العالمين في بعض المخالفين له في الدين سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين و وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وB الصحابة أجمعين الصادقين السابقين والذين جاؤا من بعدهم من التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
أما بعد فإني نظرت إلى شدة الخلاف واختلاف العقلاء والأذكياء وأهل الرياضات العظيمة من الرهبان وسائر أجناس أهل الأديان ثم إلى ما وقع من ذلك بين أهل الإسلام من أهل القوانين العلمية البرهانية وأهل القوانين الرياضية الرهبانية وأهل التفاسير والتآويل للآيات القرآنية وأهل الآثار والأنظار في الفروع الظنية فرأيت اختلافا كبيرا وتعاديا نكيرا وتباعدا كثيرا سبق إلى ظن الناظر فيه أنه لا طريق له مع سعة ذلك إلى تمييز المحق من المبطل والمصيب من المخطئ بالدليل الصحيح لأن التمييز الصحيح لذلك لا يحصل إلا بعد بلوغ الغاية القصوى في طرق جميع هذه الطوائف حتى يعترف له بالإمامة في كل فن من تلك الفنون كل أمام بها وعارف
ويتقن علم كل فرقة مثل اتقان كل من أئمتهم لدعواهم وحقائقهم مميزا لمعارفهم ومزالقهم والعمر أقصر من أن يتسع لذلك مع تفريغه عن (1/9)
الشواغل المزاحمة لذلك تم الطلب الشديد له فكيف يتيسر علم جميع ذلك في أول أوقات التكليف مع الشواغل الجمة والتقصير الكثير من الأكابر المتصدرين للتعليم كيف للمتعلمين المقصرين على تلقن مذاهب أسلافهم من غير الثقات إلى الإهتمام بتحقيق أدلتهم التي تخصهم دع عنك الإهتمام بأدلة خصومهم وتحقيقها مع شدة الإشكالات ودقتها ومعارضة الأذكياء والرهبان بعضهم لبعض في كل ملة وكل فرقة ومع استمرار من ظاهره الفهم والإنصاف من أهل الإسلام على ذلك الإختلاف فعظمت هذه الفكرة عندي واهتم لها قلبي لولا ما عارضها من العلم اليقين بل الضروري بما للأكثرين من العقائد الباطلة ومعارضة الحق الواضح بالشبه الساقطة وتعرف ذلك بمطالعة كتب الملل والنحل والأهواء والتجاهل فنظرت في كيفية النجاة مع ذلك مستمدا من الله تعالى داعيا طالبا راغبا راهبا وان الله تعالى وله الحمد والشكر والثناء وفقني حينئذ إلى أوضح الطرق في علمي وأبعدها من الشبه والشكوك إلى معرفة ما تمس الضرورة إلى معرفته من الحق الذي تخاف المضرة بجهله وهو الذي جاء الإسلام بوجوب معرفته أو أمر بها أو ندب إليها من الكتاب والسنة دون معرفة ما لم يدل عقل ولا سمع على وجوب معرفته ولا ثبت في الشريعة استحبابها وبترك هذا القسم يسهل الأمر ويهون الخطب فإن الذي وسع دائرة المراء والضلال هو البحث عما لا يعلم والسعي فيما لا يدرك وطول السير والسعي في الطريق التي لا توصل إلى المطلوب والإقتداء بمن يظن فيه الإصابة وهو مخطئ والإشتغال بالبحث عن الدقائق التي لا طريق إلى معرفتها ولا يوصل البحث عنها إلى اليقين ولا إلى الوفاق ولا ظهرت للخوض فيها مع طوله ثمرة نافعة لا باليقين صادعة ولا للإفتراق جامعة ولا روي عن أحد من الأنبياء عليهم السلام ولا صح عن أحد من السلف الكرام
وربما انقطع هذا العمر القصير في تلك الطرق البعيدة قبل البلوغ إلى المقصود بها وهو معرفة الحق الواجب من الباطل المهلك ومعرفة المحق من المبطل وليس الطلب لكل علم بمحمود ولا كل مطلوب بموجود أما الثانية فوفاقية وأما الأولى فعقلا وسمعا أما العقل فإنه لا يحسن قطع (1/10)
الأوقات في وزن الحجارة وكيل التراب ونحو ذلك مما لا يفيد والعلة أنه عبث ولعب لا يضر ولا ينفع فكيف بما يضر أو لا يؤمن أنه يضر وقد ذكر نحو ذلك القاضي جعفر رحمه الله تعالى وأما السمع فقد قال تعالى في متعلمي السحر أنهم يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم وقال تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم والآية تقتضي ذم علمهم وذمهم به
