وَالمُرسَلُ: مَا لَمْ يَثْبُتْ اعتبَارُهُ بِشيءٍ مِمَّا سَبَقَ وَهْوَ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ: مُلاَئِمٌ، وَغَرِيبٌ، وَمَلْغيٌّ، فَالمُلائِمُ المُرسَلُ: مَالَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ بِالإِعتِبارِ، لكِنَّهُ مُطابِقٌ لِبَعْضِ مَقاصِدِ الشَّرْعِ الجُمْلِيَّةِ، كَقَتْلِ المُسْلِمِينَ المُتَرَّسِ بِهِمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَكَقَتْلِ الزِّنْدِيْقِ وَإِنْ أَظهَرَ التَّوبَةَ، وَكَقَولِنَا: يَحرُمُ عَلى العَاجِزِ عَنِ الوَطْءِ مَن تَعْصِى لِتَركِهِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوعُ هُوَ المَعْروفُ المسَمَّى بِالمَصَالِحِ المُرسَلَةِ وَ المَذْهبُ اعْتَبَارُهُ.
وَالغَريْبُ المُرسَلُ: مَا لاَ نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرعِ، لكِنَّ العَقْلَ يَستحسِنُ الحُكْمَ لأَجْلِهِ، كَأنْ يُقَالَ فِي البَاتِّ لِزوجَتِهِ فِي مَرضِهِ المخوفِ لئلاَّ تَرِثَ مِنْهُ: يُعامَلُ بِنُقيضِ قَصْدِهِ، فَتُوَرَّثُ قِياساً عَلَى القاتِلِ عَمْداً، حَيْثُ عُورِضَ بِنَقيضِ قَصْدِهِ فَلم يُؤَرَّثْ، بِجَامِع كونِهما فَعَلاَ فِعْلاً محَرَّماً لِغَرضٍ فَاسِدٍ، فإِنَّهُ لَمْ يَثْبتْ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ العِلَّةُ فِي القاتِلٍ وَلاَغَيرِهِ.(1/11)


وَأمَّا المَلْغيُّ فَهُوَ مَا صَادَمَ النَّصَّ، وَ إِن كَانَ لِجِنْسِهِ نَظِيْرٌ فِي الشَّرْعِ، كَإِيجَابِ الصَّومِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُظَاهِرِ وَنَحْوِهِ، حِيثُ هُوَ مِمَّنْ يَسْهُلُ عَلَيهِ العِتْقُ زِيَادَةً فِي زَجرهِ، فإِنَّ جنْسَ الزَّجْرِ مَقصُودٌ فِي الشَّرْع، لَكِنَّ النَّصَّ مَنَعَ إعتِبَارَهُ هُنَا فأُلْغِيَ، وَهَذَانِ مُطْرُوحَانِ اتِّفَاقاً، قِيْلَ: وَمِنْ طُرِقِ العِلَّةِ الشَّبَهُ، وَهُوَ: أَنْ يُوهِمَ الوَصْفُ المنَاسَبَةَ بِأَن يَدُورَ مَعَهُ الحُكْمُ وُجوداً وَعَدماً، مَعَ إِلْتِفَاتِ الشَّارعِ إليهِ، كَالكَيلِ فِي تَحريمِ التَّفَاضُلِ عَلَى رَأيٍ، وَكَمَا يُقَالُ: فِي تَطْهِيْرِ النَّجسِ طَهَارةٌ تُرَادُ للصَّلاةِ فَيَتَعَيَّنُ لَهَا الماءُ كَطَهَارَةِ الحَدَثِ بِجَامِعِ كَونِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَهَارةً تُرَادُ للصَّلاةِ.
اعترَاضَاتُ القِيَاسِ خَمْسَةٌ وَعِشْرٌوْنَ نَوعاً:
الإِسْتِفْسَارُ: وَهُوَ بَيَانُ مَعْنَى اللَّفظِ وَهُوَ نُوعٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يُسْتَمَعُ إِذَا كَانَ فِي اللَّفظِ إِجْمَالٌ أَوْ غَرَابةٌ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ إِذَا اسْتُدِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}، فَيُقَالُ مَا المُرَادُ بِالنِّكَاحُ هَلِ الوَطْءُ أَوِ العَقْدُ. وَجَوابُهُ ظَاهِرٌ فِي العَقْدِ شَرْعاً أَوْ لأَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَىَ المرأَةِ.(1/12)


