قلنا : ينتفي علم أصابة الحق مع فقده ولأن الإجماع بلا سند محال عادة لأن اتفاق الكل لا لداعٍ يستحيل عادة كالإجماع على أكل طعام واحد في وقت واحد ، والعراء عن الفائدة مع المستند ممنوع إذ فائدته حرمة المخالفة وسقوط البحث عن المستند (وإن لم ينقل إلينا) وبهذا يظهر فساد ما ذكر صاحب الفصول من أن شرط الاستدلال به معرفة السند ومعرفة كيفية نقله من تواتر أو تلق بالقبول في القطعي أو آحاد في الظني لأن اشتراط معرفة الكيفية فرع ثبوت اشتراط نقله في الجملة فمهما لم يثبت لم تثبت ثم إذا أجمعوا على موجب دليل فإن كان قطعياً عندهم فهو سند الإجماع قطعاً لامتناع ألا يتفقوا على القطعي مع طلبهم لما يدل على الحكم ولو فرض ظني لهم مفيد لذلك لم يجز أن يكون صارفاً لدعاء القطعي إياهم إلى الحكم والاتفاق عليه وأيضاً الاتفاق على الظني دون القطعي محال عادة [*]وإلا يكن قطعياً فيحتمل أن يكون هو السند وأن يكون غيره لسعة الظنيات ولا يجوز جهل الأُمَّة بدليل راجح إن لم يعمل أحد منهم على وفقه لأنه إجماع على الخطأ وإن عملت أو بعضها على وفقه جاز إذ ليس إجماعاً منهم على عدمه فإنَّ عدَمَ العلمِ ليس علماً بالعدم وإلا لزم عدم ما لم يتفقوا على العلم به وهو باطل بالضرورة(1/146)


(وأنه يصح أن يكون مستنده قياساً) جلياً كان أو خفياً لأنه لو فرض وقوعه عنه لم يلزم منه محال كخبر الواحد والمتواتر الظني الدلالة إذ لا مانع يقدر إلا كونه مظنوناً ولإجماعهم على حد الشارب فإن عليًّا عليه السلام أثبته بالقياس وأجمعوا على رأيه حيث قال :(إذا شرب سكر ، وإذا سكر هَذَى ، وإذا هذى افترى ، فأرى عليه حد المفتري) (1)أخرجه مالك والشافعي عن ثور بن زيد الديلمي وهو منقطع لكن وصلَه الحاكم من وجه آخر عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس وقد روى أئمتنا عليهم السلام والفقهاء ذلك عن رسول الله (2)
وفي الصحيحين عن أنس أنه جلد في الخمر بالجريد والنخل والنعال وجلد أبو بكر أربعين فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر .
(أو اجتهاداً) وهو مرادف القياس عند الشافعي ومباين له عند الكَرخي لأنه عنده ما لا أصل له
__________
(1) ـ أخرجه البيهقي في سننه الكبرى وأخرجه البخاري في صحيحه و ابن حنبل في مسنده و الحاكم في مستدركه و الطبراني في معجمه الكبير و النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى
(2) ـ ينظر في الجمع بين هذا وما رواه في مجموع زيد بن علي عنه عليهما السلام منه عليه السلام أنه قال من مات في جلد الزنا والقذف فإنه لا دية له كتاب الله قتله ومن مات في حد الخمر فديته في بيت مال المسلمين فإنه شيء رأيناه إنتهى منه . وقد رجح الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام - بعد تضعيف ماروي أن أمير المؤمنين عليه السلام جلد الشارب برأي ارتآه - أن رسول الله جلد في الخمر(1/147)


