وَالمُخْتَارُ أَن المُتَكَلِّمِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ، وَأَنَّ مَجِيْءَ العَامِّ لِلمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ لاَ يُبْطِلُ عُمُومَهُ، وَأَنَّ نَحْو: لاَ أكَلْتُ؛ عَامٌّ فِي المَأْكُولاتِ فَيَصِحُّ تَخْصِيْصُهُ، وَأَنَّهُ يَحرُمُ العَمَلُ بِالعَامِّ قَبلَ البَحْثِ عَنْ مُخصِّصِهِ، وَيَكفِي المُطَّلعَ ظَنُّ عَدَمِهِ، وَإِنَّ مِثْلَ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ}، لاَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ سَيُوجَدُ، إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَأَنَّ دُخولَ النِّسَاءِ فِي عُمُومِ الَّذيْنَ آمَنوا أَو نَحوَهُ بِنَقلِ الشَّرعِ أَوْ بِالتَّغْلِيبِ، وَأَنَّ ذِكْرَ حُكمٍ لِجُملَةٍ لاَ يُخَصِّصُهُ ذِكرُه لِبَعْضِهَا، وَكَذَا عَودُ الضَّمِيرِ إِلَى بَعْضِ العَامِّ إِذْ لاَ تَنَافِي بَينَ ذَلِكَ فِي الصُّورَتَينِ.
وَالمَخْصِّصِ: مُتَّصِلٌ، وَمُنْفَصِلٌ، فَالمُتَّصِلُ: الإِسْتِثنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَالصِّفَةُ، وَالغَايَةُ، وَبَدَلُ البَعضِ.
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَرَاخِي الإِسْتثنَاءِ إِلاَّ قَدْرَ تَنَفُّسٍ أَوْ بَلعِ رِيقٍ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ إِسْتِثنَاءُ الأَكْثرِ.
وَأَنَّهُ مِنَ النَّفْيِ إِثبَاتٌ وَالعَكسُ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الجُمَلِ المُتَعَاطِفَةِ يَعُودُ إِلَى جَمِيْعِهَا فَيُحْمَلُ إِلاَّ لِقَرينَةٍ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إِلَى جَميْعِهَا إِلاَّ لِقَريْنَةٍ.
وَأَمَّا المُنْفَصِلُ فَهُوَ: الكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعُ، وَالقِيَاسُ، وَالعَقْلُ، وَالمَفْهُومُ عَلَى الْقَولِ بِهِ.
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَخْصِيصُ كُلٍّ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمِثْلِهِ، وَبِسَائِرِهَا، وَالمُتَواتِرُ بِالآحَادِيِّ.(1/26)
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يُقصَرُ العُمومُ عَلَى سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يُخَصَّصُ العَامُّ بِمَذْهَبِ رَاوِيْهِ، وَلاَ بِالعَادَةِ، وَلاَ بِتَقْدِيرِ مَا أُضْمِرَ فِي المَعْطُوفِ مَعَ العَامِّ المَعطُوفِ عَلَيهِ، وَأَنَّ العَامَّ بَعدَ تَخْصِيصِهِ لاَ يَصِيرُ مَجَازاً فِيمَا بَقِيَ، بَلْ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ يَصِحُّ تَخصِيصُ الخَبَرِ، وَأَنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَعَارُضُ عَمومَينِ فِي قَطْعِيٍّ، وَيَصِحُّ فِي العَامِّ وَالخَاصِّ، فَيُعْمَلُ بِالمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا، فَإِنْ جُهِلَ التَّأْرِيخُ اطُّرِحَا. وَقَالَ الشَّافِعيُّ: يُعمَلُ بِالخَاصِّ فِيمَا تَنَاوَلَهُ وَبِالعِامِّ فِيمَا عَدَاهُ، تَقَدَّمَ الخَاصُّ أَمْ تَأَخَّرَ أَمْ جُهِلَ التَّأرِيخُ لِتَحصِيلِ العَمَلِ بِهِ.
فَصْلٌ: وَالمُطْلَقُ: مَادَلَّ عَلَى شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ.
وَالمُقَيَّدُ بِخِلاَفِهِ، وَهُمَا كَالعَامِّ وَالخَاصِّ، وَإِذَا وَرَدَا فِي حُكمٍ وَاحِدٍ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ حُكِمَ بِالتَّقْييدِ إِجْمَاعاً، لاَ فِي حُكْمَيْنِ مُختَلِفَيِنِ مِنْ جِنْسَينِ اتِّفَاقاً إِلاَّ قِيَاساً وَلاَ حَيثُ اخْتَلَفَ السَّبَبُ وَاتَّحَدَ الجِنْسُ عَلَى المُخْتَارِ.
