إليها العقول بل هي موقوفة على إرادة الشارع فيهما من باب المناسب بمثابة الطرد المهجور من باب الشبه في أنه لا يعلل بهما كما لا يعلل به والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولما فرع من بيان المختار عنده في طرق العلة أراد بيان ما عد منها لا على المختار
فقال (قيل) أي قال الجمهور (ومن طرق العلة) التي يرجع إليه عند تعذر سائرها (الشبه) بفتح الباء سمي به لمشابهته المناسب من وجه والطردي من آخر لأنه وصف اعتبره الشارع في بعض الأحكام ولم تعلم مناسبته بالنظر إلى ذاته فهو واسطة بينهما لأن الوصف إن علمت مناسبته لذاته فمناسب وإلا فإن التفت إليه الشارع فشبه وإلا فطردي واختلف في حده وقيل أنه الوصف المجامع لآخر إذا تردد بهما الفرع بين أصلين فالأشبه منهما هو الشبه كالنفسية والمالية في العبد المقتول فإنه يتردد بهما بين الحر والفرس وهو بالحر أشبه إذ مشاركته له في الأوصاف والأحكام أكثر وحاصله تعارض مناسبين يرجح أحدهما(1/221)


(و) قال المصنف (هو أن يوهم الوصف المناسبة) فيخرج المناسب الذاتي لأن مناسبته عقلية وإن لم يرد الشرع كالإسكار للتحريم فإن كونه مزيلاً للعقل الضروري للإنسان وكونه مناسباً للمنع منه لا يحتاج في العلم به إلى ورود الشرع والطردي لفقد الإيهام فيه إذ وجوده كالعدم كما يقال الخل لا تبنى عليه القنطرة و لا يصاد منه السمك فلا يزيل الخبث كالمرق فإن ذلك مما ألغاه الشارع قطعاً وقد ينازع في إفادة الشبه للظن فيحتاج إلى إثباته إمَّا بشيءٍ من مسالك العلة التي هي الإجماع والنص والسبر لا بالمناسبة وإلا لزم خروجه عن كونه شبهياً إلى كونه مناسباً مع ما بينهما من التقابل ومن ثم قيل في تعريفه ما سبق وإمَّا بالدوران (بأن يدور معه الحكم وجوداً وعدماً) أي بسبب دوران الحكم مع الوصف بأن يثبت بثباته وينتفي بانتفائه (مع التفات الشارع إليه) أي يكون ممَّا اعتبره الشارع في بعض الأحكام كالذكورة والأنوثة فإنها اعتبرت في بعض الأحكام دون بعض وإنما كان طريقاً للشبه لثبوت التعليل بالعلة التي تطرد وتنعكس ولأن من دعي باسم فغضب ثم إذا زال الدعاء بذلك الاسم زال الغضب فإذا أعيد الدعاء به عاد الغضب فإنَّا نعلم أن علة الغضب الدعاء بذلك الاسم بل يفهمه من ليس أهلاً للنظر من الأطفال فيتبعونه داعين له بذلك الاسم ليغضب ومنعه من إنكار الضروريات للعلم بأن الأطفال يقطعون به من غير استدلال بأمر آخر
مثال الشبه الثابت بالدوران (كالكيل) أو الوزن مع الجنس (في تحريم التفاضل على رأي) لأئمتنا عليهم السلام وكالاقتيات معه عند مالك وكالطعم معه عند الشافعي فإن التعليل بهذه العلل لم يثبت بنص ولا إجماع وإنما ثبت بكونه دار معها الحكم وجوداً وعدماً .
فإن قيل قد نص أئمتكم وغيرهم على أن علة التحريم منبه عليها وكل على أصله وذلك يقتضي أن علة الربا ليست شبهية فيكف مثلوا بها واختاروها ؟ .(1/222)


أجيب بأنهم أرادوا أنها شبهية بالنظر إلى مادتها لا بالنظر إلى الأمر الخارجي (و) مثال الثابت بغيره (كما يقال في تطهير النجس) عند إرادة إلحاقه بطهارة الحدث (طهارة تراد للصلاة فيتعين لها الماء كطهارة الحدث بجامع كون كل واحد منهما طهارة تراد للصلاة) فإن الجامع وصف شبهي إذ لا تظهر مناسبته للحكم المذكور لكنه يوهم المناسبة من جهة أنه قد اجتمع في إزالة النجاسة كونها طهارة للصلاة وكونها قَلْعَاً للخبث والشارع قد اعتبر الأول حيث رتب عليه حكم تعيين الماء في الصلاة والطوف ومس المصحف وقراءة القرآن ولم يعتبر الثاني في شيءٍ من الصور فظهر لنا أن إلغاء ما لم يعتبره أصلاً والحكم بخلوه عن المصلحة أقرب وأنسب من إلغاء ما اعتبره ومن الحكم بخلوه عن المصلحة فتوهمنا في ذلك أن الوصف الذي اعتبره كالطهارة للصلاة مناسب للحكم الذي هو تعيين الماء وأن فيه مصلحة وأن الشارع حيث اعتبر تلك الصفة إنما اعتبرها للاشتمال على تلك المصلحة وهذا معنى شبهية الوصف . تنبيه ما تقدم كلامٌ في القياس وأركانه وشرائطها وما يتصل بذلك(1/223)


