ففي حديث جبير بن مطعم قال لقد رأيت رسول الله قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه لواقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها فقلت هذا رجل أحمس فما باله لا يقف مع الحمس(1) حيث يقفون
__________
(1) ـ قال في النهاية في غريب الحديث : حمس هـ في حديث عرفة هذا من الحُمْسِ فما بالُه خرَج من الحَرَم ! الحُمْس جَمْع الأحْمَسِ : وهم قريش , ومن ولَدَت قريش , وكِنانه , وجَدِيلة قَيْسٍ , سُمُّوا حُمسا لأنهم تَحَمَّسُوا في دِينهم : أي تَشَدَّدُوا . والحَمَاسة الشَّجاعة , وكانوا يقفون بمُزْدَلفة ولاَ يَقِفُون بعَرفَة , ويقولون: نحن أهل الله فلا نَخْرج من الحَرم وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محُرِمون . س وفي حديث عمر وذكر الأحَامِس هم جَمْع الأْحَمس : الشُّجاع وحديث على حَمِسَ الوغَى واسْتَحَرّ الموت أي إشْتَدّ الحربُ .وحديث خَيْفَان أما بَنُو فلان فَمُسَكٌ أحْماسٌ أي شُجْعَانٌ وفي لسان العرب : و الحُمْسُ: قريش لأَنهم كانوا يتشددون في دينهم وشجاعتهم فلا يطاقون، وقيل: كانوا لا يستظلون أَيام منى ولا يدخلون البيوت من أَبوابها وهم محرمون ولا يَسْلئُون السمن ولا يَلْقُطُون الجُلَّة. وفي حديث خَيْفان: أَما بنو فلان فَمُسَك أَحْماس أَي شجعان. وفي حديث عرفة: هذا من الحُمْسِ؛ هم جمع الأَحْمس.(1/256)
وحل الركوب إنما طريقه الشرع وأيضاً فقد ثبت أن دعوة الأنبياء عليهم السلام عامة إلى جميع الخلق فيجب دخوله في ذلك وهذا يوجب كونه متعبداً بشريعتهم قلنا لم ينقل ذلك إلا بالآحاد ولا يعمل بها في مسائل الاعتقاد كما سبق وأكل المذكى يستحسنه العقلاء إذا ذكاه غيره إذ ينتفع به بلا ضرر عاجل ولا آجل واستعمال البهائم غير المجحف بها مع تحمل علفها والقيام بمصالحها يجري مجرى تدبير ولي الصبي لأمره فلا يحتاج إلى السمع وأمَّا الحج والاعتمار والطواف فلا يقبح عقلاً لأنه يجوز أن يفعله لغرض صحيح من الاسترواح وتقوية البدن ولو سلِّم قبحه لم يقطعه بكبره والنبي إنما تجب عصمته عن الكبائر قبل البعثة وبعدها وعموم دعوة الأنبياء غير مسلَّم ولو سلِّم فأين الطريق إلى ذلك ؟ ولذا قال أئمتنا وجمهور المعتزلة وبعض الفقهاء :(المختار أن النبي لم يكن قبل البعثة متعبداً بشرع) من شرع من قبله من الأنبياء عليهم السلام ولا يجوز أن يعلمه بالأخبار لعلمه باختلاف اليهود والنصارى ونفيهم الوحدانية عن الله تعالى وتحريفهم الكتابين من زمن داود وعيسى كما نطق به القرآن(1) ولعدم مخالطته وسؤاله إيَّاهم إذ لو كان لنقل كما نقل سائر أحواله ولكان من أعظم المنفرات عنه والتحريف وإن لم يكن في جميع الكتب المنزلة فجهل موضع المحرف يمنع الاستدلال بجميعه كاشتمال كتاب حديث على حديث موضوع مجهول موضعه وأيضاً قال تعالى ?وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان? [الشورى 52]أي ما كنت تدري بذلك لولا ما أوحينا إليك فدل على أنه لم يكن متعبداً بشريعة قبل شريعته والمراد بالإيمان قبل الوحي التصديق بالشرعيات والكتب المتضمنه لها لا أن المراد بها التصديق بالربوبية والإقرار بالوحدانية فهو كان منطوياً على ذلك من لدن كمال عقله ولا بدّ
__________
(1) - احتج بعضهم بقوله تعالى :?لعن الذين كفروا? الآية فينظر في وجه دلالتها أو آية أصرح منها تمت منه .(1/257)
