التسمية بالحمد لله لنحو ما تقدم في التسمية واختار فيهما هذا اللفظ الشريف ، والترتيب اقتداءاً بالكتاب العزيز لأنه فاتحته ، وخاتمة دعاء أهل الجَنَّة ، وأبلغ صيغ الحمد ، فيتعين في بر من حلف ليحمدن الله بأجل المحامد ، وجمعاً بين روايات الابتداء ، فإنه روي ببسم الله الرحمن الرحيم ، وبسم الله ، وبالحمد لله - برفع الحمد وجره - كما لا يخفى على المتأمل ، ولأن المناسب لمقام التعظيم التصريح بالحمد ، وحصره عليه تعالى ، ولا ينتقض ذلك بوجوب شكر المنعم من عباد الله تعالى لرجوع الحمد إلى الكمال ، حتى كأنه لا حمد إلاَّ الكامل ، وهو حمد الله تعالى .
فإن قيل : ما افتتح ببسم الله غير مفتتح بالحمد لله والعكس ، فلا يمكن العمل بأحاديث الابتداء أجيب : بأن الافتتاح إمَّا أمر عرفي يعتبر من حال الأخذ في التأليف إلى الشروع في البحث أو منقسم إلى حقيقي وإضافي فيمكن الجمع بتقديم أحدهما على الآخر ، فيكون الأول حقيقياً ، والآخر إضافياً . (على سوابغ نعمائه) إشعار بأنه حمد لله وشكر واجب وعليه قوله :((الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لم يحمده)) (1).
فإن قيل : أداء حق الشكر يحصل بمجرد الحمد ولو في آخر الكتاب . أجيب : بأن الغرض الأصلي من الافتتاح بالحمد ربط الحاضر - الذي هو سوابغ النعماء - وجلب المزيد المشار إليه بقوله تعالى ? لئن شكرتم لأزيدنكم?[إبراهيم 7] ومنه (2)التأليف ، فتقديم الحمد على المجلوب - الذي هو التأليف أولى .
__________
(1) ـ وفي هذا دليل على أن الحمد من الشكر .
(2) ـ أي من جلب المزيد والله أعلم(1/6)
فإن قيل (1): قوله الحمد لله إخبار بثبوت الحمد لله والإخبار عن ثبوت الشيء ليس إياه . أجيب : بأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى عين الحمد ، كما أن قول القائل :(الله واحد) عين التوحيد ، وبأن مثل هذا القول المذكور إخبار واقع موقع الإنشاء ؛ إذ الظاهر أن المتكلم به ليس بصدد الإخبار والإعلام ، لأن المخاطب به هو الله تعالى ،ففيه وضع الظاهر موضع المضمر (2)
__________
(1) ـ في تفسير الرازي ما لفظه : الفائدة السابعة عشر : يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته فنقول : تحميد الله ليس عبارة عن قولنا :(الحمد لله) لأن قولنا :(الحمد لله) إخبار عن حصول الحمد ، والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه ، فوجب أن يكون تحميد الله تعالى مغايراً لقولنا :(الحمد لله) ، فنقول : حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعماً ، وذلك الفعل إمَّا أن يكون فعل القلب ، أو فعل اللسان ، أو فعل الجوارح ، أمَّا فعل القلب : فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفاً بصفات الكمال والجلال ، وأمَّا فعل اللسان : فهو أن نذكر أوصاف دالة على كونه موصوفاً بصفات الكمال ، وأمَّا فعل الجوارح : فهو أن يؤتى بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفاً بصفات الكمال والجلال ، فهذا هو المراد من الحمد أهـ بلفظه .
(2) ـ الظاهر لفظ الجلالة والمضمر الكاف قال الحمد لله ولم يقل الحمد لك .(1/7)
ومعنى الحمد لله الحمد لك يا ربّ ، فقصد المتلفظ به إنشاء تعظيم الله بوصفه بالجميل ، وإيجاده بهذا اللفظ ، والسوابغ جمع سابغة ، والسبوغ الشمول ، والسابغ الكامل الوافي ، ومنه إسباغ الوضوء ، والسوابغ الدروع الواقية ، والنعماء ما قصد به الإِحسان والنفع جمع نعمة (1) وهي أصول وفروع ، فالأصول (2): خلق الحي ، وخلق شهوته ، وإكمال عقله ، وتمكينه من المشتهى ، أوما في حكمه - وهو الأعواض كذا قيل ، والفروع: لا تحصى ، قال الله تعالى ?وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ?[ النحل 18] .وأصله نعماؤه السوابغ ، كقطيفة ، جرد فحذف الموصوف وهو نعماؤه ، وأقيمت الصفة مقامه ، فقيل على السوابغ ، فالتبس بكل سابغ فرد الموصوف ، وأضيفت الصفة إليه ، وفيه استعارة بالكناية ، لأنه شبه النعمة بالثوب فأثبت لها ما هو من لوازمه - وهو السبوغ - تخييلاً ، وإضافته إليها قرينة ذلك . (وبوالغ آلائه) جمع ألى - بالفتح والقصر ، وقد تكسر الهمزة - بمعنى النعمة ، قال تعالى ?فبأي آلاء ربِّكما تكذبان?[ الرحمن ] والكلام فيه كما في سوابغ نعمائه . (وصلواته) جمع صلاة ، والمراد منها هنا المعنى المجازي وهو الاعتناء بشأن المصلى عليه وإرادة الخيرله (3) أو المراد بها الرأفة ، وهي أشد الرحمة ، واجتماع الرحمة معها في قوله تعالى ? أولئك عليهم صلوات من ربِّهم ورحمة?[البقرة 157] على حد اجتماع الرحمة والرأفة في قوله تعالى ? إنَّه بهم رؤوف رحيم?[التوبة 117] (4)
__________
(1) ـ كذا في القاموس
(2) ـ وسميت أصولاً لأن الانتفاع لا يحصل إلا بمجموعها ، ومع اختلال واحد منها لا يتهيأ الانتفاع ، وأمَّا كمال العقل ، وإن كانت تتهيأ اللذة الدنيوية فهو لنعمة الآخرة التي هي الثواب ؛ إذ لا يوصل إلى تلك إلا بكمال العقل ، وأمَّا ما عداه فهو أصل لنعمة الدنيا ، ذكره المتكلمون إهـ منه
(3) ـ من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم تمت منه .
