(وإن لم يقصد) ذلك اللازم (فدلالة إشارة) أي: فهو المسمى بدلالة الإشارة ، وأمثلتها كثيرة أشار إلى كثرتها بالكاف :
منها: ورود كلام الحكيم بمدة مضروبة لأمرين ثم يرد بعد ذلك بقدر من تلك المدة لأحدهما فإنه يدل على أن باقي المدة للأمر الآخر كقوله تعالى?وحمله وفصاله ثلاثون شهراً?[الأحقاف آية 15] مع قوله ?وفصاله في عامين?[لقمان آية 14] فإنه يعلم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وليس مقصوداً في الآيتين بل المقصود في الأولى بيان حق الوالدة وما تقاسيه من التعب, والمشقة, في الحمل ,والفصال. وفي الثانية بيان مدة الفصال ولكن لزم منه ذلك كما ترى . روي أن أول من استنبط ذلك أمير المؤمنين عليه السلام ,وقيل: ابن عباس .
ومنها: وروده بحدوث شيءٍ(1)في وقت له اسم ثم يرد مرة أخرى بحدوثه مرة أخرى في وقت له اسم غير الاسم السابق(2)فيعلم أن المسمى بالاسم الثاني هو الأول أو بعضه. مثاله قوله تعالى ?شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن?[البقرة آية 185] مع قوله ?إنَّا أنزلناه في ليلة القدر?[القدر...] فيعلم أن ليلة القدر أحد ليالي رمضان إذ لا تكون كله روي هذا الاستنباط عن ابن مسعود والله أعلم .
__________
(1) ـ وهو القرآن في المثال.
(2) ـ وهو شهر رمضان .(1/271)
ومنها: قوله تعالى ?فما لكم عليهن من عدة تعتدّونها?[الأحزاب آية 49] فإنها تدل على أن العدة حق للزوج فتسقط نفقتها بنشوزها فيها وقوله تعالى ?فالآن باشروهن?[البفرة 186] الآية فإنها تدل على جواز إصباح الصائم جُنباً وعدم إفساد الصوم ولم يقصد بذلك في الآيتين و(كقوله النساء ناقصات عقل ودِين) فلما (قيل) له (وما نقصان دينهن ؟ قال تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي)(1) وأمَّا نقصان عقلهن فلأن شهادة المرأتين برجل (فإنه) (لم يقصد) بذلك (بيان أكثر الحيض ولا أقل الطهر ولكن المبالغة) في نقصان دينهن التي قصدها (تقتضي ذلك) أي كون أكثر الحيض نصف عمر المرأة وأقل الطهر كذلك, إذ لو كان زمن أيهما أقل أو أكثر لذكره, فاللفظ لا يدل على ذلك
__________
(1) ـ كذا رواية المصنف وغيره من سائر الأصوليين وفي تيسير الديبع ما لفظه عن ابن عمر قال قال رسول الله ما رأيت من ناقصات عقل ودِين أغلب لذي لب من إحداكن . قالت امرأة منهن جزلة وما نقصان العقل والدِّين ؟ قال أمَّا نقصان العقل فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل وأمَّا نقصان الدِّين فإن أحداكن تفطر رمضان وتقيم أياماً لا تصلي أخرجه أبو داود. واللب: العقل والجزلة التامة. وقيل :ذات كلام جزل أي قوي شديد إهـ وفي نهج البلاغة ما لفظه : مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الْإِيمَانِ نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ وَ لَا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ إهـ تمت منه(1/272)
بصريحه, ولا باقتضائه, ولا بإيمائه, وإنما يشير إليه إشارة فقط كما تبيَّن . قلت :وفي الشرحين(1)والعضد فيكون أكثره خمسة عشر يوماً وأقل الطهر كذلك
وفيه أنه لا دلالة في الخبر على ما ذكروه وإنما يدل على أن مدة تركها للصلاة مثل مدة فعلها, واستواء المدتين من دون إفادة خمسة عشر يوما بعينها فيحتمل ذلك.
ويحتمل ما ذهب إليه الأصحاب أن أكثر الحيض عشر وأقل الطهر عشر على أن الشطر يطلق على الجزء مطلقاً (2) قال تعالى : ? فول وجهك شطر المسجد الحرام ? [البقرة آية150,149,144] فتفسير الشطر بالنصف منه تسامح والنساء [اسم ]جمع المرأة نص عليه الرضي.
و في المجموع لا يطلق إلا على من جاوز حد البلوغ كما أن الرجل كذلك .
ثم القول بأن دلالة الإشارة غير مقصودة محل تأمل سيما في خطاب الباري تعالى. فالأولى إذاً أن يقال أن سوق الكلام أولا وبالذات لغيرها وإن كانت مرادة ثانياً وبالعرض والله أعلم .
