وقال المنصور بالله تعالى والباقلاني وابن سريج وابن أبي هريرة وجمهور أئمة العربية والرازي أن ذلك جائز ويجعلون ما ثبت من الأحكام بالقياس ثابتاً بالنص الوارد على الأصل ولا يثبت بالقياس إلا مجرد التسمية . مثلاً (1)الخمر لكل نيٍّ مسكر من عصير العنب قيل أو الرطب وما سوى ذلك من المائعات إنما يسميه أهل اللغة نبيذاً والإجماع منعقد على تحريم النبيذ كالخمر لكن اختلف في مستند الإجماع على تحريم النبيذ فعند الأولين أنه القياس الشرعي في الحكم لا لأنه يسمى خمراً وعند الآخرين أنه الوارد بتحريم الخمر لأنَّ النبيذ: الخمر بالقياس اللغوي فإنهم إنما يثبتون بالقياس مجرد التسمية.
[ العلة]
(و) الركن الرابع من أركان القياس الذي عليه مدار لولبه هو العلة وهي لغة المرض والعذر قال عاصم بن ثابت الأنصاري:
والقوس فيها وَتَرٌ عُنَابِل (2)ُ
ذلك
ما علتي وأنا صحيح نابل
والآخر :
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة
فأفنيت عَلاَتي فكيفَ أقول
وعرفاً الدّاعي والصارف . واصطلاحاً الوصف المنوط به حكم شرعي ويُسمى باعثاً وحاملاً وداعيًا ومستدعياً ومناطًا ودليلا ً ومقتضياً وموجباً ومؤثراً ومسبباً وأمارة وجامعاً ومحلاً ومؤذناً ومشعراً ومصلحة وحكمة ووصفاً ومضافاً إليه . ولها شروط وخوّاص وطرق .
[شروط العلة]
__________
(1) ـ إنما قال مثلاً لأن الصحيح ما ذهب إليه الهادي وأبو طالب عليهما السلام من أن النبيذ خمر لغوي لا بالقياس لأنه يخامر العقل ويغطيه ومنه خمر الأرض لما يغطيها وخمار المرأة لما يغطي رأسها وقد روي عنه كل مسكر خمر وكل مسكر حرام أخرجه مسلم عن ابن عمر وعن عمر عن النبي قال: نزل تحريم الخمر وهو من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه والله أعلم تمت منه
(2) ـ العنابل : بالضم الصلب المتين وجمعه عنابل بالفتح مثل جوالق تمت(1/191)
أمَّا (شروط العلَّة) الصحيحة فهي خمسة والمراد بها ما يعلل به حكم الأصل
الأول منها (ألا تصادم نصاً) من الشارع أي دليلاً فالمراد بالنص ما يقابل القياس والاجتهاد فيشمل ما دلالته قطعية أو ظنية إمَّا بأن يرد في الفرع بخلاف ما يقتضيه القياس وإمَّا بأن يرد ببطلان التعليل بها وإما بأن يرد بإثبات علَّة أخرى تقتضي عكس ما يقتضيه
(ولا إجماعاً) من الأُمَّة أو العترة عليهم السلام مثاله أن يقول الشارع أو يقع الإجماع على أن كل سبع طاهر فيقول القائس الكلب نجس لأنه سبع . فهذا مخالف لما اقتضاه النص أو الإجماع المفروض(1)وذلك لأن الجامع الذي يثبت به الحكم قد ثبت اعتباره بنص أو إجماع في نقيض الحكم والوصف الواحد لا يثبت به النقيضان وحكم هذا أن طريق العلة إن كان النص أو الإجماع رجع إلى الترجيح بين النص أو الإجماع الذي علق على الجامع حكماًًً والنص أو الإجماع الذي علق عليه نقيض ذلك الحكم وإن كان طريقها الاستنباط فهي فاسدة لا يصح التعليل بها لأنه إذا ورد الأثر بطل النظر .
