ومما يدلك أن فيهم العدل وغيره وأنه قد وقع الكذب منهم ما سبق من حديث أمير المؤمنين من قوله: إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً وصدقاً وكذباً... إلى أن قال: وقد كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم في عهده... إلى أن قال فيه: وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم متعمداً...الخ. قال في الرسالة المنقذة ما لفظه: ومع تأصيلهم أن الصحابة كلهم عدول وقد سمعوا قول اللّه عز وجل لهم خاصة: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}، وقوله: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردو على النفاق}، وقال عز وجل في المخلفين: {يريدون أن يبدلوا كلام اللّه}... إلى أن قال فيها: نحو ما في صحيح البخاري عن ابن عباس: (( أن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام، وأنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك... )) الخبر.(1/11)
وفي حديث ابن مسعود: (( ليرفعن رجال منكم )) ونحوه. وفي حديث حذيفة وفي حديث أنس: (( ليردن عليَّ ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني.. )) الخبر. وفي رواية أبي هريرة: (( يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلئون عن الحوض.. )) الخبر. وفي حديث ابن المسيب: (( يرد عليّ الحوض رجال من أصحابي فيجلئون عنه .. )) الخبر. ونحو ما روى مسلم: (( ترد عليّ أمتي الحوض.. )) إلى قوله: (( وَيُصَدُّنَّ عني طائفة.. )) الخبر، وفي أخرى: (( ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني.. )) الخبر. ولأحمد بن حنبل: (( رجال ممن صحبني ورآني)) إلى روايات أخر فإن هذه الأحاديث إن كانت صحيحة وصدقاً فكيف يقال كلهم عدول، وإن كانت كذباً وخطأً فقد رووا الكذب والخطأ، وقد وسع ابن بهران نفسه في شرح بعض هذه الأحاديث المذكورة وبين ألفاظها ومخرجيها... إلى أن قال فيها: ومن جملة ذلك قوله أي ابن بهران: وأما معاوية وأصحابه فلا تأويل لهم بل هم طلبة ملك قطعاً وخارجون من الدين عمداً، والعجب ممن عكس القضية وعرف النصوص القرآنية والنبوية وحشى في حديث الرسول ... إلى آخر كلامه، انتهى.
وقد سبق في حديث أمير المؤمنين في أن المنافق أحد الأربعة، وأنه لا يأثم ولا يتحرج يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم متعمداً وقد جعل اللّه سبحانه حب علي عليه السلام أمارة الإيمان وبغضه أمارة النفاق. قال في شرح خطبة الأثمار في الحديث الصَّحيح المتلقى بالقبول وهو قوله صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم: (( لا يحبك يا علي إلاَّ مؤمن ولا يبغضك إلاَّ منافق ))، وفي أمالي أبي طالب بإسناده إلى أبي سعيد، قال: إنَّما كنا نعرف منافقي الأنصار ببغضهم علياً عليه السلام. ومثله في درر السمطين، انتهى ومن المعلوم أن من الصحابة الباغضين له كالسابين له والمقاتلين له والمكفرين له وغيره.(1/12)
وفي أمالي المرشد بالله بإسناده إلى أنس، قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( العلماء أمناء الأنبياء مالم يخالطوا السلطان، فإن خالطوا السلطان فاتهموهم واحذروهم على دينكم )) وفي الجامع الصغير عن أنس، عن النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: (( العلماء أمناء الرسل مالم يخالطوا السلطان ويداخلوا الدنيا فإذا خالطوا السلطان ودخلوا في الدنيا فقد خانوا الرسل فاحذروهم )) ومنهم قطعاً من خالط السلطان الجائر، وقد تواتر قوله صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم لعمار: (( تقتلك الفئة الباغية ))، وفي حديث لأحمد بن حنبل حديث عمار: أخبرني حذيفة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنَّه قال: (( في أصحابي اثني عشر منافقاً فيهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط )) وفي رواية: كان أصحاب العقبة أربعة عشر وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب اللّه ورسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
وفي الاعتصام، وقال الحاكم في كتاب معرفة أصول الحديث: وقد جرح وعدل أبو بكر وعمر وعلي عليه السلام وزيد بن ثابت وبحثوا عن صحيح الرواية وسقيمها. قال الإمام القاسم عليه السلام: وكذا غيرهم من الصحابة مثل ابن مسعود وعثمان وجماعة من بني أمية وغيرهم ممن رأى النبي صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم، انتهى.
