فهذه طريقة أولئك فلهذا قبل منهم إظهار الإسلام وجاز موادعتهم ومصالحتهم
ومن العلماء من يقبل توبة الفريق الأول أيضاً ويحيل على ما في قلبه من يعلم سريرته وهو قول الأكثر والأولى لنحو هل (شققت على سويداء قلبه)(1)وقوله (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله فإذا قالوا ذلك حقنوا عني دماءهم وأموالهم )(2)
__________
(1) ـ نص الحديث على ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ج10/ص173/ح18719:-حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله إلى الحرقات من جهينة قال فصبحنا القوم وقد تدرؤا بنا قال فخرجنا في آثارهم فأدركت رجلا منهم فجعلت إذا لحقته قال لا إله إلا الله قال فظننت إنما يقولها فرقا قال فحملت عليه فقتلته فعرض في نفسي من أمره فذكرت ذلك للنبي فقال لي رسول الله قال لا إله إلا الله ثم قتلته قلت يا رسول الله لم يقلها من قبل نفسه إنما قالها فرقا من السلاح قال فقال قال لا إله إلا الله ثم قتلته فهلا شققت عن قلبه حتى تعلم أنه إنما قالها فرقا من السلاح قال أسامة فما زال يكررها علي قال لا إله إلا الله ثم قتلته حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يؤمئذ إهـ وأخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و ابن حبان في صحيحه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطحاوي في شرح معاني الآثار و الطبراني في معجمه الكبير والنسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى و الشافعي في مسنده و عبد الرزاق في مصنفه
(2) ـ مجمع الزوائد ج: 6 ص: قال رسول الله لأبعثن غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبانه لا يولي الدبر فلما كان من الغد بعث عليا وهو أرمد شديد الرمد فقال سر فقال يا رسول الله ما أبصر موضع قدمي قال فتفل في عينيه وعقد له اللواء ودفع إليه الراية فقال علي على ما أقاتلهم يا رسول الله قال على أن يشهدوا أن لا اله إلا الله وأني رسول الله فاذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى رواه الطبراني في الصغير وفيه الخليل بن مرة قال أبو زرعة شيخ صالح إهـ و عن جابر قال قال رسول الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله أخرجه مسلم في صحيحه و البخاري في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و ابن خزيمة في صحيحه و الترمذي في سننه و ابن ماجه في سننه و أبو داود في سننه و الحاكم في مستدركه و الطحاوي في شرح معاني الآثار(1/216)


فالمثال إنما يراد للتفيهم لا للتحقيق كما سبق (وكقولنا يحرم على العاجز عن الوطء) العارف من نفسه ذلك أن يتزوج من النساء (من تعصى لتركه) إذ في ذلك تعريض لها إلى فعل القبيح والشرع ملتفت إلى المنع من تعريض الغير لفعل القبيح ألا تراه يمنع الخلوة بغير المحرم للاحتراز عن المعصية فلا أصل له معين يشهد له بالاعتبار بل مرجعه إلى مصلحة جملية اعتبرها الشرع وهي منعه من تعريض الغير لفعل القبيح
(وأشباه ذلك) من الأمثلة كأمثلة ملائم المعتبر فإنه يمكن أن يجعل في نفسها أمثلة لملائم المرسل بأن يفرض أنها لم تثبت الولاية في النكاح مع الصغر ولا رخصة الجمع مع نفس حرج المطر ولا القصاص في النفس مع القتل العمد العدوان أصلاً وإنما اعتبر الشارع عين الصغر في مطلق الولاية ومطلق الحرج في عين الرخصة ومطلق الجناية في عين القصاص
وكتقديم (1)المصلحة العامة كالجهاد على الخاصة كالقود وتناول سد الرمق عند تطبيق الحرام للأرض أو للناحية بتعذر الانتقال منها وفسخ امرأة المفقود واعتداد من انقطع حيضها لعارض معلوم بالأشهر لما في التربص من الضرر بها بتأيمها وبالزوج بإلزامه ما يتوجه عليه من مؤنتها والضرب للتهمة لاستخراج المال المسروق ونحوه عند مالك ومنعه جمهور أهل البيت عليهم السلام وغيرهم وشدّد الغزالي في إنكار ذلك ووجه المنع أن ظاهر ضرب المتهم ظلم والظلم قد منعه العقل والشرع .
__________
(1) ـ وممَّا قيل أن منها تكبير الإمام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن عليهم السلام على بعض جنده أربعاً اجتهاداً للتأليف واجتهاده الأول أنها خمس فقيل له خالفت مذهب اسلافك فقال رأيت الإخلال بتكبيرة ولا ينقض هذا الجمع وقيل أنه يحتمل أنه عليه السلام كبرها سراً وقوله رأيت الإخلال بها إلخ يحتمل أيضاً أن المراد بجهرها والله أعلم إهـ تمت منه(1/217)


