(و) قد يكون (بالقياس الخفي) وأمثلته كثيرة كسور سباع الطير القياس الجلي يقتضي نجاسته عند الحنفية كسور سباع البهائم وهو طاهر بالقياس الخفي لأنها تشرب بمناقيرها وهي عظام طاهرة وقد اختلف فيه فأثبته أئمتنا عليهم السلام والحنفية ورواية ابن الحاجب عن الحنابلة وأنكره الشافعية والمريسي والأشعرية ورواية جمع الجوامع وشرحه عن الحنابلة وبالغوا في إنكاره حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرَّع بتشديد الراء وقال ابن أبي شريف شارح الجمع هو بالتخفيف أي أثبت شرعاً من قبل نفسه لا من قبل الشارع (1)
(و) إذا كان ثبوته بأحد هذه الدلائل المذكورة التي هي حُجَّة إجماعاً وعرفت ما قيل في تفسيره عرفت حقية مثبتة وأنه (لا يتحقق استحسان مختلف فيه) لأن الخلاف إن عاد إلى الللفظ فلا مشاحة في العبارة بعد صحة المعنى وإن عاد إلى المعنى فمرجعه إلى الترجيح بين الأدلة الشرعية وهو أمر متفق عليه ولا حاجة بنا إلى فرض استحسان يصلح محلاً للنزاع ثم الاحتجاج على إبطاله
[حجية مذهب الصحابي]
(وأمَّا مذهب الصحابي) المتقدم تفسيره وقوله فليس بحُجَّة على مثله اتفاقاً ذكره ابن الحاجب وغيره وأمَّا على غيره من التابعين ومن بعدهم فالأكثر العلماء منهم الشافعي في الجديد وابن حنبل في رواية والكرخي (على أنه ليس بحُجَّة) لعدم الدليل وقال مالك ابن أنس وأبو علي وأبو هاشم وأبو عبد الله البصري ومحمَّد بن الحسن والبرذعي من الحنفية ورجحه الفناري من متأخريهم وقال إنه مختار متأخريهم إنه حُجَّة
__________
(1) ـ يعني فيكون كفراً أو كبيرة قال في الجمع وشرحه : أما استحسان الشافعي التحليف على المصحف والحط لبعض عوض الكتابة وكون المتعة ثلاثين درهما فليس من الاستحسان المختلف فيه أن يحقق وإنما قال ذلك لمآخذ فقهية مبينة في محالها إهـ بالمعنىتمت منه(1/261)
(و) حجتهم :(قوله أصحابي كالنجوم الخبر) تمامه بأيهم اقتديتم اهتديتم فيكون الاقتداء بهم اهتداء (ونحوه) ما روي عنه أنه قال ما أدري ما قدر بقائي فيكم (فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)(وتمسكوا بهدي عَمَّار وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن حذيفة .وعنه (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي )وذلك أمر بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم وإخبار أن الاقتداء بهم اهتداء وذلك يدل على وجوب الاقتداء بمذهبهم وكونه حجة وإلا لم يكن اهتداء ولا ديناً .
قلنا أمَّا حديث أصحابي كالنجوم فمقدوح في رواته قال الإمام المنصور بالله القسم بن محمَّد عليه السلام رواية جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي قال فيه الدار قطني يضع الحديث وقال أبو زرعة روى أحاديث لا أصل لها وقال ابن عدي يسرق الحديث ويأتي بالمناكير عن الثقات وقال فيه الذهبي في ميزانه ومن بلاياه عن وهب بن جرير عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي أصحابي كالنجوم من اقتدى بشيءٍ منها اقتدى وروى السيد محمَّد بن إبراهيم في تنقيحه عن ابن كثير الشافعي تضعيفه وقال رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه كذبه ابن معين والبزَّار ونفى السعدي والجوزجاني عنه الثقة وضعفه أبو داود وضعف أباه وقال البخاري وأبو حاتم متروك ووهاه أبو زرعة وقال ابن حجر في تلخيصه رواه عبد ابن حميد من طريق حمزة النصيبيني عن نافع عن ابن عمر قال وحمزة ضعيف وقال الذهبي قال فيه ابن معين لا يساوي فلساً وقال البخاري منكر الحديث وقال الدار قطني متروك وقال ابن عدي عامة مروياته موضوعة وروى أيضاً من طريق جميل بن زيد عن مالك عن جعفر بن محمد قال ابن حجر وجميل لا يعرف قال ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه.
