فإن قيل ما ذكرتموه معارض بأن علياً عليه السلام رد خبر ابن سنان الأشجعي في قضية بروع بنت واشق وعمر رد خبر فاطمة بنت قيس في أن النبي لم يجعل لها سكنى ولا نفقة وأبو بكر وعمر خبر عثمان حين أخبر كلاً منهما في خلافته أن النبي أذن له في رد حكم المدينة ورد عمر حديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان وذلك أنه وصل إلى باب عمر فقال السلام عليكم آدخل ؟ ثم سكت ساعة وقال السلام عليكم آدخل ؟ ثم سكت ساعة و قال مثل ذلك فلم يجبه أحد ثم انصرف وقال هكذا السنة وعمر يسمعه فقال عمر للبواب ما صنع ؟ فقال رجع وقال كذا . فقال عليَّ به فلما جاءه قال ما هذا الذي صنعت ؟ فقال السنة . فقال عمر والله لتأتيني ببرهان أو لأفعلن بك . قال أبو سعيد فأتانا ونحن رفقة من الأنصار فقال يا معشر الأنصار ألم يقل رسول الله الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع ؟ فأخبر أبو سعيد بمثل ذلك .
أجيب بأنهم إنما أنكروا ما أنكروا للارتياب فيه وقصوره عن إفادة الظن وذلك مما لا نزاع فيه
ولما كان عدم العمل بها في غير فروع الفقه من مفاهيم اللقب مع إيهام الجواز صرح به فقال :
(ولا يؤخذ بأخبار الآحاد) الخالية عن قرائن العلم (في الأصول) مطلقاً سواءً كانت من أصول الدين أو أصول الفقه أو أصول الشريعة لأنها إنما تفيد بمجردها الظن كما سبق وهذه الأشياء يجب اليقين فيها لتوفر الدواعي إلى نقلها ولعملنا برد الصحابة له كما روي عن عائشة أنها ردت خبر أبي عثمان (1)
__________
(1) ـ في شرح الغاية : وأنكرت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه تمت
وهو الأصح فقد بحثت في كتب الحديث خبر أبي عثمان ففي خلاصة البدر المنير ج: 1 ص: 278 حديث إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه متفق عليه من رواية ابن أبي مليكة عن ابن عمر وفي آخره قالت عائشة والله ما حدث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه . وفيها أيضا حديث عائشة أنه ذكر لها قول ابن عمر إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه يرفعه إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالت يغفر الله لأبي عبد الرحمن إنه لم يكذب ولكن نسي أو أخطأ إنما مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على يهودية يبكى عليها فقال إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها متفق عليه وفي رواية لفظ لهما يرحم الله ابن عمر لا والله ما حدث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله إلى آخره(1/86)
في تعذيب الميت ببكاء أهله وتلت قوله تعالى ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى?[الأنعام 64 /الاسرا 15/فاطر18/الزمر7/ النجم 38] ووافقها ابن عباس وفي ذلك رد للأخبار الواردة في تعذب أطفال المشركين وكذلك فإنها لما سألها سائل هل رأى محمَّد ربَّه قال يا هذا لقد قَفّ شعري مما قلت (1) وتلت قوله تعالى ?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصال وهو اللطيف الخبير? [ الأنعام 103]وفي ذلك رد للأخبار التي نقلت في إثبات الرؤية ونحو ذلك كثير .
نعم فما ورد منها موافقاً لدلالة العقل ومحكم الكتاب كان مؤكداً ولم يكذب ناقله ولا يعتمد عليه في الدلالة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خالف أصلاً قطعياً [*] .
__________
(1) ـ في صحيح البخاري ج: 4 ص: 1840 ما لفظه : حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن مسروق قال ثم قلت لعائشة رضي الله عنها يا أمتاه هل رأى محمد ربه فقالت لقد قف شعري مما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ومن حدثك أنه كتم فقد كذب ثم قرأت يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرتين إهـ وقد أخرجه مسلم ، وأحمد ،وأبو عوانة ، وأبو يعلى(1/87)
(و) كذا (لا) يؤخذ بأخبار الآحاد أيضاً (فيما تعم به البلوى علماً) أي يلزم كل مكلف اعتقاده والعلم بما فيه لو ثبت عن الشارع فيجب أن يرد أن لم يعلم صحته ويقطع بكذب ناقله إن لم يوافق قاطعاً إلا بتعسف (كخبري الأمامية) فإنها روت أن النبي نص على الإمامة في اثني عشر إماماً معينين بأسمائهم وأنسابهم ولم ينقل نقلاً متواتراً مع كثرة سامعيه وتوفر الدواعي على نقله فحكموا بأن الانفراد في ما هذا شأنه يدل على التكذيب (1) (والبكرية) وهم فرقة من المجبرة منسوبون إلى بكر بن عبد الواحد روت أن النبي نص نصاً جلياً على إمامة أبي بكر ولم ينقل كذلك .
