فقال لها : ألم تري إلى مجزز كيف مر على أسامة وزيد ؟ ، وقص لها القصة ، وحكم مُجَزِّزْ كحكم كافر في مضيه إلى كنيسة مما علم أن الرسول منكر له على الإجمال لما اشتهر من سعية في إماتة طرق المشركين ، وبُعده من متابعتهم ، وعلو شأنه عن سلوك طريقهم ، فاستبشاره بها لموافقتها الحق مع إلزام الخصم بما يعتقده لا لحقيتها وإلا لم يسكت عنها مع الحاجة إليها .
نعم (القيافة) الاهتداء إلى الشيء ، يقال : قاف الأثرقيافة إذا اهتدى له . والقافة جمع القائف - وهو من يعرف الآثار - وجعلها مصدراً كالقيافة غلط مشهور ، ومجزز - بضم الميم (1) وفتح الجيم ، وتشديد الزاي - الأولى . قال في شمس العلوم : إنما سمي مجززاً لأنه كان يجز ناصية الأسير ويطلقه ، ولم يكن علماً ، والله أعلم .
[التعارض]
واعلم أن التعارض بين الشيئين هو تقابلهما على وجه يمنع كل منهما مقتضى صاحبه من جميع الوجوه ، أو بعضها ، (ولا تعارض في أفعاله) أصلاً ، لأنه إمَّا أن تتناقض أحكامها أولاً إن لم تتناقض كان يكونا متماثلين كصلاة الظهر في وقتين أو مختلفين يتصور اجتماعهما في وقت كالصوم والصلاة أولا يتصور كصلاة الظهر والعصر فلا خفاء في عدم التعارض لإمكان الجمع بين أحكامهما ، وإن تناقضت كصوم يوم معين وأكل في آخر مثله فلا تعارض أيضاً لجواز أن يكون الفعل واجبا في وقت وجائزاً في آخر ، مع أنه لا يكون رافعاً ولا مبطلاً حكم الآخر ؛ إذ لا عموم للفعلين ، ولا لأحدهما ،
__________
(1) ـ كذا نقله السيد صلاح رحمه الله في شرح الفصول عن شرح المشارق وجامع الأصول وابن ماكولا وغيرهم ، قال : وذكر الدار قطني وعبد الغني عن ابن جريح أنه بالحاء المهملة ساكنة ثم زاي مكسورة تمت منه(1/76)


وإنما يتصور التعارض بين القولين ، أو بين قولين وفعل ، ولذا قال : (ومتى تعارض قولان) وتعارضهما ظاهر (أو قول وفعل) علم وجهه وقام الدليل على تكرره بأن ينقل إلينا أنه نهي عن استقبال القبلة لقضاء الحاجة ، وأنه استقبلها له ، فإن ترتبا وعلم المتأخر (فالمتأخر ناسخ) للمتقدم منهما إن تأخر بقدر إمكان الامتثال ، وتعذر الجمع بينهما من كل وجه ، (أو مخصص) ، أو مقيد لعموم الأول ، أو إطلاقه إن لم يتأخر كذلك وامن الجمع بذلك
(فإن جهل التاريخ) فإما أن يمكن ترجيح أيهما بأحد وجوهه أولاً إن لم يكن أطرحا ورجع إلى غيرهما - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - ، وإن أمكن (فالترجيح) لازم للمجتهد ، وسيأتي بيانه بين القولين . وأما بين القول والفعل فالمختار ترجيح القول لما سبق ؛ إلا أنه قد تقرر أن الفعل لا يكون دليلاً إلا مع القول ، وحينئذٍ يعود من تعارض القولين وما صحب الفعل أرجح لاعتضاده به ، وطريق من سمعه يقول أو شاهده يفعل الضرورة . وأما من نأت به دراه عنه فطريقه
(وطريقنا) الموصل (إلى العلم) بالمعنى الأعم الشامل للظن (بالسنة) بأقسامها المذكورة . (الأخبار) جمع خبر ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى
[تقسيم الأخبار]
(وهي) الأخبار (متواترة وآحاد) لأنها إنما تفيد بنفسها العلم بالمعنى الأخص ، فالمتواتر أولاً فالآحاد ، ثم الآحاد أيضاً نوعان لأنها إما تفيد العلم بقرينة كتلقي الأمة أو العترة لها بالقبول بأن أخذ بها بعض وتأولها الآخر أولا
[المتواتر](1/77)


