فَصْلٌ: وَالتَّقْلِيْدُ: اتِّبَاعُ قَولِ الغَيرِ مِنْ دُون حُجَّةٍ وَ لاَ شُبْهَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الأُصُولِ وَلاَ فِي العِلْمِيَّاتِ، وَلاَ فِيمَا يَتَرتَّبُ عَلَيهَا، وَيَجِبُ فِي العَمَلِيَّةِ الْمَحْظَةِ الظَّنِّيَّةِ وَالقَطْعِيَّةِ، عَلَى غَيْرِ المُجْتَهِدِ.
وَعَلَى المُقَلِّدِ البَحثُ عَنْ كَمَالِ مَنْ يُقَلِّدُهُ فِي عَمَلِهِ وَعَدَالَتِهِ، وَيَكفِيهِ انتصَابُهُ لِلفُتْيَا فِي بَلَدِ مُحِقٍّ لاَ يُجِيزُ تَقْلِيْدَ كَافِرِ التَّأْوِيلِ وَفَاسِقهِ، وَيَتَحَرَّى الأَكمَلَ إِن أَمْكَنَهُ، وَالحَيُّ أَوْلَى مِنَ المِيِّتِ، وَالأَعْلَمُ مِنَ الأَوْرعِ، وَالأَئِمَّةُ المَشْهُورُنَ أَولَى مِنْ غَيْرِهِم، وَالْتِزَامُ مَذْهَبِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْلَى إِتِّفَاقاً، وَفِي وُجُوبِهِ خِلاَفٌ، وَبَعدَ إِلْتِزَامُ مَذهَبِ مُجْتَهِدٍ جُملَةً، وَفِي حُكمٍ مُعِيَّنٍ يَحرُمُ الإِنتِقَالُ بِحَسَبِ ذَلِكَ عَلَى المُخْتَار،ِ إِلاَّ إِلَى تَرجِيحِ نَفسِهِ إِنْ كَانَ أَهْلاً لِلتَّرجيحِ.
وَيَصِيرُ مُلتَزِماً بِالنِّيَّةِ، وَقِيلَ: مَعَ لَفظٍ أَو عَمَلٍ، وَقِيلَ: بِالعَمَلِ وَحدَهُ. وَقِيلَ: بِالشُّروعِ فِي العَمَلِ. وَقِيلَ: باعْتِقَادِ صِحَّةِ قَولِهِ. وَقِيلَ: بِمُجَرَّدِ سُؤالِهِ.
واختُلِفَ فِي جَوازِ تَقْلِيدِ إِمَامَينِ فَصَاعِداً، وَلا يَجْمَعُ بَينَ قَوْلَينِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَقُولُ بِهِ أَيُّ القَائِلَيْنَ، وَيَجُوزُ لِغَيرِ المُجْتَهِدِ أَنْ يُفِتِيَ بِمَذْهَبِ مُجتَهدٍ حِكَايَةً مُطلَقاً وَتَخريجاً، إِذَا كَانَ مُطَّلِعاً عَلَى المَأْخَذِ أَهلاً لِلنَّظَر.(1/31)
وَإِذَا اخْتلفَ المُفتُونَ عَلَى المُسْتَفْتِي غَيرِ المُلْتَزِم؛ فَقِيْلَ: يَأْخُذُ بِأَوَّلِ فُتْيَا. وَقِيلَ: بِمَاظَنَّهُ الأَصَحُّ. وَقِيْلَ: يُخَيَّرُ. وَقِيلَ: يَأْخُذُ بِالأَخَفِّ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَبِالأَشَدِ فِي حَقِّ العِبَادِ. وَقِيلَ: يُخَيَّرُ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَفِي حَقِّ العِبَادِ بِحُكْمِ الحَاكِمِ.
وَمَنْ لاَ يَعقِلُ مَعنَى التَّقْلِيدِ لِفَرْطِ عَامِّيتِهِ؛ فَالأَقْرَبُ صِحَّةُ مَا فَعَلَهُ مُعتَقِداً لِجَوازِهِ، مَالَم يَخْرِقِ الإِجْمَاعَ، وَيُعَامَلُ فِيمَا عَدَى ذَلِكَ بِمَذْهَبِ عُلَمَاءِ جَهَتِهِ، ثُمَّ أَقْرَبِ جِهَةٍ إِلِيهَا.
البَابُ العَاشِرِ: فِيْ التَّرْجِيْحِ
وَهُوَ: اقْتِرَانُ الأَمَارَةِ بَمَا تَقَوَى بِهِ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، فَيَجبُ تَقدِيمُهَا لِلْقَطعِ عَنِ السَّلَفِ تَأثِيراً لِلأَرجَحِ، وَلا تَعَارُضَ إِلاَّ بَينَ ظَنِّيَّيْنِ نَقْلِيَّيْنِ، أَوْ عَقْلِيَّيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ.
فَيُرجَّحُ أَحَدُ الخَبَرَيْنِ عَلَى الآخَرِ: لِكَثْرَةِ رُواتِهِ، وَبِكَونِهِ أَعْلَمَ بِمَا يَرويْهِ، وَبثِقَتِهِ وَضَبْطِهِ، وَكَونِهِ المُبَاشِرَ، أَوْ صَاحِبَ القِصَّةِ، أَوْ مُشَافِهاً، أَوْ أَقْرَبَ مَكاناً، أَوْ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، أَو مُتَقِدِّمَ الإِسلامِ، أَوْ مَشهُورَ النَّسَبِ، أَوْ غَيرَ مُلتَبِسٍ بِمُضَعَّفٍ، وَبِتَحَمُّلِهِ بَالِغاً، وَبِكَثْرةِ المُزَكِّيْنَ أَوْعَدْلِيِّتْهِم، وَبِكَونِهِ عُرِفَ أَنَّهُ لاَ يُرسِلُ إِلاَّ عَنْ عَدْلٍ فِي المُرسَلَيْن.
