(وإبطال ما عداه) أي الوصف المعلل به يكون (إمَّا ببيان ثبوت الحكم) المعلل في الصورة الفلانية (من دونه) فيعلم أن المحذوف لا أثر له وهذه الطريق تسمى الإلغاء مثاله القوت باطل لأن الملح ربوي (أو ببيان كونه) أي الوصف المحذوف (وصفاً طردياً) بأن يكون من جنس ما علم من الشارع الغاؤه إما مطلقاً في جميع الأحوال كالسواد (1)والبياض وإما في ذلك الحكم وإن اعتبر في غيره كالذكورة والأنوثة في أحكام العتق دون الشهادة وولاية النكاح والإرث وهذا القسم مغنٍ عما قبله لعمومه (أو بعدم ظهور مناسبته) أي الوصف المحذوف ولا يجب ظهور عدم مناسبة المحذوف فإن قال المعترض بحثت فلم أجد لوصفك مناسبة والمناسب الوصف الفلاني صدق لعدالته ولزم المستدل الترجيح حينئذٍ للتعارض بين الوصفين الحاصلين من السبرين كالترجيح بالتعدية وغيرها من وجوه الترجيح الآتية في بابه إن شاء الله تعالى وليس للمستدل أن يبين مناسبة وصفه لأن بيان مناسبته خروج من مسلك السبر إلى مسلك الإخالة
(وشرط هذا الطريق) المسمى بحُجَّة الاجماع (وما بعده) من الطرق المستنبطة النص من الشارع أو (الاجماع) من العلماء (على تعليل الحكم في الجملة من دون تعيين علة) في محل من محالها إذ لو وقع على التعيين لكان هو الطريق وليس ممَّا نحن بصدده والله سبحانه أعلم .
__________
(1) ـ وأما التمثيل لما لم يعتبره أصلاً بالطول والقصر ففيه أنه قد اعتبره في المسافة التي بين الإمام والمؤتم في الفضاء فقيل كل بقامته الطويل بحسب طوله والقصير كذلك وفي كسوة الكفارة حيث قيل ما يستر أكثر بدنه والله أعلم تمت منه(1/206)
(ورابعها) أي طرق العلة (المناسبة وتسمى) أيضاً (الإخالة) لأنها بالنظر إليها يخال - أي يظن - أنها علة (وتخريج المناط) أي استخراج العلة المناط(1)بها الحكم لأنها يناط بها الحكم - أي يعلق - (وهي) أي المناسبة حاصلها في الاصطلاح (تعيين العلة) في الأصل المقيس عليه الذي ثبت بالنص أو الإجماع حكمه دون علته (بمجرد ابداء مناسبة) بينها وبين الحكم (ذاتية) منسوبة إلى ذات الوصف لا بنص ولا بغيره ولذلك سميت مناسبة كذا في غيره وفيه أن التعيين فعل القائس والمناسبة معنى قائم بالوصف والحكم فلا يصح حمله عليها إلا باعتبار كونها سبباً له على أن ذكر المناسبة في حدها تعريف للشيء بنفسه وذلك (كا) لنظر والاجتهاد في كون (الإسكار) علة (في تحريم الخمر) فإن من نظر في حكم الخمر وهو التحريم ووصفها وهو الإسكار يعلم منه كون ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسباً لشرع التحريم لأجل حفظ العقل ويقاس عليها ما ساواها في ذلك (وكا) لنظر والاجتهاد في كون (الجناية العمد العدوان) علة (في) وجوب (القصاص) فإن من نظر في الجناية ووصفها وهو كونه عمداً عدواناً يجد ذلك الوصف بالنظر إلى ذاته مناسباً لشرع القصاص لأجل حفظ النفوس كما نبَّه
__________
(1) ـ إعلم أن المضاف إلى المناط ثلاثة الأول تخريج المناط وهو ما ذكر هنا والثاني تحقيق المناط وهو عبارة عن النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها سواءٌ عرفت بالنص أو بالإجماع أو بالاستنباط نحو أن يعرف أن الشدة المطربة مناط تحريم شرب الخمر بالاستنباط فالنظر في كون النبيذ ذا شدة مطربة المظنون بالاجتهاد تحقيق المناط والثالث تنقيح المناط وهو الذي تعددت أوصافه واحتمل أن تكون العلة مجموعها أو بعضها ثم حذف بعض واعتبر آخر فهذا هو المسمى بتنقيح المناط وتهذيبه وتجريده كما في خبر الأعرابي بحذف كونه أعرابياً وكونه في رمضان تلك السنة وكونه وقاعاً فبقي كونه إفساداً للصوم مثلاً تمت منه(1/207)
على عليته تعالى بقوله ?ولكم في القصاص حيوة?[البقرة 179] وإنما قال الجناية ولم يقل القتل كما قال غيره لأنه أشمل
[وجه تقسيم طرق العلة إلى أربع]
وإنما كانت هذه الأربع طرق العلة أما النص وتنبيه النص فلأن الشارع إذا نص على العلة أو نبَّه عليها فلا يحتاج إلى سؤاله عن دليل على ذلك كما لا يحتاج في سائر الأحكام لأن قوله دليل إذ قد علمنا صدقه بظهور المعجر وأما الإجماع فلأن قول أهله كقول الشارع لما ثبت من الدليل على ان قولهم حُجَّة وأما حُجَّة الإجماع والمناسبة فللإجماع على أنه لا بد للحكم من علة في الجملة وقد تعينت العلة بهما فيجب اعتبارها كما سبق .
