فا(لمحكم) لغة : المتقن ؛ لأن الإحكام الإتقان فالقرآن بهذا المعنى كله محكم لإتقانه في حسن نظمه وترتيبه وفي البلاغة ،قال تعالى ?كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خيبر?[هود آية 1] ، وعليه يحمل القول بأنه محكم كله . واصطلاحاً :(ما اتضح معناه) فلم يخف سواءً كان نصاً جلياًكقوله تعالى ?ولا تقربوا الزنى?[الإسرى 32]، أو ظاهراً كدلالة العموم في رأي ، أو مفهوماً كدلالة ?فلا تقل لهما أف?[ الإسرى23] على تحريم الضرب ، ومنه في الأظهر ما قرينته ضرورية مستندة إلى العقل بلا واسطة نحو ?تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا?[الأحقاف25] أو جليه نحو ?واسأل القرية ?[الأعراف/163 ]
(والمتشابهة) لغة : ما يشبه بعضه بعضاً ، وبهذا المعنى يكون القرآن كله متشابهاً ، لأنه يشبه بعضه بعضاً في البلاغة والإتقان ، وفي تصديق بعضه بعضاً ، قال تعالى ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا?[ الزمر23] ، وعليه يحمل القول بأنه متشابه كله . واصطلاحاً : (مقابلة) أي المحكم ، فهو ما خفي معناه ، وذلك لأنه تعالى أوقع المتشابه مقابلاً للمحكم ، فيجب أن يفسر بما يقابله كالآيات التي يخالف ظاهرها مقتضى العقل ويطابق القول بالجبر والتشبيه نحو قوله تعالى : ?أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا?[الإسرى16]? وَمَكَرَ اللَّهُ?[آل عمران54]? اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ?[البقرة15] ويعلم تأويله الراسخ الثابت العقيدة لظهور واو الآية في العطف ، ولا يلزم منه أن يقول تعالى: ?آمنا به? [آل عمران 7] لقرينة العقل وعدم لزوم اشتراك المتعاطفين في جميع الأحكام كما في ?ويعقوب نافلة?[الأنبياء72] فنافلة حال من يعقوب فقط ، [*] .(1/61)
وفائدة وروده (1) في الكتاب العزيز الحث(2)على النظر وترك التقليد ؛ إذ لو ورد كله محكماً لما احتاج إلى كلفة وزيادة الثواب بمشقته ، إذ هو على قدرها مع اعتبار الموقع ، وزيادة الحيطة والضبط ، فإن الحاصل بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب ، وإرادة إصغاء الكفار إلى سماعه حتى يحصل لهم البيان ، وتلزمهم الحُجَّة لله تعالى ، لأنهم لما سمعوا المحكم أعرضوا عن سماعه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله ?وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه? [فصلت 26]فأنزل الله تعالى المتشابه فأصغوا إلى سماعه طلباً للطعن فيه فلم يجدوا ، فلزمتهم الحُجَّة عند ذلك .
[شروط الإستدلال بالكتاب]
واعلم ؛ أن للاستدلال بالكتاب العزيز في الجملة شروطاً :(3)
أحدهما : أن يعلم المستدل أن الخطاب له لا يقع على وجه يقبح كالإخبار بالكذب ، والأمر بالقبيح ، والنهي عن الحسن ، لأن تجويز ذلك يسد باب الثقة بخطابة .
__________
(1) ـ أي المتشابه تمت
(2) ـ إشارة إلى جواب سؤال أورده الملاحدة والمجبرة ، وهو : أن قالوا: كتاب الله عندكم مشتمل على المحكم والمتشابه فلو كان صانعا العالم عدلا لما أورد فيه المتشابه لأنه كالتعمية على العباد ، ثم افترقوا ، فقالت الملحدة : ليس ليس إلا أته لا صانع للعالم ، وقالت المجبرة ليس إلا أنه يصدر منه القبيح ، ولا يقبح منه ! والجواب على الفريقين أن الدلالة قد قامت على ثبوته تعالى ، وعلى أنه عدل حكيم فقطعنا أنه لا يصدر ذلك إلا لمصلحة علمها ، وأيضا فإن في إيراده زيادة الحث .. إلخ ذكرمعناه الشيخ لطف الله رحمه الله تعالى في حواشي الفصول . تمت منه
(3) ـ أمَّا شروطها التفصيلية فقد تقدم إشارة إلى شيءٍ منها ، وستأتي بقيتها في محالها إن شاء الله تعالى .(1/62)