__________
(1) ـ وهذا التفسير لهذا الشرط أنسب ممَّا ذكره سعد الدِّين من أن معناه أنه يشترط في العلة أن لا يكون ما تثبته في الفرع حكماً بخلاف النص أو الإجماع كأن يعلل الشارع امتناع أمر بكونه سهلاً فيقاس عليه أن الملك لا تجوز له الكفارة بالإعتاق في الظهار لكونه سهلاً عليه بل يتعيَّن عليه الصوم فإن هذا الحكم يخالف الكتاب والسنة والإجماع وإنما كان ما ذكرناه أنسب لأنه بتفسير السعد يلزم استدراكه ورجوعه إلى شروط الفرع ومن شروطه ألا يرد فيه نص يقضي بخلافه فهو من باب مخالفة مقتضى القياس وحكمه عند الأكثر أن النص مقدم عليه ولا عبرة بالقياس لأن الصحابة كانت تترك القياس والاجتهاد عند النص المخالف لذلك وتكررذلك منهم وشاع ولم ينكره أحد والله أعلم تمت منه(1/192)
(و) الشرط الثاني (أن لا يكون في أوصافها) المتعددة حيث قلنا بجواز تركيبها وهو الصحيح والذي بنى عليه المصنف فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في قوله ويصح أن تكون مفردة ومركبة (ما) أي وصف (لا تأثير له) أي لذلك الوصف (في الحكم) المعلل فلا بد في كل منها أن يكون باعثاً على الحكم حيث هي باعثة أو يدل عليه حيث هي أمارة كما يقال في الاستدلال على وجوب القصاص في القتل بالمثقل بالقياس على القتل بالمحدد قتل عمد عدوان فإن لكل واحد من هذه الأوصاف تأثيراً في اقتضاء الحكم وهو وجوب القصاص فإن لم يكن كذلك لم يصح التعليل به ولو كان تركه ممَّا يورث النقض للعلة
مثاله أن يقال في تحريم التفاضل في النورة مثلاً مثلي ليس بلبن المصراة فيضمن بمثله ويجعل قوله ليس بلبن المصراة جزءاً من العله وهو ليس بباعث على الحكم ولا أمارة عليه ولو أسقط لانتقض القياس به فمثل ذلك لا يصح أن يكون علَّة والمرجع في تفسير تأثيرها إلى غالب الظن بأنها تثمر ذلك الحكم في الجملة
فيندرج تحت هذا الشرط اشتراط أن لا تكون جملة أوصاف الأصل إذ يؤدي إلى أن لا تتعدى العلة لعدم وجود جملة أوصاف الأصل في الفرع بيان ذلك أن من أوصاف الأصل في الخمر مثلاً كونها معتصرة من العنت وهذا الوصف لا يوجد في المسكر من غيره وأيضاً فإن من أوصافها كونها جسماً مائعاً وأحمر فمثل ذلك لا يظن أن الحكم منوط به
(و) الشرط الثالث (ألا تخالفه) أي الحكم (في التغليظ والتخفيف) لعدم الملائمة حينئذ إذ التغليظ إنما يقتضي تغليظا وبالعكس في التخفيف فيرتفع ظن عليه أحدهما في الآخر مثاله في التيمم مسح يراد به الصلاة فيسن فيه التكرار كالوضوء فيعترض بأن العلة وهي كونه مسحاً تخفيف والحكم الموجب عنها وهو التكرار تغليظ فلا ملائمة بين العلَّة وحكمها فلا تكون باعثة ولا أمارة له .(1/193)
(و) الشرط الرابع (ألا تكون) أي العلَّة (مجرد الاسم) كما لو علل تحريم الخمر بكونها تسمى خمراً (إذ) مجرد الاسم (لا تأثير له) في الحكم الذي هو التحريم لتوقفه على المواضعة. والمصلحة والمفسدة لا يتبعانها فهي طردية ولا حاجة إلى هذا الاشتراط مع اشتراط أن لا يكون في أوصافها ما لا تأثير له فإنه إذا قد ألغي غير المؤثر مع ما له تأثير فبالأولى إلغاؤه منفرداً والله سبحانه أعلم . ولو قال بدل هذه الشروط الثلاثة وأن يكون لها تأثير لأغْنَى عنها أجمع أمَّا إغناؤه عن الثاني والرابع فظاهر وأما إغناؤه عن الثالث فمن حق التعليل أن يكون بما له أثر في الظن واختلاف موضع العلة والحكم يباعد الظن لكون المغلظ علة لحكم المخفف أو العكس (1).