النَّوعُ الثَّانِي: فَسَادُ الإِعْتِبَارِ وَهُوَ مُخَالَفةُ القِيَاسِ لِلنَّصِّ مِثَالُهُ أَن يُقَالَ فِي ذَبحِ تَاركِ التَّسْميَةِ عَمْداً فِي مَحَلِّهِ كَذَبحِ نَاسِي التَّسْميَةِ فَيَقُولُ المعْتَرضُ هَذَا فَاسِدُ الإِعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ قَولَهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، فَيَقُولُ المُسْتَدلُ هَذَا مُؤَوَّلٌ بِذَبْحِ عَبَدةِ الأَوْثَانِ بدَلِيلِ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ: <ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ المُؤْمِنِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ>، وَنَحوَ ذَلِكَ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: فَسَادُ الْوَضْعِ وَحَاصِلُه إِبْطَالُ وَضْعِ الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالوَصْفِ الجَامِعِ نَقَيْضُ ذَلِكَ الحُكْمِ، مِثَالُه: أَنْ يُقَالَ فِي التَيَمُّمِ مَسحٌ فَيُسَنُّ فِيْهِ التَّكرَارُ كَالإِسْتجْمَارِ فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ المَسْحُ لاَيُنَاسِبُ التَّكْرَارَ لأَنَّه ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ فِي كَرَاهَةٍ فِي المَسْحِ عَلَى الخُفِّ فَيَقولُ المُستَدِلُّ إِنَّمَا كُرِهَ التَّكْرَارُ فِي المَسْحِ عَلَى الخُفِّ لِمَانِعٍ وَهُوَ التَّعْرِيضُ لِتَلَفهِ.
الرَّابعُ: مَنْعُ حُكمِ الأَصْلِ، مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ المَسْتَدِلُّ جِلدُ الخِنْزِيْرِ لاَ يَقْبَلُ الدِّبَاغَ لِنَجَاسَتِهِ المغَلَّظَةِ كَالْكَلْبِ فَيَقولُ المُعتَرِض لاَ نُسَلِّمُ أَنَّ جِلدَ الْكَلْبِ لاَ يَقْبَلُ الدِّبَاغَ وَجَوابُهُ بِإِقَامَةِ الدَّلِيْلِ.(1/13)


الخَامِسُ: التَّقْسِيْمُ وَحَقِيْقَتُهُ أَنْ يَكُونَ اللَّفظُ مُتَردِّداً بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ مِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي الصَّحِيحِ الحَاضِرِ إِذَا فَقَدَ المَاءَ وُجِدَ سَبَبُ جَوَازِ التَّيَمُمِ وَهُوَ تَعَذُّرُ المَاءِ فَيَجُوزُ التَّيَمُمُ. فَيَقُولُ المُعْتَرضُ أَتُرِيْدُ أَنَّ تَعَذُّرَ المَاءُ مُطْلَقاً سَبَبٌ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ أَوْ تَعَذُّرَهُ فِي السَّفَرِ أَوْ المَرَضِ فَالأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَجَوابُهُ مِثْلُهُ بِإِقَامَةِ الدَّلَيْلِ عَلَى الإِطْلاقِ.
السَّادِسُ: مَنْعُ وُجُودِ المُدَّعى عِلَّةً فِي الأَصلِ مِثَالُه أَنْ يُقَالَ فِي الكَلْبِ حَيَوَانٌ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعاً فَلاَ يَقْبَلُ جِلْدُه الدِّبَاغَ كَالخَنْزِيْرِ فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ لاَ نُسَلِّمُ أَنَّ الخِنْزِيرَ يُغْسَلُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعاً وَجَوَابُهُ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ فِي الخَنْزِيرِ.
السَّابِعُ: مَنْعُ كَوْنِ ذَلِكَ الوَصفِ عِلَّةً مِثَالُه أَنْ يُقَالَ فِي المِثَالِ السَّابِقِ لاَ نُسَلِّمُ أَنَّ كَونَ الخِنزيرِ يُغسَلُ مِنْ وُلوغِهِ سَبْعاً هُوَ العِلَّةُ فِي كَونِ جِلْدِه لاَيَقْبَلُ الدِّبَاغَ. وَجَوابُهُ بإِثْبَات العِلَّةِ بِإِحْدى الطَّرُقِ.
الثَّامِنُ: عَدَمُ التَّأْثِيْرِ وَهُوَ أَنْ يُبْدِيَ المُعْتَرِضُ فِي قِيَاسِ المُستَدِلِّ وَصْفاً لاَ تأثيرَ لَهُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمِنْ أَمْثِلَتهِ قَوْلُ الحَنفيَّةِ فِي المرْتَدِّينَ إِذَا أَتْلَفُوا أمْوالَنَا مُشْرِكُونَ أَتلَفُوا أَموَالاً فِي دَارِ الحَرْبِ فَلا ضَمَانَ عَلَيْهم كَسَائِر المُشْرِكِيْنَ. فَيَقُولُ المُعْتَرِضُ دَارُ الحَربِ لاَ تَأْثِيْرَ لَهَا فِي عَدمِ الضَّمَانِ عِنْدَكُمْ.(1/14)