(4) ـ وآيات كثيرة غيرها ، قال الشلبي : الأنسب بنظم القرآن ما ذكره الإمام الرازي عن القفال من أن الرأفة مبالغة في الرحمة المخصوصة ، وفي دفع المكروه وإزالة الضر ، فذكر الرحمة بعدها لتكون أعم وأشمل تمت منه(1/8)
والضمير(1)لله تعالى . (على سيدنا) (2) لما كان أجل النعم الواصلة إلينا هو دين الإِسلام ، وبه توسلنا إلى النعيم الدائم في دار السلام ، وذلك بواسطة الرسول ، أردف (3)الحمد لله بالصلاة على نبيئه ، و(السيد) من ساد قومه سيادة فهو سيد ، وزنه فيعل ، فيكون أصله سَيْوِداً قلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها الأولى ، والإِضافة هنا لتشريف المضاف إليه (محمَّد) عطف بيان من سيدنا ، أو بدل ، لأن نعت المعرفة (4)إذا تقدمها أعرب بحسب العوامل ، وأعربت المعرفة بدلاً ، أو عطف بيان ، وصار المتبوع تابعاً كقوله تعالى ? إلى صراط العزيز الحميد* الله?[إبراهيم 1ـ 2] في قراءة الجر(5) (خاتم أنبيائه) صفة محمَّد إشارة إلى قوله تعالى? وخاتم النبيين ? [الأحزاب 40] فلا نبي بعده ، و(أنبياء) جمع نبي ، والنبي إنسان بعثه الله بشريعة ، والرسول أخص منه ، فهو إنسان كذلك يكون له كتاب وشريعة جديدة ، كذا عند القاسم وحفيده الهادي ، وقرره الإِمام المنصور بالله القاسم بن محمَّد (عليهم السلام) ، وقاضي القضاة ،(6) لقوله تعالى ?وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي?[ الحج 52] بالعطف المقتضي للتغاير
__________
(1) ـ في ( وصلواته )
(2) ـ أطلق المصنف لفظ سيد عليه ، وفي جواز إطلاقه على غير الباري أقوال ، أصحها الجواز لقوله تعالى ?وسيدا? وقوله تعالى :?وألفيا سيدها? وقوله :((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ، وقوله :((قوموا إلى سيدكم)) والله أعلم تمت منه
(3) ـ جواب لما
(4) ـ وهي سيد المضاف للضمير أصلها على هذا التقدير على محمد سيدنا فيكون سيدنا نعت فلما تقدم جر بعلى ومحمد بدل أوعطف بيان منه واما نعت النكرة إذا تقدم عليها إعرب حالا نحو : لمية موحشا طلل
(5) ـ أما في قراءة الرفع فمبتدأ وهذا واضح وأما في قراءة الجر فالتقدير إلى صراط الله العزيز الحميد فقدم النعت وهو العزيز على لفظ الجلالة فأعرب لفظ الجلالة عطف بيان اوبدل والله اعلم
(6) ـ والزمخشري وغيره(1/9)
وقوله وقد سئل عن الأنبياء ((مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً)) ، قيل : فكم الرسل منهم ؟ قال :((ثلاث مائة وثلاثة عشر)) (1) وقال الإمام المهدي (عليه السلام) وأبو القاسم (2)وغيرهما : بل هما سواء .
قلت : ويضعف احتجاج الأول بالآية صدرها(3)وعلى الأول يكون بينهما عموم مطلق ، فكل رسول نبي ، ولا عكس ، وعلى الثاني مترادفان ، ولو قيل أن بينهما عموم من وجه لوجود الرسول بدون النبي كما في جبريل (عليه السلام)(4)والنبي بدون الرسول كما في من بعث إلى نفسه ، أو لتقرير شريعة غيره فقط ، واجتماعهما كما في نبينا لم يبعد ؛ اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال الكلام مختص بالبشر ، فالأول هو الصواب
__________
(1) ـ ذكره سيدي المولى الحجة مجد الدين المؤيدي في التحف والعلامة الشرفي في الأساس وذكرفي كثير من كتب أهل البيت عليهم السلا م وقد ذكره ابن حجر في فتحه والهيثمي في زوائده وأحمد في مسنده والطبراني في معجمه عن أبي ذر إلا أن في بعضها وخمسة عشر مكان ثلاثة عشر
(2) ـ البلخي وغيرهما من المتأخرين
(3) - وقد رد بأنه من عطف العام على الخاص
(4) ـ وعلى هذا يقال في تعريف الرسول مكلف ...إلخ والله أعلم تمت منه .(1/10)