قلنا يجب استفاضة مثل ذلك لأنا نعلم ضرورة مما جرت به العادة فينا أنه لا يجوز أن ينفرد واحد بنقل ما توفر الدواعي إلى نقله وقد شاركه فيه جماعة وافرة فينقله ولا ينقله غيره منهم لن ذلك يكون بمنزلة إخبار واحد من جماعة كثيرة حضروا الجمعة بأن خطيبهم قتل على المنبر ولا ينقله غيره فكما أنا نقطع بكذبه حيث لم ينقله غيره لأن دواعي غيره إلى نقله كدواعيه إلى نقله نقطع بكذب ما أشبهه ولا شك أن دعوى النص المذكور على الاثني عشر وعلى أبي بكر مثل أخبار المخبر بقتل الخطيب لاشتراكهما في توفر داعي السامع إلى نقله لعظم حاله ولذلك يقطع بكذب من ادعى أن القرآن عورض بمثله ولم تنقل تلك المعارضة ولأن مثل ذلك يؤدي إلى تجويز أن الرسول قد أمرنا بغير هذه الصلوات وأنه قد نهانا عنها وأمر بشرب الخمر بعد تحريمه لكن لم ينقل ذلك إلينا وإن بين مكَّة والمدينة مدينة أعظم منهما ولم ينقل إلينا وذلك ظاهر الفساد ؛ لتأديته إلى هدم الدين .
__________
(1) ـ في نسخة المؤلف بدل ما تحته خط : لا يدل على الكذب و الصواب ما أثبتناه والله أعلم تمت(1/88)
قالوا إن لم يعلم انتفاء الحامل على كتمان الخبر لم يحصل الجزم بكذبه فإن الأغراض الحاملة عليه كثيرة كالخوف والحسد ولذا لم تنقل النصارى كلام المسيح في المهد متواتراً مع توفر الدواعي إلى نقله وغرابته ونحو انشقاق القمر من المعجزات الآحادية كذلك وإفراد الإقامة وتثنيتها وإفراد الحج عن العمرة وقرانه بها كذلك
قلنا : انتفاء الحامل يعلم عادة كالحامل على أكل طعام واحد فإنه معلوم الانتفاء وكلام المسيح متواتر ولو سلم فقد أغنى عن تواتره القرآن لإفادته العلم بكلامه عليه السلام والآحادي من المعجزات أغنى عن تواتره القرآنُ ؛ لأنه لما اشتهر مع كونه أعظمها ضعف الداعي إلى تواتر غيره
وأمَّا الفروع فليست مما ذكرناه لعدم الأصالة فيها والغرابة ولم سلم فالاستمرار والتكرار أغنى عن النقل وذلك أنها إنما تنقل لتعلم من لا يعلم والاستمرار كافٍ في ذلك والله سبحانه أعلم .
وذكر هذه المسألة من باب عطف الخاص على العام لاشتمال ما قبلها عليها كما لا يخفى
(و) أما قبول خبر الآحاد (في ما تعم به البلوى عملاً) لا علماً واعتقاداً أي ما كان حكمه عاماً للمكلفين أو أكثرهم لو صح وكانت الحاجة ماسة إليه في عموم الأحوال بأن يتكرر على المكلف في اليوم أو الاسبوع أو الشهر أو السنة (كحديث مس الذَّكَر) فإنه روي عن بسرة بنت صفوان أن النبي قال:( من مس ذكره فليتوضأ) . أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم(1/89)
قيل والسَنَةُ أدنى ما يوصف بعوم البلوى . وقال الدواري الأصح أنه لا يشترط التكرار لعموم البلوى بل يكفي في عموم البلوى شمول تكليف ذلك لجميع المكلفين أو لأكثرهم فإنا لو تعبدنا بحج بيت آخر في أعمارنا كان تكليف ذلك ممَّا تعم به البلوى مع أن ذلك لا يلزم في العمر إلا مرة ففيه (خلاف) بين العلماء والصحيح ما عليه الأكثر من وجوب العمل به لعموم الدليل الدال على وجوب العمل بأخبار الآحاد وقبول الأُمَّة له في تفاصيل الصلاة وغيرها من سائر التكاليف
وقال أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري لا يجب العمل به . ذهاباً منهما إلى أن العادة في مثله تقضي بالتواتر لتوفر الدواعي على نقله ولما لم يتواتر علم كذبه .
والجوب أنا لا نسلم قضاء العادة بتواتره لما علم من عمل الأمَّة بها في جميع الأحكام الشرعية
قالوا : لو صح العمل بها لوجب عليه أن يلقيها إلى عدد التواتر لئلا يؤدي إلى بطلان صلاة أكثر الناس .
قلنا : لا نسلم الوجوب وإبطال الصلاة تكون فيمن بلغه خاصة وأمَّا وجوب التبليغ المستفاد من قوله تعالى ?يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربِّك? [ المائدة67]فليس المراد أن يبلغ كل حكم إلى كل أحد بل عدم الإخفاء ولذا قال تعالى ?فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون?[النحل 43/الأنبياء 7] .
فإن قيل : ما صدكم عن العمل بموجب الخبر وهو الوضوء من مس الذَّكر ؟(1/90)