و(أمَّا الاعتراضات المشهورة) المتداولة في ألسنة الأصوليين الورادة على قياس العلة (فلا يليق إيرادها في هذا المختصر و) لا تكثيره بها إذ (من) تفطَّن من المجتهدين (وأتقن ما سبق) في باب القياس من تفاصيل أركانه وشرائطها وما يتصل بها (لم يحتج إلى ذكرها إذ هي راجعة إلى) المناقشة على إهمال شىء ممَّا قررناه فمرجعها عند ابن الحاجب إلى نوعين إمَّا (منع) أي منع كون العلة ما ذكره القائس أو منع وجودها في الأصل أو الفرع أو كون الحكم ما ذكره (أو معارضة) بعلة أخرى يبرزها المعترض فالكلام على القياس وما اتصل به مشتمل عليها ولذا سماه تنبيها وفي التحقيق رجوعها إلى المنع فقط لأن المعارضة منع للعلة عن جريانها وعلى التقديرين يظهر وجوبها على المجتهد لأن من لا يعرف المطاعن لا يجتنبها وضعف قوله (وإنما حررت للمناظرة) هذا ما ذكره في أكثر النسخ
ووجد في بعضها ذكر الاعتراضات صريحاً بأن قال (اعتراضات القياس خمسة وعشرون) تبعاً لابن الحاجب
فنقول :لما فرغ من القياس وأركانه شرع في بيان ما يرد عليه من طرق المجادلات الحسنة ولما كان الغرض منها إظهار الصواب كانت محمودة لقوله تعالى ?أدع إلى سبيل ربِّك بالحكمة والموعظة الحسنة?[ النحل 125] الآية وقد سلكها النبي والصحابة والتابعون وفيها سعي في إحياء الملة وتعاون على البِّر والتقوى وجهاد أنبل من جهاد الغزاة لحل المشكلات الدينية ورد الملحدين المبتدعة(1/224)


ومن آداب الجدال ما ينبغي تقديمه على المناظرة وهو تقوى الله تعالى ، وإشعار النفس بخوفه وتوطينها على قبول الحق من أي جهة ورد ، ومنها ما يختص حال المناظرة وهو أن يكون المناظر مستجمع القلب متوقراً في جميع أحواله ولا يشتغل بشيءٍ سوى ما هو بصدده غير منزعج ولا يعتريه طيش ولا فشل ومنها أن يكون حريصاً على إيجاز كلامه فإن أكثر ما يقع الزلل فيه الإكثار ولا يفرط في رفع صوته فيسوء خلقه ولا يجدي نفعاً وعلامة انقطاع السائل عجزه عن إبانة سؤاله أو عن تقرير وجه دليله ونحو ذلك مما يجب عليه الإتيان به وعلامة عجز المسؤول أن يعجز عن الإجابة أو عن رد المعارضة أو الجواب عن النقض إمَّا بأن يسكت عمَّا هو بصدده لغير عذر أو يقطع الكلام بما لا تعلق له بالمسألة أو يظهر غضبه
ولما كان من تمام الاستدلال بالقياس وغيره بتفهيم ما يقوله وبِسِتِّ مقدمات مذكورة أو مقدرة وهي : بيان أن المدعى محل للقياس ،وأن حكم الأصل كذا ،وأن علته كذا ، وأنها ثابتة في الفرع ، وأنها تستلزم ثبوت حكم الفرع ، وأنه الحكم المطلوب دونوا لذلك سبعة أنواع من الاعتراضات تشمل على ثلاثة وعشرين صنفاً بعضها عام الورود على كل مقدمة كالاستفسار والتقسيم وبعضها على كل قياس كمنع وجود العلة أو عليتها والمعارضة في الفرع وبعضها خاص ببعض كما سيجيء إن شاء الله تعالى

(النوع الأول)
ما يتعلق بالإفهام وهو (الاستفسار) وقدمه لأنه الفهم أو كل شيءٍ ولأنه عام كما سبق (وهو طلب) التفسير و(بيان معنى اللفظ وهو نوع واحد وإنما يسمع إذا كان في اللفظ إجمال أو غرابة) فعلى المعترض بيان وجه الخفاء بنحو صحة إطلاق اللفظ على معنيين فصاعداً لأن وضع اللفظ للبيان غالباً فهو مدع عليه البينة (ومن أمثلته) أي الاستفسار للإجمال (أن يستدل بقوله تعالى ?حتى تنكح زوجاً غيره?[ البقرة 230] فيقال) له (ما المراد بالنكاح هل الوطء) كما يقال له ذلك لغة (أو العقد) كما يقال له ذلك شرعاً ؟ .(1/225)

45 / 108
ع
En
A+
A-