هُوَ: اتِّفَاقُ المُجْتَهِدِيْنَ العُدُولِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ. وَالمُخْتَارُ أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِهِ إِنْقِرَاضُ العَصْرِ، وَلاَ كَوْنُهُ لَمْ يَسْبِقْهُ خِلاَفٌ، وَ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إِليْنَا، وَأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ قِيَاساً أَوْ اجْتِهَاداً، وَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ إِجمَاعٌ بَعْدَ الإِجْمَاعِ عَلَى خِلاَفِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بِالشَّيْخَيْنِ، وَلاَ بِالأَرْبَعَةِ الخُلَفَاءِ، وَلاَ بِأَهْلِ المَدِينَةِ وَحْدَهُمْ إِذْ هُمْ بَعْضُ الأُمَّةِ، قَالَ الأَكْثَرُ: وَلاَ بِأَهْلِ الْبَيتِ عَليْهُمُ السَّلاَمُ وَحْدَهُمْ كَذَلِكَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: جَمَاعَتُهُمْ مَعْصُومَةٌ بِدَلِيلِ: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ}الآيَةِ. <أَهْلُ بَيْتِي كَسَفِيْنَةِ نُوحٍ>. <إِنِّيْ تَارِكٌ فِيْكُمْ..> الخَبَرَيْن، وَنَحْوَهُمَا.
وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ، مَا لَم يَرفَعِ الأَوَّلَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِحْدَاثُ دَلِيلٍ، وَتَعْلِيلٍ، وَتأوِيلٍ ثَالثٍ.(1/6)


وَطَرِيْقُنَا إِلَى الْعِلْمِ بِانْعِقَادِ الإِجمَاعِ: إِمَّا المُشَاهَدةُ، وَإِمَّا النَّقْلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ المُجمِعِيْن أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ مَعَ نَقْلِ رِضَى السَّاكِتِيْنَ، وَيُعْرَفُ رِضَاهُمْ بِعَدَمِ الإِنْكَارِ مَعَ الإِشْتِهَارِ، وَعَدَمِ ظُهُورِ حَامِلٍ لَهُم عَلَى السُّكُوتِ، وَكَونِهِ مِمَّا الحَقُّ فِيْهِ مَعَ وَاحِدٍ، وَيُسمَّى: هَذا إِجْمَاعاً سُكوتِيّاً. وَهُوَ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ وَإِنْ نُقِلَ تَوَاتُراً، وَكذَلِكَ الْقَوْليُّ إِنْ نُقِلَ آحَاداً، فَإِنْ تَوَاتَرَ فَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، يَفْسُقُ مُخَالِفِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ المُؤْمِنِيْنَ}، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، وَلِقَوْلِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ <لَنْ تَجْتَمِعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ>. وَنَحْوَهُ كَثِيْرٌ، فَفِيْهِ تَوَاتُرٌ مَعْنَوِيٌّ، وَلإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَخْطِئَةِ مَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ، وَمِثْلُهُم لاَ يُجْمِعُ عَلَى تَخْطِئَةِ أَحَدٍ فِيْ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ إِلاَّ عَنْ دَلَيلٍ قَاطِعٍ.
فَصْلٌ: وَالقِيَاسُ
حَملُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ بِإِجْراءِ حُكْمِهِ عَليهِ بِجَامعٍ. وَيَنْقَسِمُ إِلَى: جَلِيٍّ، وَخَفِيٍّ، وَإِلَى: قِيَاسِ عِلَّةٍ، وَقِيَاسِ دَلاَلَةٍ، وَإِلَى قِيَاسِ طَرْدٍ، وَقِيَاسِ عَكْسٍ، وَقَدْ شَذَّ المُخَالِفُ فِيْ كَوْنِهِ دَلِيلاً، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ، إِذْ كَانُوا بَيْنَ قَائِسٍ وَسَاكِتٍ سُكُوتَ رِضاً، وَ المسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ.(1/7)