البَابُ السَّابِعُ فِيْ المُجْمَلِ. وَالمُبَيَّنِ. وَالظَّاهِرِ. وَالمُؤَوَّلِ(1/27)
المُجْمَلُ مَالاَ يُفْهَمُ المُرَادُ بِهِ تَفْصِيلاً. وَالمُبَيَّنُ مُقَابِلُهُ، وَالبَيَانُ هُنَا مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ المُرَادُ بِالخِطَابِ المُجْمَلِ، وَيَصِحُّ البَيَانُ بِكُلٍّ مِنَ الأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَلاَ يَلزمُ شُهْرَةُ البَيَانِ كَشُهْرَةِ المُبَيَّنِ وَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ فِي حُسْنِ الشَّيءِ بِالمَدْحِ إِذْ هُوَ كَالحَثِّ وَفِي قُبْحِهِ بَالذَّمِ إِذْ هُوَ آكَدُ مِنَ النَّهْيِ، وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ إِجْمَالَ فِي الجَمْعِ المُنَكَّرِ إِذْ يُحْمَلُ عَلَى الأَقَلِّ، وَلاَ فِي تَحرِيمِ الأَعْيَانِ إِذْ يُحمَلُ عَلَى المُعْتَادِ، وَلاَ فِي العَامِّ المَخْصُوصِ، وَلاَ فِي نَحوِ <لاَ صَلاةَ إِلاَّ بِطَهُورٍ> وَ <الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ> وَ <رُفِعَ عَن أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ>. وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ التَّبْلِيغِ إِذِ القَصْدُ المَصْلَحَةُ وَلاَ يَجُوزُ تَأخِيرُ البَيَانِ وَلاَ التَّخصِيصِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ إِجْمَاعاً إِذْ يَلزَمُ التَّكْلِيفُ بِمَا لاَ يُعْلَمُ فَأَمَّا تَأْخِيرُ ذَلِكَ عَنْ وَقْتِ الخِطَابِ فَالمُخْتَارُ جَوَازُ ذَلِكَ فِي الأَمْرِ وَالنَّهِيِ، وَعَلَى السَّامِعِ البَحْثُ وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الأَخْبَارِ.
فَصْلٌ: وَالظَّاهِرُ قَد يُطلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُ النَّصَّ وَعَلَى مَا يُقَابِلُ المُجْمَلَ وَقَد تَقدَّمَا. وَالمُؤَوَّلُ مَا يُرَادُ بِهِ خِلاَفَ ظَاهِرِهِ. وَالتَّأوِيلُ. صَرفُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ أَو قَصْرُه عَلَى بَعضِ مَدْ لُولاَتِهِ لِقَرِيْنَةٍ اقْتَضَتهُمَا وَقَد يَكُونُ قَريباً فَيَكفِي فِيهِ أدْنَى مُرجِّحٍ، وَبَعيداً فَيَحْتَاجُ إِلَى أَقْوَى، وَمُتعسَّفاً فَلاَ يُقْبَلُ.
الْبَابُ الثَّامِنُ فِي النَّسْخِ(1/28)
النَّسخُ: هُوَ إِزَالَةُ مِثْلِ الحُكْمِ الشَّرعيِّ بِطَريقٍ شَرعِيٍّ مَعَ تَرَاخٍ بَينَهُمَا.
وَالمُخْتَارُ جَوَازُهُ، وَإِنْ لَم يَقَعِ الإِشعَارُ بِهِ أَوَّلاً، وَنسخِ مَا قُيِّدَ بِالتَّأْبِيدِ وَإِلَى غَيرِ بَدلٍ، وَالأَخَفِّ بِالأَشَقِّ كَالْعَكْسِ، وَ التِّلاوَةِ وَالحُكْمِ جَمِيعاً، وَأَحدِهِمَا دُونَ الآخَرِ، وَمَفهُومِ المُوافَقَةِ مَعَ أَصلِهِ، وَأَصلِهِ دُونَهُ، وَكَذَا العَكسُ إِنْ لَم يَكنْ فَحْوَى.
وَلاَ يَجُوزُ نَسخُ الشَّيْءِ قَبلَ إِمكَانِ فِعْلِهِ. وَالزِّيَادَةُ عَلَى العِبَادَةِ نَسخٌ لَهَا إِنْ لَمْ يَجُزِ المَزيدُ عَلَيهِ مِنْ دُونِهَا، وَالنَّقصُ مِنهَا نَسخٌ لِلسَاقِطِ اتِّفَاقاً، لاَ لِلْجَميعِ عَلَى المُخْتَارِ.