وأمَّا حديث اقتدوا فضعفه الذهبي.(1/262)
وأمَّا حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي فرواه أبو داود وضعفه ابن القطان وإن سلِّم فالخطاب للمقلدين لأنه خطاب للصحابة وليس بحُجَّة عليهم اتفاقا كما سبق وحينئذٍ (المراد به) أي بما ذكر من الأحاديث المفروض صحتها (المقلدون) أي الذين يجوز تقليدهم لا الاتباع في المذهب وإلا كان تقليد بعضهم بعضاً واجباً وهو خلاف الإجماع أمَّا علي عليه السلام فقد قامت الدلالة على حُجيَّة قوله كما تقدم ومتى ذكر الصحابي حكماً فإن لم يكن للاجتهاد فيه مسرح حمل على التوقيف من النبي كأن يقول من فعل كذا فله كذا ثواباً أو عقاباً فهذا لا يدرك بالاجتهاد بل طريقه النصوص السمعية كما روي عن عائشة في مسئلة العينة أنها قالت أخبر زيد بن أرقم أنه أبطل جهاده مع رسول الله ببدر وحنين (1)وكما روي عن ابن مسعود أنه قال ذو اللسانين في
__________
(1) ـ في أصول الأحكام ما لفظه : روى أن امرأة قالت لعائشة : إنِّي بعثت من زيد بن أرقم خادماً بثمان مائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته بستمائة فقالت : بئس ما اشتريتِ أبلغي زيد بن أرقم أن الله قد أبطل جهاده مع رسول الله إن لم يتب فقالت : أرأيت إن لم آخذ إلا رأس المال ؟ فقالت عائشة :?فمن جاءه موعظه من ربِّه فانتهى فله ما سلف? إهـ وهذه المسئلة هي المشهور بمسئلة العينة وهي ما يوصل به إلى قرض ونسأ مع زيادة والله أعلم تمت منه . وفي سنن البيهقي الكبرى ج: 5 ص: 330 10580 أخبرنا أبو حازم الحافظ أنا أبو الفضل بن خميرويه ثنا أحمد بن نجدة ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن العالية قالت ثم كنت قاعدة ثم عائشة رضي الله عنها فأتتها أم محبة فقالت لها يا أم المؤمنين أكنت تعرفين زيد بن أرقم قالت نعم قالت فإني بعته جارية إلى عطائه بثمانمائة نسيئة وإنه أراد بيعها فاشتريتها منه بستمائة نقدا فقالت لها بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله ( ) إن لم يتب(1/263)
الدنيا له لسانان من نار يوم القيامة أخرجه ابن عساكر . وإن كان للاجتهاد فيه مسرح فإنه يجوز أنه قاله لنص سمعه وأن يكون قاله باجتهاده أو اجتهاد من قلده . قلت وينبغي أن يجري هذا التفصيل في رواية غير الصحابي إذ الحكم واحد والله أعلم
خاتمة للأدلة الشرعية
الحسن والقبح من مهمات أصول الفقه لأن من معظم أبوابه باب الأمر والنهي وهو يقتضي حسن المأمور به وقبح المنهي عنه فلا بد من البحث عن ذلك ثم يتفرع عليه كونها من مهمات علم الفقه لئلا يثبت بالأمر ما ليس بحسن وبالنهي ما ليس بقبيح ومن مهمات علم الكلام من جهة البحث عن أفعال الباري تعالى هل تتصف بالحسن ؟ وهل تدخل القبائح تحت إرادته ؟ تعالى عن ذلك وهل تكون بخلقه ومشيئته تعالى عن ذلك