وقد وقع منهم الغدر لمن بغضه نفاق كما يصدق به قول الرسول صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الحاكم النيسابوري في المستدرك ورواه غيره من أهل البيت وغيرهم من قوله صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم: (( إن الأمة ستغدر بك يا علي))، وقوله: (( إنك يا علي ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين))(1).
__________
(1) ـ في الأم الناكثين والمارقين والقاسطين. تمت(1/13)
وقد مال كثير منهم عن علي عليه السلام منهم من نكث بيعته بعد لزومها ومنهم من زاد إلى ذلك المروق عن أحكام الشريعة ورسومها، ومنهم من قسط وبغى وأفرط في تقحيمه على حدود الملة المحمدية، ومنهم من تأخر وتوقف وتثبط وشبط في القيام مع الإمام في قتال الفئات المذكورات وإجراء أحكام اللّه سبحانه عليها.
قال الحاكم: وذكر ـ يعني الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام ـ بإسناده عن أبي مريم الحنفي قال: كنت أصلي خلف أبي موسى بالكوفة فلما صلى يوماً الفجر، قال: قدم الليلة رجل من خيار أصحاب محمد صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم عمار بن ياسر فمن أحب أن ينطلق معي فليفعل فإن له حقاً فانطلقنا ودخلنا عليه وسلمنا وسلم أبو موسى فما سمعناه رد، ثُمَّ كان أول كلامه أن قال: يا عبد اللّه بن قيس: أنت المثبط الناس عن علي وأنت الذي تقول: اقطعوا أوتار قسيكم؟ ويلك فمن يضرب خراطيم الفتن؟ وأين قول اللّه تعالى: {قاتلوهم حتى لا تكون فتنة} وأنت القائل: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم قال: (( ستكون فتنة النائم فيها خير من اليقظان )) ويلك يا عبد اللّه ابن قيس، أما سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم يقول: (( من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ))، وأنا أشهد أنك كذبت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم، قال: فرأيت أبا موسى يتفزع كما يتفزع الديك، وقام وخرج. انتهى، فاعرف هذا.
[الجرح من أجل المذهب]
ثُمَّ اعلم أن المحدثين قد التزموا لوازم كانت قواعداً لكل ضلالة مثل التزام تعديل الفساق والمنافقين والبغاة والناكثين، وإيجاب طاعة الفجار المتغلبين وجرحهم للعدول.(1/14)
قال في الإقبال: أكثر المحدثين معتمدون في رواياتهم على اتباع بني أمية وبني العباس وذلك معروف بمطالعة السير والتواريخ، ويوثقونهم ويمدحونهم كما قال العجلي في عمرو بن سعد أمير الحبيش الذين قتلوا سبط رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم الحسين ابن علي ابن أبي طالب عليهما السلام وسبوا محارم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم تابعي ثقة روى عنه الثقات، وكذلك الزهري هو أعدل العدول عندهم إمام رواتهم، حديثه معتمد عليه في الصحاح الستة وغيرها... إلى أن قال فيه: قال الحافظ المراكشي: الجرح بالبدع كان كثيراً في المتقدمين إلى حد ثلاثمائة والمراد بالبدع عندهم ما خالف مذاهبهم ولو كان حقاً ويتصدون لانتقاص أكابر أهل البيت عليهم السلام.
قال السيد صارم الدين: ومن طالع تراجم الرجال عرف أن أكثر الجرح إنَّما هو بالمعتقدات ـ يعني المخالفة لما ذهب إليه الجارح ـ قال: وقد تفاحش الأمر في ذلك بين أهل المذاهب فروعاً وأصولاً ومنقولاً ومعقولاً حتى يروى أن بعض الشافعية كان يمر بمساجد الحنابلة فيقول: أما آن لهذه الكنائس أن تسد. وبين فرق الفقهاء أمور ومقالات يضيق المقام عن ذكرها، وكذا بين الحنابلة والأشاعرة، وبين سائر الفرق من المتكلمين وغيرهم؛ بل وبين الطائفة الواحدة، وكذا بين الشيعة والسنة وجرت بينهم في بغداد فتن لا تطاق وأحرق بسبب ذلك غير مرة باب الطاق.(1/15)