(الباب الثالث )من أبواب الكتاب (في) ما يفهمه السامع من الخطاب سواءً كان مفهوماً بالمعنى المصطلح أو منطوقاً فهو ينقسم إلى :
(المنطوق والمفهوم) أمَّا (المنطوق) فهو (ما) أي معنى أو حكم (دل عليه اللفظ في محل النطق) بأن يكون حكماً للفظ وحالاً من أحواله, كتحريم التأفيف مثلاً فإنه معنى أو حكم دل عليه لفظ ?لا تقل لهما أف?[الإسراء آية 23] في محل النطق وهو ذلك اللفظ .لكنه يستلزم أنه أقام الظاهر مقام المضمر فإن النطق عبارة عن المنطوق الذي هو المعنى أو الحكم, ويستلزم أيضاً ذكر المحدود في الحد.
ولو جعلت ما عبارة عن لفظ ـ لشهادة قوله فإن أفاد معنى ـ لزم أيضاً اتحاد الدال والمدلول(1) والظرف والمظروف .وجعلها مصدرية يأباه ضمير عليه إذ لا يكون لغير اسم
ولو جُعِلَ(2)للحكم أو المعنى المدلول عليه التزاماً وفي محل النطق صفة أو حالاً له أو للدلالة ـ ويرد عليه نحو: الفاعلية, والمنع ,والصرف, من أحكام النحو. وذلك لا يخفى على اللبيب ـ فأولى منه ما ذكره بعض المحققين أن المنطوق ما أفاده اللفظ من أحوال(3) مذكورة.
فما أفاد اللفظ يشاركه فيه المفهوم؛ لأنه مستفاد من اللفظ قطعاً, وبيانه بقوله من أحوال مذكورة لإخراج المفهوم لأن إفادة اللفظ فيه لأحوال غير مذكورة
__________
(1) ـ الدال وهو (ما) والمدلول وهو اللفظ .
(2) ـ أي الضمير .
(3) ـ والمراد بالأحوال الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية والإيجاب والسلب والمقدمات العقلية والعادية وغيرها .(1/266)
(فإن أفاد) اللفظ بنفسه أو بقرينة (معنى) يحتمل أن يريد معنى واحداً فيكون ما دل على معنيين فصاعداً على جهة التساوي مجملاً ,ويحتمل ـ وهو الأظهر بقرينة قوله بعد : قيل ومنه العام حيث أتى بصيغة التمريض ـ أن يريد بالمعنى ما يُعنى باللفظ ويفهم منه متحداً كان أو متعدداً متساوياً في الدلالة غير متنافٍ وكان ( لا يحتمل غيره) أي غير المعنى المذكور أي احتمالا مرجوحاً (فنص) جلي أي: فهو المسمى بالنص الجلي هذا معناه اصطلاحاً فهو مقابل الظاهر.
وقد يطلق في مقابلة الإجماع والقياس :فهو الدليل من الكتاب والسنة سواءً كان ظاهراً أو نصاً بالمعنى الأول ومنه ما تقدم في القياس من اشتراط ألا يكون حكم الفرع منصوصاً وتقسيم مسالك العلة إلى الإجماع ,والنص, والاستنباط ,
وقد يطلق في كتب الفروع على ما يقابل التخريج فيراد به: صاحب المذهب أعم من أن يكون نصاً لا احتمال فيه أو ظاهراً .
وأمَّا في اللغة: فهو الرفع ومنه نص الحديث إذا رفعه إلى قائله (ودلالته) أي دلالة(1)ذلك اللفظ على المقصود (قطعية) ضرورية (وإلا) يفد ذلك كذلك بل أفاد راجحاً أومرجوحاً .فإن حمل اللفظ على المعنى المرجوح بما يصيره من القرائن العقلية والنقلية راجحاً عند الناظرـ سواءً كانت مرجحة له في نفس الأمر كما في التأويل الصحيح أو غير مرجحة كما في الفاسد ـ فمؤول وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإلا يحمل على المرجوح كذلك بل حمل على الراجح (فظاهر) أي: فهو المسمى في الاصطلاح بالظاهر وسيأتي تحقيقه
__________
(1) ـ من الفرق بين دلالة اللفظ والدلالة باللفظ أن محل دلالة اللفظ القلب ومحل الدلالة به اللسان وقصبة الرئة وأن دلالة اللفظ صفة السامع والدلالة به صفة المتكلم وأن دلالة اللفظ مسبب والدلالة به سبب والله أعلم تمت منه(1/267)
ثم إن دلالة الظاهر بالمعنى المصطلح :قد تكون بالوضع الأصلي كالأسد للحيوان المفترس.وبعرف الاستعمال كالغائط للخارج المستقذرة إذ غلب فيه بعد أن كان في الأصل للمكان المطمئن.
وقد يكون بعرف الشرع كالصلاة لذات الأذكار والأركان بعد أن كانت في الأصل للدعاء (ودلالته) حينئذٍ على المقصود (ظنية) للاحتمال استدلاليةٌ (قيل ومنه) أي من الظاهر (العام) الآتي حقيقته إن شاء الله تعالى.
(ثم) بعد أن عرفت التقسيم الأول للنص باعتبار النصوصية والظهور والتأويل (النص) أي مطلق الدليل من الكتاب والسنة سواءً كان قطعياً أو ظاهراً بقرينة الأمثلة فله تقسم آخر؛ لأنه (إمَّا صريح وهو ما) أي معنى (وضع له اللفظ) ودل عليه بنفسه (بخصوصه) مطابقة, أو تضمناً: كدلالة قوله فيما رواه في الأنوار للمهدي, وأبو داود ,(إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة رداهم ) على وجوب الخمسة ,وما دونها, وبهذا يظهر لك أن دلالة العموم على أفراده كدلالة الخصوص .وكدلالة الإنسان على حيوان ناطق أو على أحدهما .