و(إذا عدم الدليل الشرعي) في الحادثة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأنواع الاستدلال ونحوه عند من أثبتها دليلاً فإن عدم بأن لا يطلع عليه بعد البحث عنه في مظانه فرضاً (عمل) حينئذٍ (بدليل العقل) فإنه حاكم يحسن الشيء أو يقبحه إمَّا باعتبار كونه صفة كمال أو نقص كالعلم والجهل وباعتبار استلذاذه به ونفرته عنه كالمطعوم الحلو أو المر فبلا نزاع إنما النزاع في حكمه بحسنه أوقبحه كذلك مع حكمه باستحقاق فاعله الثواب أو العقاب أجلا في الشرع فعند الأشاعرة لا حكم للعقل فيه وعند غيرهم له فيه حكم فما قضى برجحان فعله فمع الذم بتركه واجب كشكر المنعم وإلا فمندوب كابتداء السلام وما قضى برجحان تركه فمع الذم بفعله حرام كالظلم وإلا فمكروه كمكافأة المسيء وما لم يقض فيه بشيءٍ من ذلك ففيه ثلاثة مذاهب للمعتزلة
(والمختار أن كل ما ينتفع )بالتصرف( من غير ضرر عاجل ولا آجل) على أحد كالتمشي في البراري والتظلل تحت أشجارها والشرب من أنهارها (فحكمه الإباحة عقلاً) حتى يرد حاظر شرعي (وقيل) بل حكمه (الحظر) لأن ذلك تصرف في ملك الله بغير إذنه لأنه المفروض فيقبح ولا يبيحه إلا الشرع(1/264)
قلنا لا نسلِّم قبح التصرف في ملك الغير مطلقاً وإنما يقبح لو ضر المالك لكنه فيما نحن فيه منزه عن الضرر (وبعضهم توقف) عن القول بأن إدراكه حاظر أو مبيح
(لنا) على المذهب المختار أن ذلك نفع لم يشبه مضرَّة و(أنَّا نعلم) قطعاً (حسن ما ذلك حاله) من الانتفاع (كعلمنا بحسن الإنصاف) والإحسان (وقبح الظلم) فإن الناس طراً يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار ويذمون عليه وليس ذلك بالشرع إذ يقول به المتشرع وغيره من منكري الشرائع ويعترف به قطعاً ولا بالعرف لاختلافه باختلاف الأُمم وهذا لا يختلف بل الأمم قاطبة متفقون عليه واختلاف الأبدان والأديان والأخلاق والأقطار والأزمان يمنع تجويز عرف عام يكون مبتدءاً لذلك الجزم المشترك عادة وهكذا العدل والإنصاف والصدق النافع فإن الناس طراً يجزمون بحسنها واستحقاق المدح عليها كل ذلك يدركه العقل بديهة والمنع مكابرة صريحة عند الإنصاف(1)
وأمَّا الأشاعرة فيقولون لا حكم قبل الشرع وقد روى الباقلاني عن بعض الأشاعرة مثل هذه الأقوال الثلاثة ووهمه صاحب الجمع والمحلي تأمل (والله أعلم) من كل أحد فهو المحيط بكل شيءٍ علمه وهو العليم وكل خير حكمه
[وبتمام هذا الكلام تم ولله الحمد الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني وأوله الباب الثالث في المنطوق والمفهوم ]
الجزء الثاني
[(الباب الثالث)]
ولَمّا فرغ من الدليل وأنواعه أخذ يبيِّن ما يتعلق به من ذاتي أو عرضي [*] فقال:
__________
(1) ـ قال بعض المحققين ما معناه : ولا ثمرة للخلاف بعد الشرع لنصه على حكم كل ما يمكن القول فيه بحكم العقل وأمَّا القول بأن ثمراته هل يجزي الفاعل جزآء واجبين عقلي وشرعي أو واجب فقط أو أنه إذا حلف أن لا حكم للعقل هل يحنث أو لا ؟ فالأول فضول والثاني مبني على العرف لا الحقيقة إهـ وفيه أن ثمرة الخلاف فيمن نشأ في بادية أو جزيرة هل يخاطب بالعقلية أو لا تمت منه(1/265)