(وأما الفعل) أي فعل الرسول هل هو دليل شرعي على ثبوت مثل ذلك الفعل في حقنا أو لا ؟ (فالمختار) عند أئمتنا (عليهم السلام) والجمهور (وجوب التأسي به في جميع أفعاله) وتروكه لكن إن أراد بالجميع ما علم وجهه فمع مناقضته لما سيأتي من قوله فما علمنا وجوبه... إلخ يلزم وجوب ندبه وإباحته علينا اللَّهُمَّ إلا أن يقال المراد أنا متى أدرنا فعلهما لم يجز إلا على جهة كونه مندوباً أو مباحاً وإن أراد به ما يشمل معلوم الوجه ومجهوله كما ذهب إليه المنصور بالله (عليه السلام) وبعض المعتزلة والشافعية والحنابلة ففيه أن الحكم بوجوبه مع جهل الوجه الذي هو جزؤ ماهيته تكليف بالمحال مع مناقضته لما سيأتي أيضاً
وإنما يجب التأسي به سمعاً لا عقلاً إذ لم نعلم وجوب اتباعه إلا لعلمنا بأنه امتثال لأمر الشارع بما شاء أن يستأدى شكره منا فإذا لم يرد أمره به فمن أين يجب . وأيضاً فإنا نجوز اختلاف حكمنا وحكمه كما قد وقع فلا بد من دليل سمعي به حينئذٍ وهو نحو قوله تعالى ? لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر? [الأحزاب 21]لأن معناها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فله في رسول الله حسنة فدلت على لزوم التأسي للإيمان ويلزمه بحكم عكس النقيض عدم الإيمان لعدم التأسي والإيمان واجب فكذا لزمه - الذي هو التأسي- وعدم الإيمان حرام فكذا ملزومه - الذي هو عدم التأسي - وإلا ارتفع اللزوم [*] وقوله تعالى ?قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني?[آل عمران 31 ]لا يقال ظاهرهما يفيد وجوب الاتباع وإن لم يعلم الوجه لأنا نقول المتابعة هي الإتيان بمثل فعله على الوجه الذي أتى به من وجوب أو غيره حتى لو فعله على قصد الندب مثلاً ففعلنا على قصد الإباحة أو الوجوب لم تحصل المتابعة وحينئذٍ فيلزم أن يكون الأمر بالمتابعة موقوفاً على معرفة الجهة فإذا لم تعلم لم نكن مأمورين بها والله أعلم .(1/71)
(إلا ما وضح) أي ظهر (فيه أمر الجبلة) فإذا كان جبلياً لا يخلوا عنه جبلة ذي روح وطبيعته كالأكل والشرف فإنا نعلم من دينه أنه لم يلزمنا اتباعه فيهما إذا كانا مجردين عما يتعلق بهما من وجوب عند الضرورة إليهما أو ندب عند الحاجة أو كراهة عند الشبع والري أو حرمة عند الضرر وإلا شرع التأسي به فيهما كما يشرع في هيئتهما إذ ليست مما تقضتيه الجبلة (أو) لم يكن كذلك لكنه (علم) العلم بالمعنى الأعم إلا أنه (من خصائصه) واجباً كان (كالتهجد والأضحية) والضحى والوتر والمشاورة والسواك وتخيير نسائه فيه ومصابرة العدو وإن كثر وأنه يجب على من رغب في نكاحها من النساء وهي خالية أجابته وإذا كانت مزوجة وجب على زوجها طلاقها امتحاناً لإيمان الزوج أو مباحاً كالوصال في الصوم والنكاح بلا مهر وولي وشهود والزيادة على أربع وصلاته متنفلاً بغيره مفترضاً وبكل طائفة في صلاة الخوف مستقلة أو محرماً كأكل البقول ذوات الروائح الكريهة ونزع لامته حتى يقاتل ومد عينه إلى زينة السماء فكان [*] إذا رأى شيئاً يعجبه قال ((لبيك اللَّهُمَّ لا عيش إلا عيش الآخرة)) . وخائنة الأعين - وهو الإيماء بالعين في مآربه - وكان يقول ((ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين وتحريم زوجاته على غيره)) . فالأول مباح له ولأمته على سواء والثاني لا يشاركه أحد منهم بلا خلاف فيهما .