والحق أنه أعم مطلقاً لاجتماعهما في ما له أصل يرد إليه ، ووجوده بدون القياس فيما لا أصل له يرد إليه كأروش الجنايات ، فحيث كان مذهب المصنف الأول كان ذكره الاجتهاد بعد القياس عطفاً تفسيرياً وإن كان الثاني فظاهر لتباينهما . وإن كان الثالث كان من عطف العام على الخاص فكان الأنسب العطف (1) بالواو إذ هي المختصة بجواز عطف المرادف والعام على الخاص كما هو مقرر في موضعه .
وإنما صح كون مستنده الاجتهاد أمَّا على القول بأنه هو القياس فلما تقدم في القياس وأما على غيره فلان الأحكام الحاصلة باجتهاد كلها حاصلة عن طرق الشرع الجملية من الكتاب العزيز وسنة الرسول قولاً أو فعلاً أو تركاً أو تقريراً والإجماعين كذلك وليس الاجتهاد إلا في تفاصيل ما جاءت به الطرق . ألا ترى أنَّا إذا اجتهدنا في أرش الجناية فإن لنا في ذلك أصلاً وهو الإجماع أنه لا بد في ذلك من غرامة لكن الإجماع لم يعين قدر تلك الغرامة فيتوصل إلى معرفتها بالاجتهاد بأن ينظر إلى ما يلحق المجني عليه من الألم وما يشغله عن الحرفة إن كان ذا حرفة أو يقرب من ذلك إلى ما ورد النص بأنه له أرشاً ونحو ذلك والله أعلم .
(و) اعلم أن أهل العصر الأول إذا أجمعوا على حكم من الأحكام فلا شبهة عند القائلين بأن الإجماع حُجَّة في جواز إجماع من بعدهم من أهل الأعصار على قولهم . وفي أنه لا يجوز لبعض الأمة بعدهم الخلاف لهم وفي أنهم إذا أجمعوا على أنه لا يجوز لمن بعدهم الإجماع على خلاف قولهم أنه لا يجوز لهم ذلك
__________
(1) ـ إنما قلت الأنسب ولم أقل الناسب لصلاحية ذلك أجمع ، وعدم صلاحية أو على تقديرين دون الثالث تأمل والله أعلم تمت منه(1/148)


وإنما اختلفوا في أنه هل يصح إجماع أهل العصر الثاني على خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الأول ولم ينصوا على منعه ؟ فقال أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري رحمه الله تعالى (1) من أصحاب الهادي عليه السلام وأبو عبد الله البصري شيخ أبي طالب عليه السلام أنه يصح ويكون الثاني كالناسخ للأول
__________
(1) ـ قال في مطلع البدور : علامة الشيعة ، الفقيه الرباني ، الراجح أبو الحسين أحمد بن موسى الطبري رحمه الله ، حافظ السنن ، الماضي على أقوم سنن ، شيخ الاسلام رضي الله عنه ، كان له من العناية بإحياء الملة بعد موت ابني الهادي إلى الحق عليهما السلام أضعاف ما كان في حياتهم ، وكان أحمد بن موسى من الطبريين القادمين إلى اليمن . وقال في طبقات الزيدية : احمد بن موسى الطبري أبوالحسين ، يؤوي عن محمد بن يحيى عن أبيه الهادي أصول الدين إهـ(1/149)


ومختار أئمتنا عليهم السلام وجمهور غيرهم (أنه لا يصح) ولا يقع (إجماع بعد الاجماع على خلافه) بحيث لا يمكن الجمع بينهما إذ الدليل لم يفصل بين أن يكونوا أجمعوا على أن لا إجماع بعد إجماعهم وبين غيره ولأن خلافهم إذا كان ذنباً مهجوراً وحجراً محجوراً فكيف يصير حُجَّة من حُجج الله تعالى وهذا ممَّا لا خلاف في فساده ولأن النسخ إنما يكون لتغير المصلحة وذلك مما استأثر الله بعلمه ولا هداية للخلق إلى معرفته ولأنه لا يخلو الاجماعان إمَّا أن يكونا باطلين أو أحدهما أو صحيحين ليس الأول ولا الثاني لأن الأُمَّة لا تجمع على باطل ولا الثالث لاقتضائه ثبوت الحكم وضده أو ثبوته ونفيه وهو محال أو يكون آخرهما ناسخاً للأول وذلك باطل بما سبق وسيأتي إن شاء الله تعالى ولهما أن يجيبا عن الأول بأن الدلالة إنما قضت بتحريم مخالفة الإجماع وهذا إجماع حكمه حكم الأول وعن الثاني بأنه إنما كان ذنباً إذا كان خلافاً للأُمَّة لا لبعضها فالذنب خلاف قولهما لا قولهما وعن الثالث بأنه يجوز أن ينتهي مدة الحكم الثابت بالإجماع بتوفيق الله أهل الإجماع للإجماع على خلافه
(وأنه لا ينعقد بالشيخين) أبي بكر وعمر ولا يكون حُجَّة وقال قوم أنه حُجَّة لقوله : (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ) رواه الترمذي وغيره (1) والأمر بالاقتداء بهما يقتضي نفي الخطأ عنهما .
__________
(1) ـ ابن حزم فوهاه إهـ و ضعفه أيضا الذهبي كما في الأصل تمت(1/150)

30 / 108
ع
En
A+
A-