واعلم أنه يصح تعدد الاعتراضات إذا كانت من جنس واحد اتفاقاً كاستفسارات أو معارضات تورد على قياس واحد وإمَّا من نوعين فصاعداً كأن يورد على مسئلة واحدة استفسار ومنع ونقض مثلاً فقال ابن الحاجب بجوازه وإذا جاز فينبغي إيرادها على الترتيب المناسب للطبع فيقدم منها ما يتعلق بالأصل ثم بالعلة لأنها مستنبطة منه ثم بالفرع لابتنائه عليها ويقدم النقض على معارضة الأصل لأن النقض يذكر لإبطال العلة والمعارضة لإبطال تأثيرها بالاستقلال فالواجب أن يقول ليس بعلة وإن سلّم فليس بمستقل وبالجملة الترتيب بالوضع كما وقع الترتيب بالطبع فيجب الترتيب لقبح المنع بعد التسليم فإنه إذا قيل لا نسلِّم أن الحكم معلل بكذا فقد سلِّم ثبوت الحكم ضمناً فلو قيل بعد ذلك ولو سلِّم فلا نسلم ثبوت الحكم كان منعاً لما قد سلم وأيضاً فالقصد من المناظرة الفلج والتماسه من وجه تيسيره أولى
قلت ولقد أجاد المصنف في ترتيبها (1) فعليك فيها باقتفاء آثاره والاستضاء بمصباح أنواره فإنه المجمع عليه . وقال بعضهم لا ترتيب بينها فإنها سيوف الجدال فأيها شاء المجادل انتضاه وبتمام هذه الجملة تم الكلام في القياس والاعتراضات والحمد لله ربِّ العالمين
(فصل)[ الاستدلال]
__________
(1) ـ وذلك لأنه قدم ما يتعلق بالبيان ثم فساد الاعتبار ثم فساد الوضع ثم منع الحكم في الأصل ثم منع وجود العلة فيه ثم الأسئلة المتعلقة بالعلية كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط وكونه غير مفض إلى المقصود ثم النقض والكسر ثم المعارضة في الأصل ثم ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة فيه ومخالفة حكمه لحكم الأصل واختلاف الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع والقلب ثم القول بالموجب والله أعلم تمت منه(1/251)
ولما فرغ من بيان الأدلة الأربعة وما يرد عليها أخذ يبيِّن غيرها ممَّا يتمسك به بعض وينفيه آخر فقال (وبعض العلماء يذكر دليلاً خامساً وهو الاستدلال قالوا) وهو لغة طلب الدليل ويطلق على إقامة الدليل على نوع خاص وهو المراد هنا (وهو القياس ما ليس بنص ولا إجماع ولا قياس علة) فتخرج الأدلة الأربعة المعروفة فيما سبق فلا يرد أنه تعريف بالمجهول غير قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل أي ما جمع فيه بنفي الفارق من دون تعرض لوصف وهو المسمى بتنقيح المناط كما تقدم في قصة الأعرابي (وهو) أي الاستدلال (ثلاثة أنواع) على مختار أكثر مثبتيه :
النوع (الأول تلازم بين حكمين من دون تعيين علة) وإلا كان قياس علة وسواءً كان تلازمهما نفياً وإثباتاً كالتكليف ووجوب الصلاة أو نفياً فقط كالصغر ووجوبها أو إثباتاً فقط (مثل من صح ظهاره صح طلاقه) فهو دليل مستقل عند ابن الحاجب وبعض الأصوليين (1)وعندنا راجح إلى النص أو الإجماع أو القياس لأنه تمسك بمعقول مفهوم من أيها فهو في الحقيقة تمسك بها إذ ثبوت هذه الملازمات الشرعية بدون الثلاثة محال بالإجماع
[ الاستصحاب]
__________
(1) ـ ودليل صدق التلازم وجود الوجوب بوجود التكليف وانتفاؤه بانتفائه أو لوجود الصغر وصحة طلاق الوكيل والكافر دون ظهارهما كما قرر في مظانه من الفقه وقد فسر الشرّاح كلام المصنف هنا بما يخالف مذهبه وجعلوا هذا مثالاً للثبوتي وفيه أنه تمسك بالدوران وجزؤه عدم وما جزؤه عدم فهو عدم وفيه خلاف ابن الحاجب والأمدي تمت منه .(1/252)