(والتأسي هو إيقاع الفعل) ومنه القول كالقراءة والتسبيح والدعاء (بصورة فعل الغير) في زمنه ومكانه وطوله وقصره كصوم شهر رمضان ووقوف عرفة وطمأنينة الصلاة إن اعتبرها المتأسي به وإلا فمجرد الفعل كالتصدق قائماً أو قاعداً ليلاً أو نهاراً وإن التبس هل اعتبرها أو لا ؟ اعتبرت مع الفعل عند أبي طالب لا عند أبي الحسين . وبهذا القيد تخرج المخالفة وقد تسامح المؤلفون بإدخال أل على غير(1/72)
(ووجه) من وجوب أو نحوه فإنه لو صلَّى الظهر فرضاً وصليناه نفلاً لم نكن متأسين به وكذا لو اتبع المسلم نصرانياً إلى بيعة ليرد وديعة لم يكن متأسياً به لاختلاف فعلهما حسناً وقبحاً وكذا من سجد لصنم فسجد غيره لله فلا تأسي وبه يخرج الائتمام فإنه اتباع في الصورة والوجه معاً أو في الصورة فقط (اتباعاً له) أي لقصد اتباعه فيخرج مجرد الموافقة وهي أن يفعل أو يقول أو يعتقد مثل الغير لا لأنه صدر من الغير (أو تركه كذلك) أي بصورة ترك الغير ووجهه اتباعاً له فإذا عرفت حقيقة التأسي وكون الوجه جزءاً منها ولا يمكن بدون معرفته فلنأخذ في تفصيل ذلك
(فما علمنا) أو ظننا وجهه أي (وجوبه) أو ندبه أو إباحته (من أفعاله) إمَّا بالضرورة وإما بنصه عليه وإمَّا بكونه بياناً لخطاب دال على إيها وإمَّا بامتثاله لدال على أيها كإقامة الحد على نحو الزاني في الوجوب وكالتصدق في المندوب وكالاصطياد بعد حل الحرام في المباح ولم يقم دليل اختصاصه به (فظاهر وما علمنا) أو ظننا (حسنة) بمجرد فعله (دون وجوبه) إذ الوجوب صفة زائدة على الحسن (فندب) إذ لا محرم في فعله كبير للعصمة ولا صغيرة ولا مكروه لخفائهما وقد أمرنا بالتأسي به فإذا لم يكن واجباً تعين الندب وهذا (إن ظهر فيه قصد القربة) إذ به يعرف أن هناك صفة زائدة على الحسن (وإلا) يظهر ذلك (فإباحه) أي يحمل على أن فعله مباح وعلى هذا لا مجهول في فعله لانحصاره فيما ذكر [*].
(وتركه) (لماكان) قد فعله أو (أمر به) مطلقاً لا لعذر ولا لسهو (ينفي الوجوب) أي يكشف أن الفعل أو الأمر غير واجب نحو ما روي أنه لم يقسم أراضي خيبر بين الغانمين فتكون قرينة صارفة للأمر عن الوجوب وكذلك تركه الواجب أو المندوب يدل على ارتفاع الوجوب أو الندب أيضاً فلو ترك القنوت في الفجر لا لسهو ولا لكونه نفلاً علمنا أن الأمر به على جهة النفل قد ارتفع [*](1/73)
(وفعله لما نهى عنه) نهياً مطلقاً كذلك (يقتضي الإباحة) إذ لو كان محظوراً لما فعله لعدم جوازه في حقه كما تقدم فلو نهانا عن قتل القمل في الصلاة أو إلقاء النخامة في المسجد ثم فعل لا لعذر اقتضى فعله الإباحة وكان قرينة صارفة للنهي عن الحظر وفي كل ذلك إن قام دليل الخصوصية فذاك وإلا كان حكمنا حكمه فيه .