التَّاسِعُ: القَدْحُ فِي إِفْضَاءِ المُنَاسِبِ إِلَى المَصْلَحَةِ المَقْصُودَةِ مِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي عِلَّةِ تَحْريْمِ مُصَاهَرةِ المَحَارِمِ عَلَى التَّأْبِيْدِ إِنَّهَا الحَاجَةُ إِلَى ارْتِفَاعِ الحِجَابِ وَوَجْهُ المُنَاسَبَةِ أَنَّ التَّحْرِيْمَ المُؤَبَّدَ يَقَطعُ الطَّمَعَ فِي الفُجُورِ. فَيَقُولُ المُعْتَرضُ لاَ نُسْلِّمُ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَفضَى إِلَى الفُجُورِ لِسَدِّهِ بَابَ النِّكَاحِ. وَجَوَابُهُ بِأَنَّ رَفعَ الحِجَابِ عَلَى الدَّوَامِ مَعَ اعتقَادِ التَّحْرِيمِ لاَيَبْقَى مَعَهُ المَحَلُّ مُشْتَهاً طَبعاً كالأُمَّهَاتِ.
العَاشِرُ: القَدْحُ فِي المُنَاسَبَةِ وَهُوَ إِبْدَاءُ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ مُسَاوِيَةٍ. وَجَوابُهُ: بِتَرجِيحِ المَصْلَحَةِ عَلَى المَفْسَدَةِ. وَمَنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يُقَالَ التَخَلِّي لِلعبَادَةِ أَفضَلُ لِمَا فِيْهِ مِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ. فَيَقُولُ المعتَرِضُ لكِنَّهُ يَفُوتُ أَضْعَافُ تِلْكَ المَصْلَحَةِ كَإِيْجَادِ الوَلَدِ وَكفِّ النَّظَرِ وَكَسْرِ الشَّهْوَةِ. وَجَوابُهُ: بَأَنَّ مَصْلَحَةُ العِبَادَةِ أَرجَحُ إِذْ هِيَ لِحِفْظِ الدِّيْنِ وَمَا ذَكَرْتُ لِحِفظِ النَّسْلِ.
الْحَادِي عَشَرَ: عَدَمُ ظُهُورِ الْوَصْفِ المُدَّعَى عِلَّةً كَالرِّضَى فِي العُقُودِ وَ الْقَصْدِ فِي الأَفْعَالِ. وَالجَوابُ ضَبْطُهُ بِصِفَةٍ ظَاهِرةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ عَادَةً كَصِيَغِ العُقُودِ عَلَى الرِّضَى وَاسْتِعمَالِ الجارِحِ فِي المَقْتَلِ عَلَى العَمْدِ.(1/15)

3 / 8
ع
En
A+
A-