الثَّالِثُ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَالمُخْتَارُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وآلَهُ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ البِعْثَةِ مُتَعَبَّداً بِشَرعٍ، وَأَنَّهُ بَعْدَهَا مُتَعَبَّدٌ بِمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْ الشَّرَائِعِ، فَيَجِبُ عَلَيْنَا الأَخْذُ بِذَلِكَ عِندَ عَدمِ الدَّلِيلِ فِي شَريعَتِنَا، قِيْلَ: وَمِنْهُ الإِسْتِحسَانُ، وَهُوَ: عِبَارَةٌ عَنْ دَلِيلٍ يُقَابِلُ القِيَاسَ الجَلِيَّ، وَقَد يَكُونُ ثُبُوتُه بِالأَثَرِ وَ بِالإِجْمَاعِ وَبِالضَّرُورَةِ وَبِالقِيَاسِ الْخَفِيِّ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ إِسْتِحْسَانٌ مُخْتلَفٌ فِيهِ، وَأَمَّا مَذْهبُ الصَّحَابِيِّ فَالأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَيسَ بِحُجَّةٍ، وَقَولُهُ صَلَى اللَّهُ عَليهِ وآلَهُ وَسَلَّمَ: <أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيُّهُمُ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُم>. وَنَحْوَهُ فَالمُرَادُ بِهِ المُقْلِّدُونَ.
خَاتِمَةٌ: إِذَا عَدِمَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عُمِلَ بِدَلِيلِ العَقْلِ، وَالمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ عَاجِلٍ وَلاَ آجِلٍ فَحُكْمُهُ الإِبَاحَةُ عَقْلاً وَقِيْلَ بَلِ الحَظْرُ، وَبعْضُهُم تَوَقَّفَ، وَالحُجَّةُ لَنَا أَنَّا نَعْلَمُ حُسْنَ مَا ذَلِكَ حَالُهُ، كَعِلْمِنَا بِحُسْنِ الإِنْصَافِ وَقُبْحِ الظُّلْمِ، وَاللَّه أَعْلَم.
البَابُ الثَّالِثُ
فِي المَنْطُوقِ وَالمَفْهُومِ
المَنْطُوقُ: مَا دَلَّ عَلَيهِ اللَّفْظُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَإِذَا أَفَادَ مَعْنَى لاَ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ: فَنَصٌّ، وَدَلالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ، وَإِلاَّ فَظَاهِرٌ، وَدَلالَتُه ظَنِّيَّةٌ، قِيلَ: وَمِنهُ العَامُّ.
ثُمَّ النَّصُّ: إِمَّا صَرِيحٌ، وَهُوَ: مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ بِخُصُوصِهِ، وَإِمَّا غَيرُ صَرِيْحٍ، وَهُوَ: مَا يَلزَمُ عَنْهُ.(1/21)
فَإِنْ قُصِدَ وَتَوقَّفَ الصِّدْقُ أَوِ الصَّحَّةُ العَقْلِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ، فَدَلالةُ الإِقْتِضَاءِ، مِثْلُ: <رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ>. {وَاسْأَلِ القَريَةَ}. <وأَعتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ>، وَ إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ وَاقتَرَنَ بِحُكْمٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِتَعلِيلِهِ لَكَانَ بَعِيْداً فَتَنبِيهُ نَصٍّ وَإِيْمَاءٍ، نَحْوَ: <عَلَيْكَ الكَفَّارَةُ> جَوَاباً لِمَنْ قَالَ: جَامَعتُ أَهْلِي فِيْ نَهَارِ رَمَضَانِ. <إنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبُعٍ> <أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ>.
وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ فَدلالَةُ إِشَارَةٍ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلَهُ وَسَلَّمَ: <النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِيْنٍ>، قِيْلَ: وَمَا نُقْصَانُ دِيْنِهِنَّ؟ قَالَ: <تَمْكُثُ شَطْرَ دَهرِهَا لاَتُصَلِّيْ>. فَإِنَّه لَمْ يُقْصَدْ بَيَانُ أَكثَرِ الحَيضِ وَلاَ أَقَلِّ الطُّهرِ، وَلَكِنَّ المُبَالَغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ.
