وهذا مثال كون الوصف بعينه للتعليل فيستفاد منه كون الوقاع علة للاعتاق لأن إيراد الأمر به في معرض الجواب يجعله في معنى واقعت فكفر وإن كان دونه في الظهور لتقدير الفاء وإلا لزم إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة ولذا كان احتمال أن يكون ابتداء كلام أو زجراً للسائل عن سؤاله بعيداً جداً
ومن ذلك قوله لابن مسعود وقد توضأ بماء نبذت فيه تمرات لتجتذب ملوحته : (تمرة طيبة وماء طهور )أخرجه الترمذي وأبو داود فلم يرد بيان عين التمرة والماء وإنما أراد أن ذلك علة جواز التوضي به .
واعلم أنه لا تنافي في مسلك النص بين مراتب الصريح ومراتب الإيماء فقد يجتمعان كما في قوله وقد سُئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا نعم قال : (فلا إذاً ) فالنص في الخبر من وجوه ثلاثة الإستنطاق بالوصف وترتيب الحكم على الفاء ولفظ إذاً كأنه قال إذا كان الأمر كذلك حرم فلو لم يكن نقصان الرطب باليبس لأجل التعليل لانتفت الفائدة من ذكره إذا الجواب يتم من دونه [*]وهذا الخبر رواه كثير من أئمتنا - عليهم السلام - وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة . قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم فلا تعويل على ما روي عن أبي حنيفة من أنه لما أورد عليه هذا الحديث أجاب بأنه دار على زيد بن أبي العباس وهو ممَّن لا يقبل حديثه واستحسن أهل الحديث هذا الطعن حتى قال ابن المبارك كيف يقال أبو حنيفة لا يعرف الحديث وهو يقول زيد بن أبي العباس ممَّن لا يقبل حديثه ؟(1/201)


(و) مثال النظير وهو دون الأول لأن المذكور فيه حكم المسؤول عنه والمذكور في هذا حكم نظيره ليثبت فيه ما يثبت في نظيره إلا أنه (قريب منه) قوله لَمّا سألته الخثعمية إن أبي أدركته الوفاء وعليه فريضة الحج أينفعه إن حججت عنه (أرأيت لو كان على أبيكِ دين الخبر) تمامه فقضيته أكان ينفعه ؟ قالت نعم . رواه أصحابنا والستة وإنما كان مثالاً للنظير لأنها سألت عن حجها عن أبيها فذكر نظيره وهو قضاؤه دينه ورتب عليه الحكم وهو النفع فكان علة له(1)وإلا لزم أن يكون ذكره عبثاً ففهم منه أن نظيره في المسؤل عنه عله لمثل ذلك الحكم وهذا يسمى عند الأصوليين تنبيهاً على أصل القياس لما فيه من ذكر الأصل الذي هو دين الآدمي على الميت والفرع هو الحج الواجب عليه والعلة هو قضاء فرض الميت فقد جمع فيه بين أركان القياس كلها
ونحو مافي الصحيحين جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ . فقال أرأيت لو كان على أمكِ دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها ؟ . قالت نعم . قال (فصومي عن أمكِ) وقوله وقد سُئل عمن يُقَطِّعُ قضاء شهر رمضان ذلك إليك (لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قد قضى فالله أحق أن يعفو ويغفر) .
__________
(1) ـ إذ حاصله ينفعه الحج لأن قضاء الدين ينفع تمت منه(1/202)


(و) منها الفرق بين حكمين بوصفين إمَّا بصيغة الصفة مع ذكر الوصفين (مثل للراجل سهم وللفارس سهمين) أو أحدهما فقط كقوله (القاتل عمداً لا يرث)(1)وإمَّا بصيغة استثناء مثل ?فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون?[البقرة 237] وإمَّا بصيغة غاية مثل ?ولاتقربوهن حتى يطهرن?[ البقرة222]وإمَّا بصيغة شرط مثل إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد . وإمَّا بصيغة الاستدراك مثل ?لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان?[البقرة225] .
ووجه استفادة العلة من ذلك كله أن التفرقة لا بد لها من فائدة والأصل عدم غير المدعي وهو إفادة عليه ذلك الوصف .
__________
(1) ـ أخرجه ابن حنبل في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و الدارقطني في سننه و البيهقي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الأوسط وقال في سبل السلام ج: 3 ص: ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر العلماء قالوا لا يرث من الدية ولا من المال وذهبت الهادوية ومالك إلى أنه إن كان القتل خطأ ورث من المال دون الدية(1/203)