(فالمتواتر) لغة : ما تتابع من الأمور شيئاً بعد شيءٍ بفترة من الوتر ، ومنه ?ثم أرسلنا رسلنا تترا?[المؤمنون 44]. واصطلاحاً :(خبر جماعة) ، خرج خبر الواحد والاثنين مطلقاً (يفيد) كل سامع له عاقل إن تساوت أحوالهم من جميع الوجوه (بنفسه العلم) أي بذاته من دون قرينة ، فيخرج مفيده بها و مفيد الظن مطلقاً ، وما لم يفد إلا بعض العقلاء لدلالته على أن إفادته لا بذاته لأن ما بالذات لا يتخلف . وقوله :(بصدقه) مستدرك ، أو للاحتراز عن ما أفاد العلم بمجرد وجود قائله .
واختلف في أقل عدد التواتر فقيل اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل في قوله تعالى ?وبعثنا منهم انثي عشر نقيباً?[ المائدة12] وقال أبو الهذيل : عشرون لقوله تعالى ?إن يكن منكم عشرون صابرون? [الأنفال 65]الآية ، فتوقف بعث عشرين لمائتين على أخبارهم بصبرهم وكنهم على هذا ليس إلا لأنه أقل ما يفيد العلم المطلوب في مثل ذلك وليفيد خبرهم العلم بإسلام الذي يجاهدونهم ويقاتلونهم . وقيل أربعون لقوله تعالى ?حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين?[الأنفال 64]وكانوا أربعين ، فلو لم يفد قولهم العلم لم يكونوا حسب النبي لاحتياجه إلى من يتواتر به أمره . وقيل سبعون لقوله تعالى ?واختار موسى قومه سبعين رجلاً?[الأعراف 155] . وقيل ثلثمائة وبضع عشرة عدد أهل غزة بدر ؛ لأن الغزوة تواترت عنهم . وقيل غير ذلك ، وما ذكروه من التمسكات مع تعارضه وعدم مناسبته لا يدل على اشتراط تلك الأعداد ، والصحيح أن أقله خمسة لخروجها عن دائرة الشهادة (و) أنه (لا حصر لعدده) كثره ؛ (بل هو)(1)شرطه تكثر المخبرين وبلوغهم حداً تمنع العادة من اتفاقهم وتواطؤهم على الكذب ، واستنادهم في ذلك الخبر إلى الحس(2)لا إلى غيره ، كالعقل كأخبار الفلاسفة بقدم العلم ، فإنه لا يفيد قطعاً .
__________
(1) ـ أي المخبر عنه تمت
(2) ـ وإن اختلف الحس بأن تكون الدرجة العليا مستندة إلى المشاهدة ، والسفلى إلى السماع من العليا تمت منه(1/78)