فَصْلٌ: وَالمَفْهُومُ
مَا دَلَّ عَلَيهِ اللَّفْظُ لاَ فِي مَحلِّ النُّطْقِ، وَهُوَ نَوعَانِ:
الأَولُ مُتَّفَقٌ عَلَيه وَيُسَمَّى بِمَفْهُومِ المُوَافَقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ المَسْكُوتُ عَنْهُ موَافقاً لِلمَنْطُوقِ بِهِ فِي الحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ فِيْهِ مَعْنَى الأَوْلَى فَهُوَ فَحوى الخِطَابِ، نَحْو: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَتَنْهَرْهُمَا}، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيْمِ الضَّرْبِ بِطَرِيقِ الأَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِ مَعْنَى الأَوْلَى فَهُوَ لَحنُ الخِطَابِ، نَحوَ قَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مَنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ثَبَاتِ الوَاحِدِ لِلعَشَرَةِ لاَ بِطَريقِ الأَوْلَى.(1/22)
وَ الثَّانِي مُخْتلَفٌ فِيهِ، وَيُسَمَّى: مَفهُومَ المُخَالَفَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ المسكُوتُ عَنهُ مُخَالِفاً لِلمَنْطُوقِ بِهِ فِي الحُكْمِ، وَيُسَمَّى: دَلِيلَ الخِطَابِ، وَهُوَ أَقْسَامٌ: مَفهُومُ اللَّقَبِ، وَهُوَ أَضْعَفُهَا وَ الأَخْذُ بِهِ قَلِيلٌ. وَمَفهُومُ الصِّفَةِ، وَهُوَ أَقْوَى وَ الأَخْذُ بِهِ أَكْثَرُ. ومَفهُومُ الشَّرطِ، وَهُوَ فَوقَهُمَا وَالأَخْذُ بِهِ أَكْثَرُ. وَمَفهُومُ الغَايَةِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْهَا. وَمَفهُومُ العَدَدِ. وَمَفهُومُ إِنَّمَا. وَمَفْهُومُ الإِسْتِثْنَاءِ وَقِيلَ: هُمَا مَنْطُوقَانِ وَشَرْطُ الأَخْذِ بِمَفهُومِ المُخَالَفَةِ عَلَى الْقَولِ بِهِ أَنْ لاَ يَخْرُجَ الكَلاَمُ مَخْرَجَ الأَغْلَبِ، وَلاَ لِسُؤَالٍ أَو حَادِثَةٍ مُتَجِدِّدَةٍ، أَوْ تَقْدِيْرِ جَهَالَةٍ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقتَضِي تَخْصِيصَ المَذْكُورِ بِالذِّكْرِ.
البَابُ الرَّابِعُ في الحَقِيْقَةِ وَالْمَجَازِ
الحَقِيْقَةُ: هِيَ الكَلِمَةُ المسْتَعْمَلَةُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ فِي اصْطَلاحِ التَّخَاطُبِ، وَهِيَ: لُغَويَّةٌ، وَعُرفِيَّةٌ عَامَّةُ، وَاصْطلاحِيَّةٌ، وَشَرعِيَّةٌ، وَدِينيَّةٌ.
ثُمَّ إِنْ تَعَدَّدَتْ لَفظاً وَمَعْنَى فَمُتَبَانِيةٌ، وَإِن اتَّحَدَتْ لَفْظاً وَمَعْنَى فَمُنْفَرِدَةٌ، وَإِنْ تَعدَّدَتْ لَفْظاً وَاتَّحَدَتْ مَعْنَى فَمُتَرَادِفَةٌ، وإِنْ تَعَدَّدَتْ مَعنَى وَاتَّحَدَتْ لَفْظاً؛ فَإِن وُضِعَ اللَّفظُ لِتِلْكَ المَعَانِي بِاعْتِبَارِ أَمرٍ اشْتَركَتْ فِيهِ فَمُشَكِّكٌ، إِنْ تَفَاوَتَتْ، كَالمَوجُودِ لِلقَدِيْمِ وَالمُحْدَثِ، وَإِنْ لَمْ تَتَفَاوَتْ فَمُتَوَاطِئٌ، وَحينئذٍ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ المَعَانِي فَهُوَ الجِنْسُ، كَحَيَوانٍ، وَإِلاَّ فَهُوَ النَّوْعُ كَإِنْسَانٍ، وَبَعْضُهُمْ يَعكِسُ.(1/23)
وَإِنْ وُضِعَ اللَّفظُ الوَاحِدُ لِلمَعَانِي المُتَعَدِّدَةِ لاَ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ اشْتَركَتْ فِيهِ فَهُوَ: المُشْتَركُ اللَّفْظِيُّ، كَعَيْنٍ لِلجَارِحَةِ وَالجَاريَةِ.
فَصْلٌ: وَالمَجَازُ هُوَ الكَلِمَةُ المُسْتَعْمَلَةُ فِي غَيرِ مَا وُضِعَت لَهُ فِي اصْطِلاحِ التَّخَاطُبِ، لِعَلاَقَةٍ مَعَ قَرينَةٍ، وَهُوَ نَوعَانِ:
مُرسَلٌ كَاليَدِ لِلْنِّعْمَةِ، وَالعَينِ للرَّبيئَةِ.