(و) الشرط الخامس (أن تطرد) أي كلما وجدت وجد الحكم فلا يتخلف عنها إلا لخلل شرط أو حصول مانع (على الصحيح) المختار عند المصنف وهو مذهب القاضي وأبي الحسين وبعض الشافعية وجمهور الحنفية وقوَّاه المهدي عليه السلام منصوصة كانت أو مستنبطة فلا تثبت في محل مع تخلف حكمها وإلا فهو المعبر عنه بنقض العلة وفسادها وتخصيصها .
__________
(1) ـ ويغني أيضاً عن قول صاحب الفصول الثالث كونها بعض أوصاف الأصل لا كلها السادس تعدى المقيس عليها فلا تكون المحل ولا جزءاً منه إذ لا تأثير لذلك لا يقال إنما ذكر من كل من الشروط على حدة إشارة إلى الخلافات الواقعة فيها وهي أربعة: إطلاقان ،وتفصيلان لا يقال أيضاً أن قولكم وأن يكون لها تأثير يستلزم أن يوجد علة مركبة من أوصاف لا تأثير لكل منها منفرداً والتأثير إنما هو للمجموع من حيث هو المجموع مع أنه لا بد وأن يكون لكل جزء تأثير لأنَّا نقول أنه لا يمتنع أن تكون الهيئة الاجتماعية من متعددة الأوصاف ممَّا يظن علّيّته بالدليل وإن لم يكن لكل من تلك الأوصاف تأثير متحداً على أنَّا لا نعلم قائلاً بمنع ذلك ممَّن يقول بجواز المركَّبَة والله سبحانه أعلم تمت منه(1/194)
(و) من شروطها (أن تنعكس) ومعنى انعكاسها انعدام الحكم عند انعدامها وإلا لم يصح التعليل بها (على رأي) ثابت لبعض العلماء وهو المانع من جواز تعليل الحكم بعلتين مختلفتين كل منهما مستقل باقتضاء الحكم فصاعداً .
وعند أئمتنا عليهم السلام والجمهور أنه يصح لوقوعه كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وتبعهم المصنف حيث قال هنا على رأي وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى ويصح تقارن العلل وقد اشترط غير هذه الشروط ممَّا هو داخل في ضمن ما ذكر أوغير معتبر فلا نطول بذكره .
[ خواص العلة]
(و) أمَّا خواصها فكثيرة : وخاصة الشيء ما يدخله دون غيره سواء شمل أفراده أو لا فإطلاقهم خواص العلة على بعض ما ذكر فيه ضعف
فمنها أنه (يصح أن تكون نفيا )مخصصاً بأمر يضاف هو إليه وأمَّا العدم المطلق فلا كلام في أنه لا يعلل به لعدم اختصاصه بمحل وحكم واستواء نسبته إلى الكل إما في حكم عدمي نحو غير عاقل . فلم يصح بيعه أو ثبوتي نحو لم يمتثل . فحسنت عقوبته عند الجمهور وذهب بعض الفقهاء وابن حاجب أن تعليل الثبوتي بالعدمي لا يصح لنا معرفة كون المعجز معجزاً أمر وجودي وهو معلل بالتحدي بالمعجز مع انتفاء المعارض وهذه علة جزؤها عدم وما جزؤه عدم فهو عدم وقد علل به وجودي فبطل سلبهم الكلي وكذلك الدوران علة لمعرفة كون المدار علة فهي وجودية والدوران عدمي لأنه عبارة عن الوجود مع الوجود والعدم مع العدم فأحد جزئيه عدم فهو عدم
(و) منها يصح (أن تكون إثباتاً) في حكم ثبوتي كالزنا في وجوب الحد أو عدمي كالإسراف في عدم نفاذ التصرف عارضاً كالشدة لأنها تعرض في العصير بعد أن لم تكن ونعني بالشدة كونه مسكراً أو لازماً كالثمنية في النقدين فإنهما ثمن لما قابلهما أبداً(1/195)