وقوله (على) القول (المختار) عائد إلى المسألتين فإن بعضهم أجاز التعبد بالقياس في كل فرد فرد بمعنى أن كلاً من الأحكام صالح لأن يثبت بالقياس بأن يدرك معناه . ومعنى ضرب الدية على العاقلة مدرك وهو إعانة الجاني فيما هو معذور فيه كما يعان الغارم لإصلاح ذات البين بقسط من الزكاة . وبعضهم يشترط الإجماع على حكم الأصل أو الاتفاق بين الخصمين . قلنا أدلة القياس لم تعتبر ذلك وقاس الصحابة على أصول ليست كذلك
[أركان القياس ]
(و) لما فرغ من بيان ماهية القياس وأقسامه وكونه أحد الأدلة الشرعية عقبه ببيان أركانه التي لا يتم إلا بها وشرائطها فقال : (أركانه ) المشار إليها في الحد (أربعة ) :
(أصل) وهو المشبه به الذي هو محل الحكم وهو في الأصل ما يبتني عليه غيره فلذا لم يستبعد (1) جعله الدليل أو الحكم أو العلة الثابتة في محل الوفاق إلا أنه الذي عليه اصطلاح الأصوليين والفقهاء
(وفرع) هو المشبه الذي هو محل الحكم المراد إثباته وكان الأنسب أن يجعل عبارة عن حكمه كما قال البعض لأنه الذي يبتني على الغير ويفتقر إليه دون المحل ولكنهم لما سمّوا محل الحكم المشبة به أصلاً سموا المحل الآخر فرعاً لكونه مقابلة على طريق المجاز وقدم على الحكم والعلة لمقابلته الأصل فمناسب ذكره عقيبه لما بين المتقابلين من اللزوم في الذهن
__________
(1) ـ أي لم يستبعده أبو الحسين كما في الفصول تمت منه(1/181)
(وحكم) وهو ما دل عليه الدليل من التحريم ونحوه في الأصل المطلوب إثبات مثله في الفرع وهذا المثل هو ثمرة القياس التي يتناولها تكليف القياس وإلا فإن ثمرة القياس وغيره من التكاليف رضا ربِّ الأرباب فلا يصح أن يعد من أركانه لأن عده منها يقتضي توقف القياس عليه والمفروض توقفه على القياس فيكون دوراً وهو مبني على أن الدليل يقتضي نفس الحكم لا العلم بالحكم وهما قولان صحح ثانيهما (1).
فإن قيل : إذا رجح الثاني كانت ثمرة القياس العلم بالحكم لا نفسه فعد حكم الفرع من أركان القياس لا يقتضي الدور فهلا قيل بأنها خمسة ؟ .
أجيب : بأن الحكم في الأصل والفرع واحد باعتبار نوعه وإن تعدد شخصا لتعدد المحال ولعل هذا وجه إطلاقه وعدم تقييده بإضافته إلى الأصل كما في غير هذا الكتاب وإضافته في غيره لسبقه في الاعتقاد .
(وعلة) وهو الوصف الجامع بين الأصل والفرع . فإذا قيل حرمت الخمر لإسكارها ثم قيس عليها النبيذ فالأصل الخمر والفرع النبيذ لتشبيهه والحكم التحريم والجامع الإسكار .
ولما كان للقياس شروط لا تخرج عن شروط أركانه فمنها ما يعود إلى الأصل ومنها ما يعود إلى الفرع ثم ما يعود إلى الأصل منه ما يعود إلى حكمه ومنه ما يعود إلى علته عدد ذلك مفصلاً فقال :
[شروط الأصل ]
__________
(1) ـ كذا ذكره في الهداية وهو ينقض ما ذكره في باب النسخ من كون القياس كاشفاً لا مثبتاً باتفاق إلا أنه يكون المراد من التصحيح هنا هو الاتفاق وهو بعيد تمت منه(1/182)
(فشروط الأصل) ثلاثة سلبية عائدة إلى حكمه : الأول منها (ألا يكون حكمه منسوخاً) فإن كان منسوخاً غير ثابت لم يثبت القياس لأنه إنما يتعدى الحكم من الأصل إلى الفرع باعتبار الشارع للوصف الجامع فإذا أزال الحكم بالنسخ لم يبق الوصف معتبراً للشارع فلا يتعدى الحكم به إلى الفرع (1).
فإن قيل :فإنكم قد أقستم عدم وجوب تبييت النية في صيام شهر رمضان على عدم وجوبه في صوم عاشوراء حيث كان واجباً في صدر الإسلام ثم نسخ فالنسخ قد رفع حكم ذلك الأصل وما يصحبه وما يتفرع عليه من الأحكام والأحوال .