وَاسْتِعَارةٌ كَالأَسَدِ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَكَّباً كَمَا يُقَالُ لِلمُترَدِّدِ فِي أَمرٍ: أَرَاكَ تُقَدِّمُ رِجْلاً وَتُؤَخِّرُ أُخْرَىْ.
وَقَدْ يَقَعُ فِي الإِسْنَادِ مِثلُ: جَدَّ جَدُّهُ، وَلإِستِيفَاءِ الكَلامِ فِي ذَلِكَ فَنٌّ آخَرُ.
وَإِذَا تَردَّدَ الكَلامُ بَينَ المَجَازِ وَ الإِشْتِرَاكِ حُمِلَ عَلَى المَجَازِ، وَيَتَمَيَّزُ المَجَازُ مِنَ الحَقِيقَةِ بِعَدَمِ اطِّرَادِهِ وَصِدقِ نَفيِهِ وَغَيرِ ذَلِكَ.
البَابُ الخَامِسُ فِي الأَمرِ وَالنَّهِيِ
الأَمْرُ: قَولُ القَائِلِ لِغَيرِهِ: إِفْعَلْ: أَوْ نَحوهِ، عَلَى جِهَةِ الإِسْتِعْلاَءِ مُرِيداً لِمَا تَنَاوَلَهُ، وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لِلوُجُوبِ لُغَةً وَشَرْعاً؛ لِمُبَادَرَةِ العُقَلاءِ إِلَى ذَمِّ عَبْدٍ لَمْ يَمتَثِلْ أَمْرَ سَيِّدِهِ، وَلإِسْتِدْلاَلِ السَّلَفِ بِظَوَاهِرِ الأَوَامِرِ عَلَى الوُجُوبِ، وَقَدْ تَرِدُ صِيْغَتُهُ لِلنَّدْبِ، وَالإِبَاحَةِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَغَيرِهَا مَجَازاً.(1/24)
وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يَدُلُّ عَلَى المَرَّةِ، وَلاَ عَلَى التَّكرَارِ، وَلاَ عَلَى الفَوْرِ، وَلاَ التَّرَاخِي، وَإِنَّمَا يُرجَعُ فِي ذَلِكَ إِلَى القَرَائِنِ، وَأَنَّهُ لاَ يَستَلزِمُ القَضَاءَ، وَإِنَّمَا يُعلَمُ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَتَكرُّرُهُ بِحَرفِ العَطفِ تَقتَضِي تِكْرَارَ المَأْمُورِ بِهِ اتِّفَاقاً، وَكَذَا بِغَيْرِ عَطفٍ عَلَى المُخْتَارِ، إِلاَّ لِقَرينةٍ مِنْ تَعْرِيْفٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا وَرَدَ الأَمرُ مُطلَقاً غَيرَ مَشْروطٍ وَجَبَ تَحصيلُ المأْمُورِ بِهِ وَتَحْصِيلُ مَالاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ، حَيثُ كَانَ مَقدُوراً لِلمَأْمُورِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الأَمرَ بِالشَّيءِ لَيْسَ نَهْياً عَنْ ضِدِّهِ، وَلاَ العَكْسَ.
فَصْلٌ: وَالنَّهِيُ: قَوْلُ القَائِلِ لِغَيرِهِ: لاَتَفْعَلْ. أَوْ نَحْوِهِ، عَلَى جَهَةِ الإِستِعْلاَءِ كَارِهاً لِمَا تَنَاوَلَه النَّهيُ، وَيقْتَضِي مُطلَقُه الدَّوَامَ، لا مُقَيَّدُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى قُبْحِ المَنْهِيِّ عَنْهُ، لاَ فَسَادِهِ عَلَى المُخْتَارِ.
البَابُ السَّادسُ فِي العُمُومِ. وَالخُصُوصِ. وَالإِطْلاَقِ. وَالتَّقْيِيدِ
العَامُّ هُوَ: اللَّفظُ المُسْتَغرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ دُونِ تَعْيينِ مَدْلُولِهِ وَلاَ عَدَدِهِ، وَالخَاصُّ بِخِلافِهِ.
وَالتَّخصِيصُ إِخْرَاجُ بَعضِ مَا تَنَاولَهُ العَامُّ.
وَأَلْفَاظُ العُمُومِ: كُلُّ، وَجَمِيْعُ، وَأَسْمَاءُ الإِسْتِفْهَامِ، وَالشَّرطِ، وَ النَّكِرَةُ المَنْفِيَّةُ، وَالجَمْعُ المُضَافُ، وَالمَوصُولُ الجِنْسِيُّ، وَالمُعَرَّفُ بِلاَمِ الجِنْسِ مُفْرَداً أَوْ جَمْعاً.(1/25)