فإن قيل في الضرب مصلحة وردع للسرُّاق ونحوهم . قلنا هذه وإن كان فيها مصلحة فهي ظلم ومصلحة المسروق مظنونة ومضرة المضروب معلومة وهذا إذا كان المتهم بنحو السرقة ليس ممَّن ظاهره الفسق والعصيان وإلا فلذي الولاية ذلك لأنه يستحق التعزير لعصيانه لله تعالى ومع التهمة التعزير أولى بالضرب والحبس وغيرهما على ما يقتضيه رأي ذي الولاية وقد نص المؤيد بالله عليه السلام على جواز حبس أهل التهمة المدة الطويلة كالسنة وإذا جاز الحبس جاز الضرب ذكره الدواري
(وهذا النوع) من الملائم المرسل (هو المعروف بالمصالح المرسلة) والقياس المرسل هو ضرب من الاجتهاد الذي لا أصل له معين وسميت مرسلة لأن نصوص الشرع لم تتناولها ولم ترد إلى أصل معين يستفاد حكمها منه وقياساً وإن كان لا أصل لها لجريها على القياس والقاعدة حيث روعي فيها جلب المصالح ودفع المفاسد
واختلف في قبول هذا النوع (والمذهب) الذي قرره أئمتنا عليهم السلام وبنى عليه الجمهور منهم القرشي ورواه عن الجويني والغزالي ومالك أن الواجب (اعتباره) وأنه ممَّا يتوصل به إلى الأحكام الشرعية لقوله تعالى ? فاعتبروا يا أولي الأبصار?[ الحشر 2] فإنه أمر بالمجاوزة وتقريره لمعاذ حيث قال أجتهد رأيي . وإجماع الصحابة فإن من تتبع أحوالهم علم بالضرورة أنهم كانوا يقنعون في الوقائع بمجرد ظهور المناسبة لتصرفات الشارع ولا يبحثون عن أمر آخر والظاهر شمول محل النزاع ما لم يرجع إلى معلوم الإلغاء بأن كان المصلحة مصادمة لنصوص الشرع كما سيأتي إن شاء الله تعالى في إفتاء الملك بالصوم(1/218)


(و) أمَّا النوع الثاني وهو (الغريب المرسل) فهو (ما لا نظير له) معتبر (في الشرع) لا جملة ولا تفصيلاً (لكن العقل يستحسن الحكم لأجله) وذلك (كأن يقال في البات لزوجته) أي من طلقها بائناً (في مرضه المخوف لئلا ترث يعارض بنقيض قصده فتورث قياساً على القاتل عمدا حيث عورض بنقيض قصده فلم يورث بجامع كونهما فعلا فعلاً محرماً لغرض فاسد فإنه لم يثبت في الشرع أنه العلة في القاتل ولا في غيره) فلذلك وجه مناسبة وفي ترتيب الحكم عليه وهو معارضتهما بنقيض قصدهما تحصيل مصلحة وهو زجرهما عن الفعل المحرم ولكن لم يشهد لذلك أصل معيَّن في الشرع بالاعتبار إذ لم يعتبر الشارع أن عدم إرث القاتل لاستعجاله الميراث فيعارض بنقيض قصده ولم نر الشارع التفت إلى ذلك في موضع آخر فلم يكن ملائماً لجنس تصرفاته(1/219)


(وأمَّا الملغى) من المرسل (فهو ما صادم النص وإن كان لجنسه نظير) لفظه جنس هنا لا محل لها إذ المعنى له نظير (في الشرع كإيجاب الصوم) شهرين متتابعين (ابتداءً) قبل العجز عن الإعتاق الواجب (على المظاهر ونحوه) كالمواقع أهله في نهار رمضان على القول بوجوبها ووجوب ترتيبها (ممَّن يسهل عليه العتق) ويراه أيسر من الصوم (زيادة في زجره) ما روي أن يحيى بن يحيى بن كثير الليثي صاحب مالك إمام أهل الأندلس أفتى الأمير عبد الرحمن بن الحكم الأموي حين جامع أهله في نهار رمضان بصيام شهرين متتابعين تعييناً فأنكر عليه ذلك وقيل له لِمَ لَمْ تفته بمذهب مالك وهو التخيير بن العتق والإطعام والصيام ؟ فقال لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود وجعل ثلاث تطليقات لم يتخللهن الرجعة ثلاثاً دفعاً للتتابع في الطلاق بعد تقرر كونها واحدة وترك حيَّ على خير العمل في الأذان ترغيباً في الجهاد ووضع الحديث للترغيب والترهيب والكفر لإسقاط المظالم أو للبينونة من الزوجية وقطع أذن المؤذي ونحوها (فإن جنس الزجر) والترغيب والترهيب والسعي في براءة الذِّمَّة وحفظ العرض والمال معتبر (موجود في الشرع لكن النص) وهو نحو قوله تعالى ?فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين?[النساء 92 المجادلة 4] والإجماع (منع) كل منهما (اعتباره) أي المذكور (هنا) أي في حق من يسهل عليه العتق وكذا سائر ما ذكرنا (فألغي) ذلك المناسب (وهذان) أي الغريب والمرسل والمغلى مردودان (مطرحان) لا يؤخذ بهما في الشرع (باتفاق) بين من لا يكتفي بمجرد المناسبة كما حكاه القرشي فإن مقتضى ما روي عن مالك من قبول المرسل على الإطلاق حتى أنه جوَّز قتل الأقل لإصلاح الأكثر وقال ترك الخير الكثير للشر القليل شر كثير أنه لا يرد الغريب أو بين العلماء كما حكاه ابن الحاجب وغيره لأنه ابتداء شرع بما يستحسن عقلاً وهو لا يجوز لأن الشرائع لا تهتدي(1/220)

44 / 108
ع
En
A+
A-