ولما فرغ من بيان نوعي السنة الأولين وقدمهما لقوتهما أخذ يبين الثالث فقال
(وأما التقرير) أي تقرير الرسول لغيره (فإ)نما يكون دليلاً بشروط :
أحدها : (إذا علم بفعل) ، أو قول ، أو ترك (من) مكلف (غيره) غير معذور ، سواءً كان بين يديه أو لا ، ثم سكت (ولم ينكره) على فاعله .
والثاني : أن يقع (وهو قادر على إنكاره) أي الحكم بكونه منكراً لو كان منكراً لا إن لم يكن قادراً فلا تأثير لسكوته وعدم إنكاره اتفاقاً لجواز إنكاره مع حصول القدرة
والثالث : أن لا يكون مما عُلم أنه منكِر له وتَرَك إنكارَه في الحال لعمله أنه علم منه ذلك وبأن الإنكار لا ينفع في الحال ، ولذا قال :(وليس كمضي إلىكافر كنيسة) إذ لو كان كذلك لم يكون لسكوته أثر في الجواز اتفاقاً .(1/74)
(و) الرابع أن (لا) يكون قد (أنكره) أي ذلك الفعل (غيره) ، إذ لو أنكره أحد وعلمه كان سكوته تقريراً للإنكار لا للمنكر (دل ذلك) التقرير (على جوازه) أي كونه مشروعاً وجوباً ، أو ندباً ، أو كراهةً ، أو إباحةً للمقرر مطلقاً ولغيره إما لمشاركته في علته وإمَّا لأن حكمه على الواحد حكمه على الجماعة ، فإن سبق التقرير حكمٌ مخالفٌ كان نسخاً أو تخصيصاً ، لأن صمته لسان ولا يسكت على منكر مع ذلك وإلا لزم ارتكابه المحرم ، وهو تقريره على المحرم ، إذ التقرير على المحرم محرم (1)واللازم باطل ، وإن فرض كونه من الصغائر لعصمته عما يتعلق بالأحكام من المعاصي مطلقاً - كما سبق - فإن استبشر به فأوضح دلالة على الجواز من مجرد السكوت اتفاقاص كما روي أن مُجَزِّزاً المدلجي مر بزيد بن حارثة وأسامة وقد ناما في قطيفة ، وغطيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ، فلما رأى ذلك قال : هذه الأقدام بعضها من بعض . فلما ذكرت القصة للنبي سر بذلك سروراً عظيماً ، وسببه أن أسامة كان أسود ، وزيداً كان أبيض ، وكان المنافقون يتعرضون للطعن في نسب أسامة ، فلما ألحقه المُجَزِّزْ المدلجي بزيد سر ، ودخل على عائشة وأسارير وجهه تبرق من الفرح ، فقالت عائشة : يا رسول الله أنت أحق بقول الهذلي :
برقت كبرق العارض المتهلل
فإذا نظرت إلى أسرة وجهه
__________
(1) ـ ومن ثم قال علي - عليه السلام - في بعض خطب النهج في ذكر النبي : وصمته لسان . قال السيد صلاح في شرحه : يعني أنه إذا صمت في حادثة ولم ينكرها حكم بأنه ارتضاها واستحسنها ، ومن ثم قيل السكوت أخو الرضى ، وقلت في نظم هذا المعنى :
ولم تغد عنهم عند ذلك معرضاً
إذا اغتاب أقوام وأنت لديهم
لأن سكوت السامعين أخو الرضا
فإنك مغتاب وإن كنت صامتاً
تمت منه(1/75)