(و) اعلم أن المصلحة التي كان الوصف لأجلها مناسباً إذا لزم من وجود حكمها وجود مفسدة مرجوحة لا تنخرم اتفاقاً لشدة اهتمام الشارع برعاية المصالح وابتناء الأحكام عليها واختار الجمهور أنها (تنخرم المناسبة) بين العلة والحكم (بلزوم مفسدة) من إثبات الحكم بها (راجحة) تلك المفسدة على المصلحة (أو مساوية لها) لقضاء العقل بانتفاء المصلحة حينئذٍ بالضرورة ولذا لا يعد العقلاء تحصيل درهم واحد على وجه يستلزم فوات مثله أو أكثر مناسباً بل يعدون المتصرف بذلك خارجاً بتصرفه عن تصرف العقلاء كمن قال لعاقل بع هذا تربح مثل ما تخسر أو أقل منه ومن أمثلته ما يقال فيمن غٌص بلقمة مثلاً وخشي التلف ولم يجد ما يسوغها به إلا الخمر فإن في تحريمها مناسبة لحفظ العقل كما تبين ولكن يلزم من المناسبة حصول مفسدة وهي هلاكه لو لم يشربها وهذه مفسدة أرجح من المصلحة إذ حفظ النفس أولى من حفظ العقل.(1/208)
(والمناسب) في الاصطلاح (وصف ظاهر منضبط) يحترز بهما عن الخفي والمضطرب لأن العلة معرفة للحكم فإذا كان الوصف خفياً أو غير منضبط لم يعرف هو في نفسه فكيف يعرف به الحكم لأن الخفي لا يعرف الخفي (يقضي العقل بأنه الباعث على الحكم) احترازاً عن الشبة وقال أبو زيد الدبوسي الحنفي (1) وهو ما لو عرض على العقول لتلقته بالقبول وهو قريب من الأول إلا أنه لا يمكن إثباته في المناظرة إذ قد يقول الخصم لا يتلقاه عقلي بالقبول وتلقي عقلك له بالقبول لا يصيره حُجَّة عليَّ وبه يقول أبو زيد (2) بخلاف الأول فإنه يمكن إثباته كالإسكار في تحريم الخمر .
فإن قيل الإسكار غير منضبط لأن منه ما يبقى معه رشد ومنه ما لا يبقى معه
أجيب بأن العلة هي الإسكار الذي لا يبقى معه رشد بالقوة التي هي وصف المسكر .
فإن قيل فعلى هذا لا يحرم قليله إذ لا قوة فيه على الإسكار كما أن سير دون البريد لا يثبت له حكم السفر .
أجيب بإنما حرم سداً للذريعة وذلك بدليل آخر (3) غيرالعلة
__________
(1) ـ قال في طبقات الحنفية ج: 1 ص: 252باب الزاي المعجمة92أبو زيد الدبوسي اسمه عبيد الله بن عمر بن عيسى القاضي صاحب كتاب الأسرار والتقويم الأدلة قال السمعاني كان من كبار فقهاء الحنفية ممن يضرب به المثل توفي ببخارى سنة ثلاثين وأربع مائة
(2) ـ يعني أنه قائل بامتناع التمسك بالمناسبة في مقام المناظرة وإن لم يمتنع في مقام النظر لأن العاقل لا يكابر نفسه فيما يقضي به عقله ذكره سعد الدِّين تمت منه
(3) ـ وهو ما رواه في مجموع زيد بن علي عن علي عليهم السلام (ما أسكر كثيره حرم قليله )تمت منه.(1/209)
(فإن) اختل أحد القيدين الأولين بأن (كان خفياً) كالرضى في المعاملات والعمدية في الجنايات (أو غير منضبط) كالمشقة في ترخيص المسافر (اعتبر) وصف ظاهر منضبط يوجد الوصف الذي يقضي العقل ببعثه على الحكم لوجوده وهو (ملازمهُ) ملازمة عقلية أو غيرها كلية أو غالبة (و) هو (مظنته كا) لإيجاب والقبول في المعاملات واستعمال الجارح في المقتل وا(لسفر) نفسه (للمشقة) المناسبة لحكم القصر تحصيلاً لمقصود التخفيف ولا يمكن اعتبارها بعينها لأنها غير منضبطة لكونها ذات مراتب تختلف بالأشخاص والأزمان ولا يناط الحكم بالكل ولا يمتاز البعض بنفسه فنيط الحكم بما يلازمه وهو السفر .
واعلم أن المناسب معتبر عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور إذ لا نعني بالمناسبة إلا ما يتحرك الظن لكونه وجه المصلحة فإذا ثبت أن العمل على غالب الظن هو ثمرة القياس فقد لزم العمل على المناسب وبعد فإن الرجوع إلى معهودات الشرع ومراده هو الواجب إذ لو لم يجب لعاد على المستفاد بالقياس شرعاً بالنقض وذلك لا يجوز وخالف في اعتباره المريسي وأبو زيد الدبوسي
(وهو) أي المناسب للحكم باعتبار اعتبار الشارع له (أربعة أقسام مؤثر وملائم وغريب ومرسل) لأنه إما أن يعتبره الشارع أو لا إن اعتبره فإمَّا أن يعتبر عينه في عين الحكم بنحو نص أو إجماع فمؤثر أو يعتبر بنحو النص والإجماع عين في الجنس أو العكس أو الجنس في الجنس فملائم وإلا يعتبر أي الثلاثة بنحو النص والإجماع وإنما ثبت بمجرد ترتيب الحكم على وفقه فغريب وإن لم يثبت اعتباره بشيءٍ ممَّا سبق فمرسل فلذا كان أربعة أقسام(1/210)