النوع (الثاني) من أنواع الاستدلال هو (الاستصحاب وهو) : لغة طلب كون الشيء في صحبتك واصطلاحاً (ثبوت الحكم في وقت لثبوته قبله لفقدان ما يصلح للتغيير) فمنعه المهدي وأهل المذهب في روايته وأثبته صاحب الفصول عن جمهور أئمتنا عليهم السلام وغيرهم لأن تحقق الشيء بلا ظن معارض طار عليه يستلزم ظن البقاء لذلك الشيء المتحقق ضرورة ولولا هذا الظن لما حسن من العاقل مراسلة من فارقه ولا الاشتغال بما يقتضي زماناً كالحراثة والتجارة والقراض وإرسال الهدية والوديعة إلى بعيد والظن متبع شرعاً لما مر وأيضاً لو لم يكن طريقاً لاستوى الشك في الزوجية ابتداءً وبقاءً والتالي باطل فالمقدم مثله أمَّا الملازمة فلأنه لا فارق بينهما إلا استصحاب عدم الزوجية في الأولى واستصحابها في الثانية فلولا اعتباره لاستوت الحالان . وأمَّا بطلان اللازم فللإجماع على حرمة الاستمتاع فيمن شك في ابتداء حصول الزوجية وعلى حله فيمن شك في بقائها وكذا الكلام فيمن شك في ابتداء الوضوء وفي من علمه وشك في الحدث ولذا قال :( إن الشيطان ليأتي أحدكم يقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً أو ريحاً )(1)وفي ترك الاستصحاب مخالفة للخبر
__________
(1) ـ أخرجه الطبراني في معجمه الكبير و مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه والترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه وابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار و البيهقي في سننه الكبرى(1/253)
وينقسم إلى معمول به عقلياً كان أو شرعياً كاستصحاب البراءة العقلية حتى يرد ناقل فلذا حكمنا بانتفاء صلاة سادسة وصوم غير رمضان أو شرعياً كاستصحاب الملك والنكاح والطلاق حتى يرد مغير كالعلم بالبيع والطلاق والرجعة وإلى غير معمول به كاستصحاب النص بعد نسخه (وكقول بعض الشافعية في المتيمم يرى الماء في صلاته يستمر فيها) لأن الظاهر بقاء تلك الطهارة فيستصحب الحال في بقائها فيستمر على ما هو فيه ويتم صلاته وتكون صحيحة (استصحاباً للحال) الأول (لأنه قد كان عليه المضي فيها قبل رؤية الماء) ومن رام إيجاب الطهارة بالماء وحكم بعدم صحة الصلاة بعد رؤيته وأن تيممه يبطل لذلك فعليه إقامة الدليل . قلنا الحال الثانية غير مساوية للأولى لوجود الماء في الثانية دون الأولى وليس المقتضى لصحة الصلاة بالتيمم أو لا إلا فقدان الماء وقد وجد فلم يشاركها حالة الوجدان في ذلك المقتضى للحكم وهو عدم الماء حتى يوجد الحكم لوجود ما يقتضيه فيلزم انتفاء الحكم إذ يكون ثبوته لو حكم به من غير دليل وهو لا يصح فبطل أن يكون الاستصحاب هنا حُجَّة فلا تصح الصلاة عند جمهور أصحابنا إلا بالماء مطلقاً وعند بعضهم (1) إن غلب ظنه بإدراكها مع الطهارة والوقت باقٍ .وجوَّز مالك والشافعي الخروج والاستمرار والله أعلم .
النوع (الثالث) من أنواع الاستدلال (شرع من قبلنا) من الأنباء صلوات الله عليهم أجمعين وعلى آلهم الطَّاهرين ،
قد اختلف في تعبده قبل البعثة بشرع من قبله
فقال البيضاوي وابن الحاجب وغيرهما بالثبوت
__________
(1) ـ بعض بني الهادي وأبو العباس والإمام يحي وعلي بن خليل ذكره الدواري تمت منه .(1/254)
ثم اختلفوا أكان متعبداً بدين معين أو لا ؟ فقيل بمعين وهو شرع نوح وقيل إبراهيم وقيل موسى وقيل عيسى وقيل بما ثبت من الشرائع السالفة بطريق مفيد للعلم لتظافر الأحاديث بذلك فقد جاء في الصحيح أنه كان (يخلو بغار حرا فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد حتى جاءه الحق وهو في غار حرا) والتحنث التعبد وتجنب الحنث وكان يحج ويقف مع الناس بعرفات ولا يقف مع الحمس (1) والحج كانت العرب تطوف فيه
وفي السيرة كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره يعني في غار حرا الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعاً أو نحوً من ذلك وكان يأكل المذكى ويركب
__________
(1) ـ الديباج ج: 3 ص: 327الحمس بضم الحاء المهملة وسكون الميم وسين مهملة سموا بذلك لأنهم تحمسوا في دينهم أي تشددوا وقيل سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب(1/255)