(و) متى تعارض الخبر والقياس فإن لم يمكن الجمع بينهما بوجه فقال أئمتنا عليهم السلام وأحمد والشافعي وأكثر الصحابة وأكثر الحنفية وأبو عبد الله البصري أنه (يقبل الخبر المخالف للقياس) من كل وجه (فيبطله) ويقدم عليه لحديث معاذ المتلقى بالقبول ولإجماع الصحابة على تقديمه كما روي عن عمر أنه لما جاءه قاضي دمشق قال له كيف تقضي ؟ قال أقضي بكتاب الله . قال فإذا جاء ما ليس في كتاب الله تعالى ؟ قال أقضي بسنة رسول الله . قال فإذا جاء ما ليس في سنة رسول الله ؟ قال أجتهد رأيي وأوامر جلسائي . فقال له عمر أحسنت.
وعنه أنه لما بعث شريحاً على قضاء الكوفة قال انظر فما تبيَّن لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحداً وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبيَّن لك في السنة فاجتهد فيه رأيك (1)
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى و البيهقي في سننه الكبرى(1/106)


وعن ابن مسعود أنه قال : (من عرض له قضاء فليقض بما في كتاب الله تعالى فإذا أتاه أمر ليس في كتاب الله تعالى فليقض فيه بما قضى رسول الله فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه رسول الله فليقض بما قضى الصالحون فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض فيه رسول الله ولم يقض فيه الصالحون فليجتهد رأيه.والآثار في هذه كثيرة(1)تشهد بها كتب السير وشاع بين الصحابة التصريح بتقديم الخبر على القياس من غير نكير أحد منهم فكان إجماعاً ولأن خبر الواحد (2)أصل للقياس ومستقل بنفسه في إفادة الحكم كنص الكتاب والسنة المقطوع بها والقياس فرع له كما هو فرع للكتاب والسنة المتواترة غير مستقل بنفسه في إفادة حكم فلو قدم القياس عليه لكان تقديماً للفرع على الأصل وهو باطل ، وأيضاً فإن مقدماته أقل لأنه يجتهد فيه في أمرين : عدالة الراوي ودلالة الخبر والقياس يجتهد فيه في ستة أمور حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعيين ظ الوصف المعلل به ووجوده في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع وهذا إن لم يكن الأصل خبراً آحادياً وإلا وجب الاجتهاد في الأمور الستة مع الأمرين المذكورين في الخبر فلو قدم القياس على الخبر لقدم الأضعف وهو باطل إجماعاً وذلك لأن ما يجتهد فيه في مواضع أكثر فاحتمال الخطأ فهي أقوى والظن الحاصل به أضعف .
__________
(1) ـ أخرجه النسائي في سننه الكبرى
(2) ـ وإنما رد ابن عباس خبر أبي هريرة (توضؤا مما مست النار) بالقياس وقال ألا يتوضا بالماء الحميم ؟ فكيف يتوضا بما عن نتوضا ونحوذلك لارتياب في الراوي لعدم ضبطه ولعل ابن عباس علم أنه منسوخ بحديث ما رواه جابر كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء ممَّا مست النار والله أعلم تمت منه .(1/107)


فإن قيل : احتمال القياس أقل لأن الخبر يحتمل باعتبار العدالة كذب الراوي وفسقه وكفره وخطأه وباعتبار الدلالة التجوز والإضمار والاشتراك والتخصيص وباعتبار حكمه النسخ والقياس لا يحتمل شيئاً من ذلك .
أجيب : بأن تلك الاحتمالات بعيدة فلا تمنع الظهور وأيضاً فإنه يأتي مثلها في القياس إذا كان أصله خبراً آحادياً .
فإن قيل : ظاهر المتن يقضي بوجوب تقديم الخبر مطلقاً فكيف حكمت بأنه إنما يجب تقديمه عند تعذر الجمع بينهما ؟ .
قلت : لأنه قد تقرر أنه يجب التأويل والجمع بين الدليلين ما أمكن وسيأتي له أنه يصح تخصيص كل من الكتاب والسنة بمثله وبسائرها فكان هذا مطلقاً مقيداً بما سيأتي إن شاء الله تعالى والله أعلم .(1/108)