وَيُرجَّحُ الخَبَرُ الصَّرِيحُ عَلَى الحُكْمِ، وَالحُكْمُ عَلَى العَمَلِ، قِيلَ: وَالمسْنَدُ عَلَى المُرسَلِ. وَقِيلَ: العَكْسُ. وَقِيلَ: سَواءٌ.(1/32)
وَيُرجَّحُ المَشْهُورُ وَمُرسَلُ التَّابِعِيِّ، وَمثلُ البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَلَى غَيرِهِمَا. وَيُرَجَّحُ النَّهِيُ عَلَى الأَمْرِ، وَالأَمرُ عَلَى الإِبَاحَةِ، وَالأَقَلُّ إِحْتِمَالاً عَلَى الأَكثَرِ، وَالحَقِيْقَةُ عَلَى المَجَازِ، وَالمَجَازُ عَلَى المُشْتَرَكِ، وَالأَقْربُ مِنَ المَجَازَينِ عَلَى الأَبْعَدِ.
وَالنَّصُّ الصَّريحُ عَلَى غَيْرِ الصَّريحِ، وَالخَاصُّ عَلَى العَامِّ، وَتَخصِيصُ العَامِّ عَلَى تَأْوِيْلِ الْخَاصِّ، وَالعَامُّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّصْ عَلى الَّذِي خُصِّصَ، وَالعَامُّ الشَّرطيُّ عَلى النَّكِرَةِ المَنْفِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَمَا وَمَنْ وَالجَمْعُ المُعَرَّفُ بِلامِ الجِنسِ عَلَى الجِنسِ المُعَرَّفِ بِهِ، وَيُرَجَّحُ الوُجُوبُ عَلَى النَّدْبِ، وَالإِثْبَاتُ عَلَى النَّفِيِ، وَالدَّارِئُ للحَدِّ عَلَى المُوجِبِ لَهُ، وَالمُوجِبُ لِلطَّلاقِ وَالعِتقِ عَلَى الآخَرِ.
وَيُرجَّحُ الخَبَرُ أَيضاً لِمُوَافَقَتِهِ لِدَليلٍ آخَرَ، أَوْ لأَهْلِ المَدِيْنَةِ، أَوْ لِلخُلَفَاءِ، أَوْ لِلأَعْلَمِ، وَبِتَفسِيرِ رَاوِيهِ وَبِقَرِيْنَةِ تَأَخُّرِهِ، وَبِمُوَافَقَتِهِ لِلقِيَاسِ.
وَيُرَجَّحُ أَحَدُ القِيَاسَينِ عَلَى الآخَرِ، بِكَونِ حُكْمِ أَصْلِهِ قَطْعِياًّ أَوْ دَليلِهِ أَقْوَى، أَو لَمْ يُنسَخْ بِاتِّفَاقٍ بِكُونِ عِلَّتِهِ أَقْوَى، لِقَوَّةِ طَريقِ وُجودِهَا فِي الأَصْلِ، أَوْ طَريقِ كَونِهَا عِلَّةً، أَوْ بِأَنْ يَصْحَبَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى تُقَوِّيهَا، أَوْ بِكَونِ حُكمِهَا حَظْراً أَوْ وُجُوباً دُونَ مُعَارِضَتِهَا، أَوْ بِأَنْ تَشْهَدَ لَهَا الأَصُولُ، أَوْ تَكُونَ أَكْثَرَ اطَّرَاداً، أَوْ مُنتَزَعَةً مِنْ أُصُولٍ كَثِيرةٍ، أَو يُعَلِّلُ بِهَا الصَّحَابِيُّ أَوْ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ.(1/33)
وَيُرَجَّحُ الوَصْفُ الحَقِيقِيُّ عَلَى غَيرِهِ، وَالوَصْفُ الثُّبُوتِيُّ عَلَى العَدَميِّ، وَالبَاعِثةُ علَى الأَمَارَةِ، وَالمطَّرِدَةُ وَالمُنْعَكِسَةُ عَلَى خِلافِهَا، وَالمُطَّرِدَةُ فَقَط عَلَى المُنْعَكِسَةِ فَقَطْ، وَالسَّبْرُ عَلَى المُنَاسَبَة، وَالمُنَاسَبَةُ عَلَى الشُّبْهَةِ.
وَيُرجَّحُ بِالقَطْعِ لِوُجودِ العِلَّةِ فِي الفَرْعِ، وَبِكَونِ حُكْمِ الفَرْعِ ثَابِتاً بِالنَّصِّ فِيْ الجُمْلَةِ، وَبِمُشَارَكَتِهِ فِي عَينِ الحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ عَلَى الثَّلاثةِ الأُخَرِ، وَفِي عَيْنِ أَحَدِهِمَا، وَجِنسِ الآخَرِ فِيْ الجِنْسَيْنِ، وَفِيْ عَيْنِ الْعِلَّةِ مَعَ جِنسِ الحُكْمِ عَلَى العَكسِ.
وَوُجُوهُ التَّرْجِيحِ لاَ تَنحَصِرُ وَلَن يَخُفَى اعْتِبَارُهَا مَعَ تَوفِيْقٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ.(1/34)