وفي الحديث أن من العلم جهلا قال ابن الأثير في النهاية قيل في تفسيره وهو أن يتعلم ما لايحتاج إليه كالنجوم وعلوم الأوائل ويدع ما هو محتاج اليه في دينه من علم القرآن والسنة وقال تعالى ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون وعلم آدم الاسماء دون الملائكة وآتانا من العلم قليلا مع قدرته على أن يؤتينا كثيرا فقال في ذلك وما أوتيتم من العلم إلا قليلا يوضحه قول الخضر لموسى عليهما السلام ما علمي وعلمك وعلم جميع الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من هذا البحر وقال لموسى أنا على علم من علم الله لا ينبغي لك أن تعلمه وأنت على علم من علم الله لا ينبغي لي أن أعمله فدل ذلك كله على أنه لا ينبغي لعاقل أن يتعرض لعلم ما لم يعلمنا الله ورسوله ويتضح معقوله ومنقوله لقول الملائكة عليهم السلام لا علم لنا إلا ما علمتنا وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي وهذه الآية دالة على أن كتب الله لا تخلو من البراهين المحتاج اليها في أمر الدين كما سيأتي في هذا المختصر مستوعبا إن شاء الله تعالى
وفي قول الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا إشارة إلى ذلك بل دلالة واضحة لأنهم حين قطعوا على فساد آدم مع اخبار الله تعالى لهم أنه مستخلفه في الأرض إنما أتوا من خوضهم فيما لم يعلمهم الله تعالى إذ لو كان من تعليم الله ما أخطأوا فيه فلما تبين لهم خطأهم نظروا من أين جاءهم الخطأ على علو منزلتهم فعرفوا أنهم أخطأوا لما تعرضوا لعلم ما لم يعلمهم الله (1/11)
سبحانه فقالوا حينئذ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا فهذا وهم أحق الخلق بالعلم والكشف للغائبات فإنهم أنوار وعقول بلا شهوات حاجبة ولا أهواء غالبة ولذلك ذم الله الذين في قلوبهم زيغ بابتغاء تأويل المتشابه ومدح الراسخين بالإعتراف بالعجز كما هو معروف عن علي عليه السلام في أمالي السيد الامام أبي طالب عليه السلام وفي نهج البلاغة على ما سيأتي تقريره والحجة عليه وذم اليهود على تعاطي ما لم يعلموا فقال تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم
ومن ذلك أن الله تعالى أرى رسوله والمسلمين يوم بدر الكثير من المشركين قليلا في المنام ثم في اليقظة للمصلحة واختلف لمن الضمير في قوله تعالى يرونهم مثليهم رأي العين وقال سبحانه في الساعة أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى أي أخفي علمها الجملي وأما تعيين وقتها فقد أخفاه من الخلق كما قال ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة وكفى بذلك حجة صادعة على أن المصلحة للخلق قد تعلق بجهل بعض العلوم ومما يوضح ذلك قول عيسى عليه السلام ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه كما ذكر في الكشاف ولأن حكمة الله وحكمه الذي لا يغالب قد يقتضي ذلك عموما كما اقتضت كتم الآجال على الاكثرين
وجاء في الحديث الصحيح أن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أول رؤيا عند رسول الله فقال له أصبت بعضا وأخطأت بعضا فسأله بيان ما أصاب فيه وما أخطأ فأبى عليه فقال أقسمت عليك الا ما أخبرتني فقال لا تقسم فهذا مع اكرامه له وانه على خلق عظيم كما قال الله تعالى فلولا أن الجهل ببعض الأمور قد يكون راجحا أو واجبا لما تخلف (1/12)
عن اخباره بعد هذا الالحاح الكثير من هذا الصاحب الكبير فدل على أنه ليس في كل علم صلاح العباد وأن قدرنا أنه يحصل من غير خطأ ولا تعب ولا خطر فكيف مع خوف الفوت والخطر العظيم والتعب الشديد بل هو مع تحقق ذلك في حق الأكثرين بالتجارب الضرورية
ومن ذلك قول رسول الله حين رفع علم ليلة القدر وسئل عنها وعسى أن يكون خيرا لكم رواه البخاري وقوله في حديث معاذ دعهم يعملوا متفق على صحته وشواهده جمة كثيرة صحيحة ومن ذلك وهو أعظمه وأشهره قصة الخضر وموسى عليهما السلام وهي شافية كافية وهي صريحة في اختلاف المصالح في العلوم ومنه قوله تعالى بعد حكاية الإختلاف بين داود وسليمان عليهما السلام وكلا آتينا حكما وعلما
وذكر الشيخ أبو القاسم البلخي في مقالاته المشهورة العامة فقال هنيئا لهم السلامة مرتين أو ثلاثا وفي شعر العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي وقد حكى كثرة بحثه في علم الكلام حتى قال
وأسائل الملل التي اختلفت ... في الدين حتى عابد الوثن
وحسبت أني بالغ أملي ... فيما طلبت ومبريء شجني
فاذا الذي استكثرت منه هو ... الجاني على عظائم المحن
فضللت في تيه بلا علم ... وغرقت في يم بلا سفن
وقال الفخر الرازي في ذلك
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم
وقال صاحب نهاية الاقدام
قد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم (1/13)