والفرق بين غير الصريح من المنطوق وبين المفهوم: أن غير الصريح من الأحوال المدلول عليها بالاقتضاء, والإيماء ,والإشارة, أحوال للمذكور ولكنها غير مذكورة في العبارة وإنما هي مدلول عليها بالالتزام فخرجت عن المنطوق الصريح إلى غير الصريح .بخلاف المفهوم فليس حالاً للمذكور كتحريم الضرب مثلاً وإنما المذكور التأفيف. وكعدم وجوب الزكاة في المعلوفة فإنه حال للمعلوفة وهي غير مذكورة وإنما المذكور السائمة نحو في الغنم السائمة زكاة .
__________
(1) ـ لعلهما شرح ابن حابس وشرح ابن لقمان تمت
(2) ـ وقد نبَّه على معنى ذلك الإمام المهدي عليه السلام وبعض علمائنا ولأنَّا لو فرضنا استواء حيضها وطهرها فوقت عدم الحيض أكثر باعتبار الزمن الذي قبل مجيء الحيض لأن الغالب بلوغ النساء بغيره والله أعلم تمت منه يقال وباعتبار الزمن الذي بعد اليأس أيضا تمت .(1/273)
بيان ذلك فيما ذكرنا أن المؤاخذة, والأهل, والتمليك,والعلية, ومساواة مدة الحيض لمدة الطهر في بعض النساء, وأقل مدة الحمل, وجواز الإصباح جُنبا, أحوال غير مذكورة لمذكورات هي :الخطأ والنسيان, والقرية, والعبد, والمعلول ,وبعض النساء ,والحمل, والصائم, فلا أشباه بينهما كما يتوهم .
قلت :وأيضا فإن المفهوم الاصطلاحي منحصر في نوعين ، ولا يصدق عليه ما هية أحدهما فتأمل.
(فصل)
(والمفهوم) ما يستفاد من اللفظ باعتبار أنه يفهم منه, وباعتبار أنه قصد منه يسمى معنى, وباعتبار أنه دال عليه يسمى مدلولاً ,وباعتبار أنه وضع له اسمٌ مسمى
وحقيقته بخلاف المنطوق فهو :(ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق) أو ما أفاده اللفظ من أحوال لأمر غير مذكور. (وهو نوعان)؛ لأن حكم غير المذكور إمَّا موافق لحكم المذكور نفياً وإثباتاً أو لا .
(الأول متفق عليه) في كونه دليلاً شرعياً وإنما اختلفوا في وجة الدلالة على الحكم في المسكوت عنه. فقيل: إن ذلك من جهة القياس لتوقفه على معرفة الجامع وهو المسمى بالقياس الجلي واختاره صاحب الفصول ونسبه إلى الجمهور وسواءٌ فيه الأولى والمساوي.
وقال ابن الحاجب ومن وافقه إن الأولى من باب المفهوم والمساوي من باب القياس والمشهور أنهما من باب المفهوم لا القياس ونقله الرافعي وغيره عن الأكثر.(1/274)
فمستند الحكم في المسكوت هو فحوى الدلالة اللفظية لا الدلالة القياسية؛ للقطع بأن العرب إنما يريدون بمثل هذه العبارة المبالغة في تأكيد الحكم في موضع السكوت حتى كأنها موضوعة بالوضع النوعي للمبالغة المذكورة ولذلك كانت أوضح من التصريح بحكم غير المذكور ألا ترى أنه إذا قال قائل لا تعطه مثقال ذرة كان أبلع في فهم المنع ممَّا فوق المثقال من التصريح به قطعاً وليس ذلك من القياس الذي جعله الشارع حُجَّة لأنه يعرفه كل من يعرف اللغة من غير افتقار إلى نظر واجتهاد بخلاف القياس الشرعي قال الجويني في البرهان والخلاف لفظي وقال غيره أنه معنوي لأن من فوائده أنَّا إذا قلنا ليس قياساً جاز النسخ به وإلا فلا عند من نفى النسخ به على الإطلاق.
(و) لموافقته لحكم المذكور كذلك(1)(يسمى بمفهوم الموافقة وهو أن يكون السكوت عنه موافقاً للمنطوق به في الحكم) ثم هذا نوعان لأنه إمَّا أن يكون الحكم في غير المذكور أولى منه في المذكور أو لا (فإن كان فيه) أي في المسكوت عنه (معنى الأولى) بأن كان ثبوت الحكم فيه أولى من ثبوته في المنطوق (فهو) المسمى في الاصطلاح (فحوى الخطاب نحو) قوله تعالى? إمَّا يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ?[ الإسراء23] فإنه) أي هذا الكلام أو تحريم التأفيف المنطوق به (يدل على تحريم الضرب) المفهوم منه (بطريق الأولى) إذ هو أشد مناسبة من تحريمه إذ الأذية فيه أبلغ والمراد المنع منها وهما متفقان في الحكم وهو التحريم .
__________
(1) ـ لعله يريد إثباتا ونفيا تمت .(1/275)