قلنا :إنما صح ذلك لبقاء شرعية صوم عاشوراء وإن كان ندباً فذلك من باب اختلافهما تغليظاً وتخفيفاً ولا يضر على ماحكاه صاحب الفصول عن أئمتنا عليهم السلام وجمهور غيرهم لعدم دليل اشتراطه مع حصول العلة
(و) الشرط الثاني أن يعقل مثل علته المعتبرة في محل آخر بأن (4) يكون حكمه (معدولاً به عن سنن القياس) أي طريقه المعهود في الشرع والباء للتعدية أي جعل عادلاً ومجاوزاً عنه فلم يبق على منهاجه فلا يقاس عليه حينئذٍ وهو قسمان :
__________
(1) - قلت لكن يقال قد تقرر أن القياس كاشف لا مثبت فكأن الشارع نص على حكم الفرع مع حكم الأصل فإذا رفع حكم الأصل لم يرتفع حكم الفرع كما لو نص على حكم لأمرين متغايرين ثم نسخ الحكم لأحدهما بقي الأخر إلا أن يقال إن الأمر الذي لأجله اعتبر الحكم في الفرع وقد ارتفع فارتفع لارتفاعه تمت منه(1/183)
أحدهما لا يعقل معناه وهو إما غير مخرج من قاعدة مقررة كمقادير العبادات وإما مخرج عنها بأن قصر حكمه على الأصل كما روي أن ابا بردة بن نيار بكسر النون وتخفيف المثناة من تحت خال البراء قال يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن هذا اليوم يوم اكل وشرب فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح فذبحت شاتي وتغذيت قبل أن آتي الصلاة !! فقال شاتك شاة لحم . قال يا رسول الله فإن عندي عناقاً جذعة هي أحب إليّ من شاتين أفتجزي عني ؟ قال نعم ولا تجزي عن أحد بعدك (1).
والثاني ما يعقل ولم يعتبر في محل آخر كترخيص المسافر لما فيه من المشقة المناسبة للترخص لكنها لم تعتبر في غيره كالحدادة في القيظ في قطر حار والله سبحانه أعلم .
__________
(1) ـ هذا هو حديث البراء بن عازب خطبنا رسول الله يوم النحر بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له فقام أبو بردة بن نيار خال البراء بن عازب فقال يا رسول الله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة فقال تلك شاة لحم قال فإن عندي عناقا جذعة هي خير من شاتي لحم فهل تجزئ عني فقال نعم ولن تجزئ عن أحد بعدك متفق عليه واللفظ هنا لرواية أبو داود إلا أنه قال بدل فلا نسك له فتلك شاة لحم
وغيره ممَّن خص بذبح الجذع وقد جمعهم الديبع فقال
بذبح عناق في الضحية يقبل
لقد خصص الرحمن حقاً جماعة
كذا عقبة نجل لعامر ينقل
أبو بردة منهم وزيد بن خالد
يقال خص زيد بالذكر إذا ذكر دون غيره . وفي الكشاف ?إيَّاك نعبد? معناه نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك . وأما استعمال الباء في المقصور عليه فقليل كما في قولهم ما زيد إلا قائم . أنه لتخصيص زيد بالقيام لكنه مما يتبادر إليه الوهم كثيراً حتى أنه يحمل الاستعمال الشائع على القلب . ذكره في التلويح تمت منه(1/184)
(و) الشرط الثالث أن (لا) يكون متفرعاً عن أصل (ثابتاً بقياس) آخر عند الجمهور لأنه إن اتحدت العلة الجامعة بين القياسين اللذين أحدهما لإثبات المطلوب والآخر لإثبات أصله انتفت الفائدة لأن ذكر الوسط أعني ما هو أصل في قياس وفرع في آخر ضائع لإمكان طرحه من الوسط وقياس المطلوب على ما جعل أصلاً له .
مثاله قياس الشافعي السفرجل على التفاح في الربوية بجامع الطعم فتمنع ربوية التفاح فيلحقه بالبُّر بالطعم أيضاً فإنه حينئذٍ يضيع ذكر التفاح لإمكان إلحاق السفرجل بالبُّر من دونه وإن كانت غير علة الأصل المطلق فسد القياس لأنها هي المعتبرة فلا توجد في الفرع المطلق والموجود فيه علة غير معتبرة فلا مساواة بين الفرع المطلق وأصله في العلة المعتبرة ولا اعتبار بمساواة في غيرها فلا تعدية كما لو قيس الجذام على الرتق فسخ النكاح به بجامع كونهما عيباً يفسخ به البيع فيمنع أن النكاح يفسخ بالرتق فيثبت بقياسه على الجب بجامع فوات الاستمتاع ففوات الاستمتاع هو الذي يثبت لأجله الحكم على الرتق وهو غير موجود في الجذام والوصف الثابت في الجذام لم يثبت باعتباره .
وأجازت الحنابلة القياس على المقيس ومنعوا لزوم المساواة في العلة لجواز أن يثبت الحكم في الأصل بعلة وفي الفرع بأخرى كما يجوز أن يعلم ثبوته في الفرع بدليل هو القياس وفي الأصل بدليل آخر من نص أو إجماع .(1/185)