وَلاَ يَجْرِي القِيَاسُ فِيْ جَمِيعِ الأَحْكَامِ إِذْ فِيْهَا مَالاَ يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَ القِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّل المَعْنَى، وَيَكْفِي إِثْبَاتُ حُكْمِ الأَصْلِ بِالدَّلِيْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْمَعاً عَلَيْه، وَلاَ اتَّفَقَ عَلَيهِ الخَصْمَانِ عَلَى المُخْتَارِ.
وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: أَصْلٌ، وَفَرعٌ، وَحُكْمٌ، وَعِلَّةٌ.
فَشُرُوطُ الأَصْلِ: أَنْ لاَ يَكُوْنَ حُكمُه مَنْسُوخاً، وَلاَ معْدُولاً بِهِ عَنْ سُنَنِ القِيَاسِ، وَلاَ ثَابِتاً بِقِيَاسٍ.
وَشُرُوطُ الفَرْعِ مُسَاواةُ أَصْلهِ فِي عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ، وَفِيْ التَّغْلِيظِ وَالتَّخْفِيفِ، وَأَنْ لاَ يَتَقَدَّمَ حُكمُهِ عَلَى حُكْمِ الأَصْلِ، وَأَنْ لاَ يَرِدَ فِيهِ نَصٌّ.
وَشُرُوطُ الحُكْمِ هَنَا أَنْ يَكُونَ شَرْعِياَّ، لاَ عَقْلِياًّ، وَلاَ لُغَوِياًّ.
وَشُرُوطُ الْعِلَّةِ أَنْ لاَ تُصَادِمَ نَصاًّ وَلاَ إِجْمَاعاًّ، وَأَنْ لاَ يَكُونَ فِيْ أَوْصَافِهَا مَالاَ تَأْثِيرَ لَهُ فِي الحُكْمِ، وَأَنْ لاَ تُخَالِفَهُ فِي التَّغْلِيظِ وَ التَّخْفِيفِ، وَ أَنْ لاَ تَكُونَ مُجَرَّدَ الإِسْمِ إِذْ لاَ تَأْثِيرَ لَهُ، وَأَنْ تَطَّرِدَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَنْ تَنْعَكِسَ عَلَى رَأيٍ، وَ يَصِحُ أَنْ تَكُونَ نَفْياً، وَأَنْ تَكوُنَ إِثْبَاتاً، وَمُفْرَدَةً، وَمُرَكَّبَةً، وَقَدْ تَكُوْنُ خَلْقاً فِي مَحَلِّ الحُكْمِ، وَقَدْ تَكُونُ حُكْماً شَرْعِياًّ، وَقَدْ يَجِيءُ عَنْ عِلَّةٍ حُكْمَانِ، وَيَصِحُّ تَقَارْنُ العِلَلِ وَتَعَاقُبُهَا، وَمَتَى تَعَارَضَتْ فَالتَّرْجِيحُ.
وَطُرقُ العِلَّةِ أرْبعٌ عَلَى المخُتَارِ:
أَوَّلُهَا الإِجْمَاعُ، وَذَلِكَ أَن يَنْعَقِدَ عَلَى تَعْلِيلِ الحُكْمِ بِعِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.(1/8)


وَثَانِيهَا النَّصُّ، وَهُوَ: صَرِيحٌ وَغَيْرُ صَرِيحٍ. فَالصَّريحُ مَا أُتِيَ فِيهِ بِأَحَدِ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ، مِثْل: لِعِلَّةِ كَذَا أَوْ لأَجْلِ كَذَا، أَوْ لأَنَّهُ، أَوْ فَأَنَّهُ، أَوْ بِأَنَّهُ، أَوْ نَحو ذَلِكَ. وَغَيْرُ الصَّريحِ مَا فُهِمَ التَّعلِيلُ لاَ عَلَى وَجْهِ التَّصْريحِ، وَيُسمَّى: تَنبيهَ النَّصِّ، مِثلُ: <أَعْتِقْ رَقَبَةً> جَوَاباً لِمَنْ قَالَ: جَامَعتُ أَهْلي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَقَريبٌ مِنْهُ: <أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيْكِ دَينٌ>، الخَبَرَ. وَمِثلُ: <لِلرَّاجلِ سَهْمٌ وَلِلفَارِسِ سَهْمَانِ>. وَمثلُ: <لاَ يَقْضِ القَاضِي وَهُوَ غَضْبَانٌ>، وَغَيرُ ذَلِكَ.
وَثَالِثُهَا: السَّبْرُ وَالتَّقسيْمُ، وَيُسمَّى: حُجَّةَ الإِجْمَاعِ، وَهُوَ: حَصْرُ الأَوْصَافِ فِي الأَصْلِ، ثُمَّ إِبْطالُ التَّعْلِيلِ بِهَا إِلاَّ وَاحِداً، فَيَتعيَّنُ، وَإِبْطَالُ مَا عَدَاهُ إِمَّا بِبَيَانِ ثُبوتِ الحُكْمِ مِنْ دُونِهِ، أَوْ بِبَيانِ كَوْنِهِ وَصفاً طَرْدِياًّ، أَوْ بِعَدَمِ ظُهُورِ مُنَاسَبَتِهِ، وَشَرطُ هَذَا الطَّرِيقِ وَمَا بَعْدَهُ الإِجْمَاعُ عَلَى تَعْلِيلِ الحُكْمِ فِي الجُمْلةِ مِن دُونِ تَعْيينِ عِلَّةٍ.
وَرَابِعُهَا الْمُنَاسَبةُ، وَتُسَمَّى: الإِخَالَةَ، وَتَخْريجَ المنَاطِ، وَهِيَ تَعْيينُ العِلَّةِ بِمُجَرَّدِ إِبْتِدَاءِ مُنَاسَبَةٍ ذَاتِيَّةٍ، كَالإِسْكَارِ فِي تَحْرِيمِ الخَمْرِ، وَكَالجِنَايَةِ العَمْدِ العدْوانِ فِي القِصَاصِ، وَ تَنخَرِمُ المُنَاسَبةُ بِلُزومِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحةٍ أَوْ مُسَاوِيَة، وَ المُنَاسبُ وَصَفٌ ظَاهِرٌ مُنْضَبِطٌ، يَقْضِي العَقْلُ بأنَّهُ البَاعِثُ عَلَى الحُكْمِ، فَإِنْ كَانَ خَفِياًّ أَوْ غَيرَ مُنْضَبِطٍ أُعْتُبِرَ مُلاَزِمُهُ وَ مَظِنَّتُه كَالسَّفَرِ لِلمَشَقَّةِ.(1/9)


وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مُؤثِّرٌ، وَمُلاَئِمٌ، وَغَرِيبٌ، وَمُرْسَلٌ.
فَالمُؤثِّرُ: مَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَينهِ فِي عَينِ الحُكْمِ، كَتَعْلِيلِ وِلاَيَةِ المَالِ بِالصِّغَرِ الثَّابِتِ بِالإِجْمَاعِ، وَكَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الوُضُوءِ بِالحَدَثِ الخَارِجِ مِنْ السَّبَيلينِ الثَّابتِ بِالنَّصِّ.
وَالمُلاَئِمُ: مَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ بِتَرَتُّبِ الحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ فَقَطْ، لَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِنَصٍّ أّوْ إِجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَينِهِ فِي جِنْسِ الحُكْمِ، كَمَا ثَبَتَ لِلأَبِ نِكَاحُ ابْنَتِهِ الصَّغيرَةِ، قِيَاساً عَلَى وَلاَيَة الْمَالِ بِجَامِعِ الصِّغَرِ فِي جِنْسِ الوَلاَيَةِ، فَقَد اعْتُبِرَ عَيْنُ الصِّغَرِ فِي جِنْسِ الوَلاَيَةِ، أَوْثَبَتَ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ فِي عَينِ الحُكْمِ، كَجَوَازِ الجَمْعِ فِي الحَظَرِ لِلمَطَرِ، قِيَاساً عَلَى السَّفَر، بِجَامِعِ الحَرَجِ، فَقَد أُعْتُبِرَ جِنسُ الحَرَجِ فِي عَيْنِ رُخْصَةِ الجَمْعِ، أَوْ إِعْتِبَارُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الحُكْمِ، كَإِثبَاتِ القِصَاصِ بِالمُثَقَّلِ قِيَاساً عَلَى المَحدَّدِ بِجَامِع كَونِهمَا جِنَايَةً عَمداً عُدْوَاناً، فَقَدْ أُعْتُبِرَ جِنْسُ الجِنَايَةِ فِي جنسِ القِصَاصِ.
وَ الغَريبُ: مَا ثَبَتَ إِعتبَارُه بِمُجَرَّدِ تَرَتُّبِ الحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِنَصٍّ وَلاَ إِجْمَاعٍ إِعْتِبَارُ عَيْنِهِ وَلاَ جِنسِهِ فِي عَينِ الحُكْمِ وَلاَ جنسِهِ، كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ بِالإِسْكَارِ، قِيَاساً عَلَى الخَمْر عَلَى تَقدِيرِ عَدمِ وُرودِ النَّصِّ بِأَنَّهُ العِلَّةُ فِي تَحريْمِ الخَمْرِ.(1/10)

2 / 8
ع
En
A+
A-