وَلاَ يَصِحُّ نَسخُ الإِجْمَاعِ وَلاَ القِيَاسِ إِجْمَاعاً، وَلاَ النَّسْخُ بِهِمَا عَلَى المُخْتَارِ، وَلاَ مُتَوَاتِرٍ بِآحَادِيٍّ.
وَطَريقُنا إِلَى العِلمِ بِالنَّسخِ إِمَّا النَّصُّ مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَمَ، أَوْ مِنْ أَهْلِ الإِجْمَاعِ صَريحاً أَوْ غَيرَ صَريحٍ، وَإِمَّا أَمَارَةٌ قَوِيَّةٌ، كَتَعَارضِ الخَبَرَينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ مَعرِفَةِ المُتَأَخِّرِ بِنَقْلٍ أَو قَرينَةٍ قَوِيَّةٍ، كَغَزَاةٍ أَو حَالَةٍ فَيُعمَلُ بِذَلِكَ فِي المَظْنُونِ فَقَطْ عَلَى المُخْتَارِ.
البَابُ التَّاسِعُ فِيْ الإِجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ
الإِجْتِهَادُ: إِسْتِفرَاغُ الفَقَيهِ الوسعَ فِي تَحصيلِ ظَنٍّ بِحُكمٍ شَرعِيٍّ.
وَالفَقِيهُ: مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِسْتِنْبَاطِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ حَصَّلَ مَا يَحتَاجُ إِلَيهِ فِيهِ مِنْ عُلُومِ العَرَبِيَّةِ وَالأَصُولِ وَالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَسَائِلِ الإِجمَاعِ.(1/29)
وَالمُخْتَارُ جَوَازُ تَعبُّدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ بِالإِجْتِهَادِ عَقْلاً، وَأَنَّهُ لاَ قَطْعَ بِوُقُوعِ ذَلِكَ وَلاَ انْتِفَائِهِ، وَأَنَّهُ قَد وَقعَ مِمَّنْ عَاصَرَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَحَضْرَتِهِ، وَأَنَّ الحَقَّ فِي القَطعِيَّاتِ مَعَ وَاحِدٍ، وَالمُخَالِفُ مُخْطِيءٌ آثِمٌ.
وَأَمَّا الظَّنِّيَّةُ العَمَلِيَّةُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَأَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ المُجْتَهِدَ تَكريرُ النَّظَرِ لِتِكْرَارِ الحَادِثَةِ، وَأَنَّهُ يَجبُ عَليهِ البَحْثُ عَن النَّاسِخِ وَالمُخَصِّصِ حَتَّى يَعْلَمَ أَوْ يَظُنُّ عَدَمَهُمَا، وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيرِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الإِجْتِهَادِ، وَلَو أَعْلَمَ مِنْهُ وَلَوْ صَحَابِياًّ، وَلَو فِيمَا يَخُصُّهُ، وَيَحْرُمُ بَعدَ أَنِ اجْتَهَدَ اتِّفَاقاً.
وَإِذَا تَعَارَضَتْ عَليهِ الأَمَارَاتُ رَجَعَ إِلَى التَّرجيحِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ رُجْحَانٌ، فَقِيلَ: يُخَيَّرُ، وَقِيلَ: يُقلِّدُ أَعْلَمَ مِنْهُ، وَقِيلَ يَرجِعُ إِلَى حُكمِ العَقْلِ، وَلاَ يَصِحُّ لِمُجْتَهِدٍ قَوْلاَنِ مُتنَاقِضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَا يُحكَى عَن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فمُتَأَوَّلٌ، وَيُعرَفُ مَذهَبُ المُجْتَهِدِ بِنَصِّهِ الصَّرِيحِ، وَبِالعُمومِ الشَّامِلِ مِنْ كَلامِهِ، وَبِمُمَاثَلةِ مَا نَصَّ عَلَيهِ، وبِتَعْلَيلهِ بِعِلَّةٍ تُوجَدُ فِي غَيرِ مَا نَصَّ عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ يَرَى جَوَازَ تَخْصِيصِ العلَّةِ. وَإِذَا رَجَعَ عَنْ اجْتِهَادٍ وَجَبَ عَلَيهِ إِيذَانُ مُقَلِّدِهِ، وَفِي جَوَازِ تَجَزُّءِ الإِجْتِهَادِ خِلاَفٌ.(1/30)