(و) منها ذكر وصف مناسب مع الحكم (مثل) قوله (لا يقضي القاضي وهو غضبان) (1) نبَّه على علّيّة الغضب لشغله القلب و تشويشه للنظر لعدم جواز القضاء مثل أكرم العلماء وأهن الجهّال وذلك لأنه يغلب من المقارنة مع المناسبة ظن الاعتبار (ونحو ذلك) من أنواع الإيماء كالنهي عن فعل في وقت معين قد أوجب علينا فيه ما ينافي ذلك الفعل إذ يشعر بأن علة تحريمه كونه مانعاً من الواجب كقوله تعالى ?إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع?[الجمعة] فالنهي عن البيع بعد الأمر بالسعي منبه على أن العلة في تحريم البيع حينئذٍ كونه مانعاً من الواجب .
(وثالثها) أي طرق العلة الأربع (السبر والتقسيم ويُسمى) في الاصطلاح (حُجَّة الاجماع) لأنه يرجع في تعيين ما ادعي عليته إلى الاحتجاج بالاجماع على أنه لا بد لذلك الحكم من علة (وهو) أي هذا الطريق إذ يجوز تذكيره قال تعالى ?يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقم ? [الأحقاف30]أو باعتبار (حصر الأوصاف) الموجودة (في الأصل) الصالحة للعلية في بادي الرأي ومعرفتها بأعيانها وهذا هو التقسيم (ثم إبطال التعليل بها) أي بتلك الأوصاف جميعها وهو السبر وإنما قدمه على التقسيم لتقدمه في الاعتبار لأنه يسبر المحل أولاً هل فيه أوصاف أو لا ثم يقسم ثم يسبر [ثانياً] بأن يبطلها (إلا) ما ادُّعي عليته منها (واحداً) كان أو أكثر (فيتعين) حينئذٍ كونه العلة للحكم .
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى ومسلم في صحيحه و النسائي في سننه و ابن حبان في صحيحه و الترمذي في سننه و أبو داود في سننه و ابن حنبل في مسنده و الطيالسي في مسنده و الحميدي في مسنده و النسائي في سننه الكبرى و الطبراني في معجمه الصغير و البيهقي في سننه الكبرى وقال في تلخيص الحبير ج: 4 ص: 189قوله روي أنه ( ) قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان متفق عليه من حديث أبي ورواه بن ماجة باللفظ المذكور(1/204)


مثاله (1) أن يقول في قياس الذُرة على البُّر في تحريم التفاضل بحثت عن أوصاف البُّر فما وجدت ثمة ما يصلح علة للربوية في بادي الرأي إلا الطعم أو القوت أو الكيل لكن كل من الطعم والقوت لا يصلح لذلك عند التأمل لجريان تحريم التفاضل في النورة والملح مثلاً ثم إن كان الحصر والإبطال قطعيين فالتعليل بالباقي قطعي وإلاّ فظني فهذا الطريق عبارة عن النظر والإجتهاد في تعين ما دل الإجماع أو النص على كونه علة من دون تعيين ويكفي المستدل في بيان الحصر بحثت فلم أجد سوى هذه الأوصاف ويصدق لعدالته وتدينه فلا يتهم بأنه لم يبحث أو بحث ووجد ولم يذكره ترويجاً لكلامه وذلك ممَّا يُغلّب ظن العدم لأن الأوصاف العقلية والشرعية ممَّا لو كانت لما خفيت على الباحث عنها فلا يقال عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود أو يقول الأصل عدم غيرها فإن ذلك يحصل الظن المقصود فإن أبدى المعترض وصفاً كأن يقول فيما سبق من المثال هنا وصف آخر وهو كونه خير قوت فعلى المستدل أن يبطله وإلا أحصر ولا ينقطع إذ غايته منع مقدمة وهو لا يقتضي إلا لزوم الدلالة عليها .
فائدة : الطعم بالضم الطعام وبالفتح ما يؤديه الذوق يقال طعم مر . والطعم أيضاً ما يشتهى يقال له طعم وما فلان بذي طعم - إذا كان غنياً –
__________
(1) ـ قد توهم الأصفهاني في شارح المنهاج وغيره أن خبر المجامع منه لسبب حذف كونه أعرابياً لاستواء أصناف الناس في ذلك وأهلية المحل لأولوية الزنا به وكونه رمضان ذلك العام وكونه وقاعاً إذ لا مدخل لخصوصيته نفي كون ذلك إفساداً للصوم وليس كذلك إذ لا حصر للأوصاف فيه ولا يشترط فيه الإجماع على تلعليل الحكم في الجملة والظاهر أن مثل خبر الأعرابي المسمى بتنقيح المناط أعم مطلقاً من السبر فتأمل تمت منه(1/205)

41 / 108
ع
En
A+
A-