[ضابط شرط التواتر]
وضابط شروط التواتر (1) (ما أفاد العلم) ، فإذا أفاده علم وجود الشرط واختلف هل يفيد العلم (الضروري) الذي لا ينتفي بشط ولا شبهة أو لا ؟ فعند أئمتنا - عليهم السلام - وجمهور المعتزلة ، والأشعرية ، وبعض الفقهاء المحدثين أنه يفيده لوقوعه لمن لم ينظر كالصبيان والبله والعوام الذين لا يتأتى منهم النظر بالضرورة ، ولو كان نظرياً لما حصل لغير الناظرين ، ولأنه يمتنع علينا النظر في وجود مكَّة وبغداد ، كما يمتنع في وجود ما نشاهده سواء وذلك علامة الضروري . وقال البغداديون ، وأبو الحسين البصري ، وابن الملاحمي من المعتزلة ، والجويني ، وبعض الفقهاء : إنما يفيد النظري ،لأن العلم لا يحصل إلا بعد العلم بانتفاء اللبس في مخبره بأن يكون محسوساً لا اشتباه فيه ، وبعد العلم بانتفاء داعي الكذب وذلك بأن يكون المخبرون جماعة لا داعي لهم إليه ، وكلما كان كذلك فليس بكذب ، وما ليس بكذب فهو صدق لعدم الواسطة ورد بمنع احتياجه إلى سبق العلم بذلك ؛ بل يحصل العلم أولاً ثم يلتفت الذهن إلى الأمور المذكورة ، وقد لا يلتفت إليها على التفصيل ، وإمكان الترتيب لا يوجب الاحتياج وإلا لزم في كل ضروري ، لأنك إذا قلت أربعة زوج فلك أن تقول لأنه منقسم بمتساويين ، وكل منقسم بمتساويين زوج ، وإذا قلت الكل أعظم من الجزء فلك أن تقول لأن الكل مركب منه ومن غيره ، والمركب من الجزء ، ومن غيره أعظم من الجزء ، فالكل أعظم من الجزء . وتوقف المرتضى الموسوي والآمدي لتعارض الأدلة وعدم التمييز الصحيح منها عن غيره ،
__________
(1) ـ ولا حاجة إلى اشتراط استواء مراتبه في الشرطين المذكورين أولا لإغناء الأول عنه ، ولا إلى اشتراط عدم سبق العلم بالمخبر عنه ضرورة لأن الشرط إنما هو لما يفيد العلم لا لإفادة العلم ، ولا يخرج الدليل عن كونه دليلاً بالعلم بمدلوله ، كما لا يخرج عن كونه دليلاً بالجهل به والله أعلم تمت منه(1/79)


(و) أمَّا اشتراط الإسلام ، والعدالة ، والمعصوم ، وأهل الذلة ، واختلاف النسب والدِّين والوطن ، والذكورة ، وألا يحويهم بلد فلا وجه له ، لأنا قد نطناه بحصول العلم وهو (يحصل بخبر) من ليس كذلك من (الفساق والكفار) ، والصبيان ، والنساء ، ونحوهم .
واعلم أن المتواتر قد يتواتر لفظاً ومعنى كنصوص السنة المتواترة (وقد يتواتر المعنى دون اللفظ) بأن يبلغ المخبرون حد التواتر ولكن اختلفت أخبارهم بالوقائع التي أخبروا بها مع اشتراك جميع أخبارهم في معنى مشترك بين مخبراتهم كحديث الغدير (1)
__________
(1) ـ قال الإمام شرف الدِّين - عليه السلام - في قصيدته القصص الحق في حديث الغدير :
**وهو الحديث اليقين الكون قد قطعت *** بكونه فرقة كانت توهيه **

يعني بالفرقة الحافظ الذهبي وغيره قال في تذكرته : أعتنى بحديث الغدير محمَّد بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه قال الذهبي : بهرني كثرة طرقه فقطعت بوقوعه . وقال في بعض كتبه : صدر الحديث متواتر متيقن أن رسول الله ، قاله قال ابن كثير ، يعني ((من كنت مولاه فعليٌّ مولاه)) ، قال الذهبي وأما ((وال من والاه ، وعاد من عاداه)) فزيادة قوية فيه الإسناد ، وصححها أبو زرعة ، وأصحابنا الزيدية فريقان ؛ فريق يدعى تواتره كالمنصور بالله - عليه السلام - وهو الظاهر من كلام أهل البيت - عليهم السلام - ، وفريق يدعي أنه متلقى بالقبول مجمع على صحته فصحته معلومة والله أعلم تمت منه(1/80)

16 / 108
ع
En
A+
A-