(و) هذا إن كان القياس ظنياً فإن كان قطعياً وسيأتي فإنه (يرد ما خالف الأصول المقررة) وهي الكتاب والسنة والإجماع المعلومة ومنها القياس(1)المذكور فإذا قضى الخبر الآحادي في عين ما حكمت به الأصول المذكورة بخلافه كتحليل وتحريم على جهة النسخ فإنه يرد إذ لا يقوى الظني على مقاومة القطعي خلافاً للظاهرية .
قلت : وينظر في وجه ذكرها هنا على حدة فإنه قد تقدم ما يدل عليها في قوله وعدم مصادمتها قاطعاً فمع تفسير الأصول بما ذكر هي عين ما تقدم لا غيره والله سبحانه وتعالى أعلم .
(و) أمَّا إن خالفها ظاهر و أمكن الجمع بينه وبينها إمَّا بتخصيص أو تقييد أو تأويل فإنه لا يرد بل (يقبل المخالف لقياس الأصول) أي مقتضاها ظاهراً جمعاً بين الدليلين إذ هو الواجب مع إمكانه
__________
(1) ـ كذا فسر الأصول بما ذكرنا الإمام المهدي عليه السلام في المنهاج حيث قال وهي صرائح الكتاب والسنة والإجماع التي لم تنسخ . فإن قلت فإنه لم يذكر القياس كما ذكرته . قلت بل ذكره ضمناً في سياق ذلك حيث قال فإن قلت إذا كان الأصول النقلية هي الكتاب والسنة فالخبر الآحادي من الأصول فكيف يوصف بأنه مخالف للأصول ؟ قلت أرادوا بالأصول ما أفاده العلم اليقين من الأدلة العقلية والصرائح النقلية فما أفاد الظن فليس بأصل لكن إن وافق الأصول قُبِل وإلا وجب إطراحه عندناإلخ ما ذكره عليه السلام وكذا فإن صاحب الجوهرة قال : المراد بالأصول الكتاب ،والسنة المتواترة والإجماع القاطع ونحو ذلك ولا معنى لنحو ذلك إلا ما كان قاطعاً كالقياس القطعي والخبر المتلقى بالقبول . قال الدواري وهو مستند في كلامه إلى كلام الإمام المنصور بالله وكلام الشيخ الحسن والله أعلم إهـ .(1/109)


وذلك كخبر القرعة فإنه روي من طريق عمران بن الحصين (1) أن رجلاً أعتق ستة مماليك وهو مريض ولم يكن له غيرهم فجزأهم النبي ثلاثة أجزاء ثم قرع فأعتق رسول الله اثنين وأرق أربعة ذكره في سنن أبي داود ومسلم والنسائي والبخاري والترمذي فإنه نقل للحرية وقد وقع الإجماع على أنها لا تنقل وكل واحد من العبيد يعتق ثُلُثه فلما أمر بالقرعة في حريتهم نقل الثلث الحر من الأربعة إلى الاثنين اللذين خرجت القرعة بحريتهما لأن الإجماع المذكور إنما وقع على من قد عرفت حريته بعينه وإسلامه والخبر لم يوجب رق من عرفت حريته بعينه بل حيث التبس تعيينها فمنع قياس الحرية المعلومة جملة على الحرية المتعينة في منع طرق الرق عليها
__________
(1) ـ في لوامع لسيدي المولى الحجة مجد الدين المؤيدي حفظه الله ما لفظه : عمرا ن بن حصين أبو نجيد بضم النون وفتح الجيم الخزاعي البصري أسلم عام خيبر وشهد ما بعد ذلك ، وكان من فضلاء الصحابة ، قلت ـ والكلام لسيدي مجد الدين ـ وقد نزهه في شرح النهج عن الانحراف وروي أنه كان ممن يفضل الوصي عليه السلام وهو الظن به لمكانه في الاسلام ، قال : وكان مجاب الدعوة ، مات بالبصرة سنة اثنتين وخمسين ، أخرج له الجماعة وأئمتنا الخمسة إلا الجرجاني ، عنه أبو رجاء العطاردي ، وعبد الله بن بردة ، وأبو نضرة ، والحسن البصري إهـ(1/110)

22 / 108
ع
En
A+
A-