وأن يقوم بما كُلِّفَه من ذلك بالدلالة العلقلية وفائدة هذه المسئلة علمية وهي العلم بما كان عليه من الأعمال والتكليف قبل البعثة فجرى ذلك مجرى العلم بأحواله قبل البعثة ولا يتعلق بنا من ذلك تكليف
(و) أمَّا بعد البعثة فمختار الأخوين والمنصور بالله عليهم السلام وبعض الفقهاء (أنه بعدها متعبد بما لم ينسخ من الشرائع فيجب علينا) التأسي به و(الأخذ بذلك) الشرع المتقدم (عند عدم الدليل) من الكتاب والسنة والإجماع (في شريعتنا) المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله
وذهب أكثر أئمتنا عليهم السلام والجمهور إلى أنه لم يكن متعبداً بشرع من قبله وأدلة الفريقين من الكتاب متكافئة(1/258)
ويعضد دليل المانع الإجماع على أن شريعته ناسخة لشريعة غيره وعلى عدم وجوب تعلم أحكام من قبلنا وعلى جواز الاجتهاد عند فقد حكم الحادثة في القرآن والسنة وعدم رجوعه إلى كتب غيره فيما دهمه من الحوادث كمسألة الميراث والإيلاء والظهار والتيمم القذف فإنها لما حدثت توقف حتى نزل الوحي عليه ببيانها فلو كان متعبداً بشيءٍ من الشرائع لما جاز له أن يتوقف مع تجويز أن يعرف ذلك من جهة الكتب المتقدمة وأهلها ولوجب عليه الرجوع إليه ،ولا ينتظر الوحي والمعلوم خلافه ؛ لوجهين أحدهما أن ذلك لو كان لنقل الثاني أن المأثور أنه رأى عمر يطالع في ورقة من التوراة فغضب حتى احمرت وجنتاه وأنكر عليه وقال أتريد أن تتهود يا ابن الخطاب !؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه غير اتباعي (1)
[ الاستحسان]
(قيل ومنه) أي من الاستدلال (الاستحسان وهو) لغة ميل النفس إلى شيء واعتقاد حسنه
__________
(1) ـ رواه في كتاب المدخل في أصول الفقه للإمام أحمد بن سليمان (عليه السلام) والله أعلم تمت منه وفي أبجد العلوم ج: 1 ص: 228قال ( صلى الله عيه وآله وسلم) لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ورأى النبي ( صلى الله عيه وآله وسلم) في يد عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال ألم آتكم بها بيضاء نقية والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وفي المستصفى ج: 1 ص: 166وقال ( صلى الله عيه وآله وسلم) لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي وفي المستصفى ج: 1 ص: 166أيضا وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب ( صلى الله عيه وآله وسلم) حتى احمرت عيناه وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي(1/259)
(و) اختلف في حقيقته فقال ط والمنصور بالله عليهما السلام والكرخي وأبو عبد الله هو العدول بحكم المسألة عن حكم نظائرها إلى خلاف النظير لوجه أقوى وقال المؤيد بالله عليه السلام وبعض الحنفية هو العدول من قياس إلى قياس أقوى وهو أخص مطلقاً من الأول قال سعد الدِّين والذي استقر عليه رأي المتأخرين أنه (عبارة عن دليل يقابل القياس الجلي) السابق إلى الأفهام وقيل غير ذلك
(وقد يكون ثبوته بالأثر) ينبغي أن يفسر الأثر في كلام المصنف هنا بما ورد عنه حتى يصدق قوله بعد ولا يتحقق استحسان مختلف فيه إذ من جملة الأثر بالمعنى المصطلح الذي ذكره النووي في صدر شرح مسلم قول الصحابي وسيأتي ما فيه من الخلاف ومثاله السلم والإجارة القياس يقتضي منعهما لأنهما بيع معدوم لكن ثبت بالنص
(و) قد يكون (بالإجماع) من الأُمَّة أو العترة عليهم السلام كدخول الحمام والاستصباغ القياس يقتضي منعهما لجهالة ما يستغرق من المنافع والماء وثبت بإجماع المسلمين على جوازه
(و)قد يكون (بالضرورة )كالحكم بطهارة الحياض والآبار على أصل الحنفية(1/260)