(وإمَّا غير صريح) لم يدل عليه بأحدهما (وهو ما) أي معنى (يلزم عنه) أي :عن اللفظ ويدل عليه بالالتزام كدلالة العشرة على الزوجية .
وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة؛ لأنه إما أن يقصد المتكلم ذلك اللازم أو لا (فإن قصد) أي: قصد المتكلم ذلك اللازم بإطلاق اللفظ ـ(و) هذا بحكم الاستقراء قسمان؛ لأنه إما أن يتوقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه أولا فإن (توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه) أي على ذلك اللازم ـ (فدلالة الاقتضاء) أي :فهو المسمى بدلالة الاقتضاء ؛لأن الحاجة إلى صون الكلام عن الكذب والفساد العقلي أو الشرعي اقتضت ذلك المقدر[*] .(1/268)
أما ما يتوقف عليه الصدق فهو (مثل )قوله :(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) وما استكرهوا عليه رواه الطبراني في معجمه الكبير عن ثوبان ,وله شاهد صحيح رواه ابن ماجة بسند جيد, وابن حبان في صحيحه ,والحاكم في مستدركه وقال إنه على شرط الشيخين .فإن ظاهره يقتضي نفيهما بالكلية عن جميع الأُمَّة لكنه يفضي إلى الكذب في كلام رسول الله للقطع بصدورهما من الأُمَّة فلا بد من إضمار حكم يمكن نفيه من الأحكام الدنيوية أو الأخروية كالعقوبة ,والذم, والقضاء, إلى غير ذلك إلا ما خصَّه دليل كإيجاب الكفارة والدية فيدل التخصيص على عدم قصد المخرَج كما سياتي إن شاء الله تعالى.
وأمَّا الصحة العقلية فنحو قوله تعالى حاكياً (واسأل القرية)[يوسف آية 82]أي :أهلها؛إذ لو لم يقدر أهل ونحوه لم يصح عقلاً .فإن العقل ـ مع قطع النظر عن كونه نبياً عليه السلام وإمكان السؤال والنطق بالجواب معجزة ـ قاضٍ بأنهم لم يريدوا نفس القرية ؛لأن سؤال الجماد غير معقول.
وأمَّا الصحة الشرعية فمثل قولك (اعتق عبدك عني على ألف) لاستدعائه تقرير الملك لأن عتقه عنك بلا تمليك لا يصح شرعاً فكأنك قلت اعتقه عني مملكاً لي على ألف, ويسمى هذا البيع الضمني لأن سؤاله متضمن الإيجاب وامتثال الأخر متضمن لقبول البيع والوكالة. ومثله أن يقول مالك العبد اعتق أنا عن كفارتك ويقول الآخر اعتق , أو نعم, فإنه إذا أعتقه كان بيعاً قائماً مقام قوله اعتق عبدك عن كفارتي. وقول مالك العبد اعتق قائم مقام القبول للبيع وللوكالة .وكذا لو قال مالك العبد أعتقت أنت عبدي عن كفارتك فقال أعتقت . ولا بد من ذكر العوض حتى يكون بيعاً وإلا كان تمليكاً بغير عوض فلا يكون له شيءٌ من أحكام البيع.(1/269)
(وإن) قصد ذلك اللازم ولكن (لم يتوقف) الصدق أو الصحة العقلية والشرعية عليه (واقترن) ذلك اللفظ الملزوم للازمه المفروض كونه مقصوداً للمتكلم (بحكم) أي وصف (لو لم يكن) اقترانه به (لتعليله) أي :لأجل كون المقارِن علة للمقارَن (لكان) ذلك الاقتران (بعيداً) وقوعه من الشارع (فتنبيه نص وإيماء) يفهم منه التعليل ويدل عليه ـ وإن لم يصرح به ـ فيقال: نبَّه النص عليه وأومى إليه(1)(نحو) قوله : (عليك الكفارة جواباً لمن قال) وهو الأعرابي (جامعت أهلي في نهار رمضان) وقد تقدم تخريجه في القياس(2)فإن الأمر بالتكفير قد اقترن بوصف هي المجامعة في شهر رمضان الذي لو لم يكن لبيان أن العلة في الاعتاق هي تلك المجامعة لكان بعيداً وذلك ؛لأن غرض الأعرابي بذكر واقعته بيان حكمها وذكر الحكم جواب ليحصل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة كما سبق .
وما روي أنه امتنع عن الدخول على قوم عندهم كلب فقيل له إنَّك تدخل على آل فلان وعندهم هرَّة ؟ فقال (إنها ليست بسبع) وفي رواية إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عيلكم والطوافات جواب إنكار المنكر. رواه بالمعنى في أصول الأحكام, والشفاء, والأربعة, وصححه الترمذي, وابن خزيمة.ولو لم يكن ذكر الطواف ونفي السبعية و النجاسة للتعليل لزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان وذلك بعيد جداً .
وقوله لعمر حين سأله عن قبُلة الصائم (أرأيت لو تمضمضت بماءٍ) أتفطر قال لا ) قال : (فَمَه) رواه أبو داود, والنسائي.
__________
(1) ـ هذا ما أمكن في حل هذه العبارة وفي هذا المقام من هذا الكتاب وغيره اضطراب لا يخفى على من له ذوق على أن تطبيقها لكمالها على الخبر المذكور دونه خرط القتاد والله أعلم تمت منه .
(2) ـ قال في الجزء الأول : قوله (اعتق رقبة جواباً لمن) أي لأعرابي (قال) له هلكت وأهلكت فقال (جامعت أهلي) أو واقعت . أخرجه الستة بالمعنى(1/270)