(و) ثانيها : أن يعلم أنه (ليس في القرآن ما لا معنى له) ؛ بل كل لفظ من ألفاظه له معنى ، ومعانيه إمَّا حقيقية ، أو مجازية لغوية ، أو شرعية ، أو عرفية ، وتصح معرفتها لكل أحد من المكلفين ، وإلا كان هذياناً وانتقض الغرض بالخطاب - أعني فهم المعنى - وصار كخطاب العربي بالعجمية التي لا يمكنه تفهمها ، وذلك لا يليق بالحكيم تعالى (خلافاً للحشوية) - بفتح الشين - نسبة إلى الحشا ؛ لأنهم كانوا يجلسون أمام الحسن البصري في حلقته فوجد كلامهم ردياً ، فقال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة - أي جانبها - ، والجانب يسمى حشا ، ومنه الأحشاء لجوانب البطن ، وقيل بإسكانها ، لأن منهم المجسمة ، والجسم محشو ، وقيل لكثر روايتهم الأخبار وقبولهم لما ورد عليهم من غير إنكار ، فكأنهم منسوبون إلى حشو الكلام
فقالوا إن فيه المهمل ، محتجين بما ورد في أوائل السور من الحروف المقطعة نحو ?ألم? ?طه? ?طسم? ،
قلنا : لها معانٍ يعرفها أولوا العلم ، ولذا اختلف المفسرون فيها على أقوال قريبة من سبعين قولاً ، ذكره البارزي : منها : أنها أسماء للسور لتعرف كل سورة بما افتتحت به . وقيل : سر بين الله تعالى وبين نبيئه . وقيل حروف مأخوذة من صفات الله تعالى كقول ابن عباس رضي الله عنهما في ?كهيعص? أن الكاف من كافٍ ، والهاء من هادٍ ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق . وقيل: أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها ، واختاره الإمام المهدي الحسين بن القاسم عليهما السلام في تفسيره الغريب والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد عليهم السلام ، قال : بدليل العطف عليها بمقسم بها .(1/63)
وجوابها : إمَّا مذكور نحو ? يس والقرآن الحكيم إنَّك من المرسلين? ، وإمَّا مقدر نحو ?ق * والقرآن المجيد? ، وأيضاً فإنه خطاب أحكم الحاكمين ، فإمَّا يريد به الحفظ والتفهم ، وإمَّا أن يريد به إفهامنا ، والأول باطل فتعين الثاني ، وذلك لا يكون إلا بما له معنى يعقل فثبت أن خطاب الحكيم لا بد وأن يكون له معنى ، فلذا قال تعالى :?أفلا يتدبرون القرآن?[ النساء 82 محمد 24]
(و) ثالثها : أن يعلم أنه (لا) يوجد فيه (ما المراد به خلاف ظاهره من دون دليل) يدل عليه وقت حاجة المكلف (1)فأما مع الدليل فذلك كثير كما في فصيام ثلاثة أيام ، فالمراد غير ظاهره من الإطلاق - وهو التتابع - لقراءة ابن مسعود : متتابعات ، وما بمعنى شيءٍ ، والمراد بدل أو نعت على الرأيين لا موصولة أي ما لعدم دخول الموصول على مثله في العربية ، ذكره ابن السراج ، وجوزه الرضي تاكيدا لفظيا (خلافاً (2) لبعض المرجئة) فيقولون في آي الوعيد أن المراد بها خلاف ظاهرها من دون دليل كذلك يجوزون شرطاً أو استثناءً مضمراً لا دلالة عليه ، كقوله تعالى ?وإن الفجار لفي جحيم?[ الانفطار ]
__________
(1) ـ إشارة إلى أن هذا مطلق مقيد بما سيأتي من أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، والله أعلم تمت منه .
(2) ـ وذكر في الشرح الصغير خلافاً للباطنية فإنهم يقولون : أنه له معنى باطناً خلاف ظاهره من دون دليل ، وأن المراد بالبقرة عائشة ، وبالجبت والطاغوت أبو بكر وعمر ، بالأمهات العلماء . وتحريم مخالفتهم فيه ، وفيه أنه سيأتي أن هذا من التأويل المتعسف ، والتأويل يلزمه الدليل على أنا لو فرضنا ذلك قولاً لهم هنا فيما علم أنما ذكروه هو المراد فيحقق ، والله أعلم تمت منه(1/64)
قالوا إن أراد الله تعذيبهم أو إلا أن يعفو عنهم ، أو إن كانوا كفاراً ، أو نحو ذلك . قلنا :يلزم مثل ذلك في الأمر والنهي والوعد ، فيلزمكم في قوله تعالى ?وأقيموا الصلاة?[ البقرة 43 ،83 ، 110] إن شئتم ، أو إن لم يشغلكم عنها إرب (1) وذلك انسلاخ من الدِّيْن ، وتلعب بكلام أحكم الحاكمين ، تعالى عن مقالة الظالمين .
[وجه تسمية المرجئة]
قال الجوهري والمرجئة مشتقة من الإرجاء وهو التأخير قال تعالى حاكياً : ?أرجه وأخاه?[ الأعراف 111] أي أخره ، فسُمّوا بذلك لأنهم لم يجعلوا الأعمال سبباً لوقوع العذاب ، ولا لسقوطه ؛ بل أَرْجُوْهَا - أي أخروها وأدحضوها –
__________
(1) ـ لسان العرب ج: 1 ص: 208 الإِرْبَةُ و الإِرْبُ: الحاجةُ. وفيه لغات: إِرْبٌ و إِرْبَةٌ و أَرَبٌ و مَأْرُبةٌ و مَأْرَبَة تمت(1/65)