(والظن تجويز)(1) مصدر يحتزر به عن العلم فيها أجمع ، وفيه أنه عبارة عن مجموع المتقابلين الراجح والمرجوح ، أو المتساويين ، فلا يصح وصفه من حيث مجموعهما بما لأحدهما ، وإن جعل بمعنى المُجوز كان هو المظنون والموهوم والمشكوك ، لا الظن والوهم والشك . (راجح) يحترز به عن الشك والوهم (والوهم) مقابله ، فهو (تجويز مرجوح والشك تعادل التجويزين) ،
والفرق بين الشك والتجويز : أن الشك ما تعارض أمارتان فيه . والتجويز ليس لأجل تعارض الأمارتين ؛ بل لتيقن أن بديهة العقل لا تحيل ثبوت المجوز ، ولا نفيه ، ولا أمارة ترجح أحد الجانبين ، ولا أمارتين متعارضتين .
(والاعتقاد هو الجزم بالشيء) خرج الظن والوهم والشك (من دون سكون النفس) ، وبه خرج العلم .
وافهم أن العلم لا يطلق عليه الاعتقاد ، وقد سبق في حده ما يخالفه ، حيث قال كما اعقتده ، وأن اعتقاد الجاهل بدون(2)سكون النفس لاضطرابه بمعارضة المشكوك . وذهب الجاحظ ، والسيد حميدان ، والإِمام المنصور بالله (عليه السلام) في الأساس إلى أنه قد يسكن خاطره بحيث لا يخطر بباله أن أحداً أعلم منه ،
__________
(1) ـ واعلم أن الظن حقيقته الاعتقاد الراجح ولكن التجويز لازمه فيكون المصنف قد عرفه باللازم فيكون رسما لا حدا فلا اعتراض عليه ووصفه بالراجح والمرجوح لا من حيث هو مجموع المتقابلين بل من حيث متعلقه وهو الاعتقاد والتجويز عبارة عن الحكم بإمكان ثبوت الشيء ونفيه من دون نظر إلى الترجيح تمت والله أعلم
(2) ـ خبرأن(1/51)
(فإن طابق) ذلك ما في نفس الأمر (فصحيح) سواءً كان عن نظر ، أو تقليد ، أو تبخيت ، (وإِلاَّ) يطابق ذلك الاعتقاد ما في نفس الأمر (ففاسد) كذلك ، (وهو) أي الاعتقاد الفاسد (الجهل) المركب ، لأنه جهل بما في الواقع مع الجهل بأنه جاهل ، (وقد يطلق) أي (الجهل على عدم العلم) بالشيء ، وهو البسيط والسهو ، ويرادفه الذهول زوال الصورة الحاصلة للنفس عنها بحيث يتمكن من ملاحظتها من غير تجشم إدراك جديد ، لكونها محفوظة في خزانتها ، والنسيان زوال الصورة عنها بحيث لا يتمكن من ملاحظتها إلا بتجشم إدراك جديد لزوالها عن خزانتها
ولما فرغ من بيان الأحكام وتوابعها ، والعلم وتوابعه ، أخذ في بيان ما يفيهدهما ، فقال:
(فصل)
هو لغة : الحاجز . وعرفاً : اسم لجملة من مسائل الباب بينهما مناسبة ، ثم هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف - أي هذا فصل - ، أو مبتدأ حذفت صفته عند موجب التخصيص للنكرة وخبره - أي فصل - معقود كائن في باقي الباب .
قيل : ويجوز أن يقرأ بالنصب على أنه مفعول لمحذوف ، وعدم رسم الألف ؛ حينئذٍ جار على لغة من يقف على المنصوب المنوَّن بالسكون ، والله أعلم .
[ الأدلة الشرعية]
(والأدلة) قد عرفت أنها موضوع الفن الذي لا يبحث الأصولي إِلاَّ عن أحوالها من إثبات كونها أدلةً ، وكون معناها موجباً أو محرماً ، أو أمراً أو نيهاً ، منطوقاً أو مفهوماً ، أو نحو ذلك ، وتقسيمه إلى أنواعه .و (الشرعية) عند الأكثر أربعة :
(الكتاب) العزيز
(والسنَّة) النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله
(والإجماع) من أهل البيت (عليهم السلام) أو من الأُمَّة(1/52)
(والقياس) ووجه الانحصار أن يقال الدليل إمَّا متلو أو لا الأول الكتاب ، والثاني إمَّا أن يصدر من النبي أو لا الأول السنَّة ، والثاني إمَّا أن يصدر عن جميع الأُمَّة أو العترة أو لا الأول الأجماع ، والثاني إن كان إلحاق فرع بأصل لمشاركته في علته فالقياس ، والمراد بالمذكورات ما جمع شروط صحة الاستدلال من عدم الإجمال والنسخ ، والتخصيص والمعارض ، ونحو ذلك من شروط الأخبار ، والإجماع ، والقياس ، فاللام في كل منها للجنس لا للاستغراق ، وهذا الحصر يهدم ما بناه فيهما يأتي إن شاء الله تعالى من أنه يجب علينا الأخذ بشرع من قبلنا إلخ [*]
(فالكتاب : هو) في الأصل مصدر ، والمراد به هنا المكتوب كاللفظ بمعنى الملفوظ ، واشتقاقه من الكتب - وهو الضم والجمع - ؛ إذ هو حروف وكلمات ، ومسائل مضمومة مجموعة ، ومن ثَمَّ سُميت الجماعة كتيبة لاجتماعها ، قال :
بهن فلول من قراع الكتائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
غلب على كتاب الله تعالى من بين الكتب في عرف أهل الشرع ، كما غلب على كتاب سيبويه في عرف أهل العربية
و(القرآن) يطلق على الحكاية والمحكي ، وسُمي قرآناً إمَّا لجمعه سوراً وآيات من قولهم : قرأتُ الماء في الحوض إذا جمعتَه فيه ، وقرأت الناقة لنبها إذا جمعته . وإمَّا من القِرى ، لأنه مائدة الله تعالى التي يدعوا عباده إليها ، ومن أسمائه الفُرقان ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وأحكام الشريعة ، وبين ثبوت نبوة محمَّد ونبوة غيره من الأنبياء (عليهم السلام) ومنها الذكر(1)والنور(2) والرُّوح(3) والهُدى (4)والبُرهان (5)
__________
(1) ـ ? إنا نحن نزلنا الذكر ?
(2) ـ ?نورا يهدي به الله من اتبع رضوانه?
(3) ـ ?روحا من أمرنا?
(4) ـ ? وبينات من الهدى والفرقان?
(5) ـ ?قد جاءكم برهان من ربكم?(1/53)
وحقيقته : هو الكلام (المنزل على نبيئنا محمَّد للإعجاز) أي لإرادة ظهور عجز الأُمَّة عن الإتيان بمثله ، أو الحكم به فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم ، خرج الكلام الذي لم ينزل كالمكتوب في اللوح المحفوظ على القول بأنه حقيقة ، وما نزل على غير نبيئنا محمَّد ، وما نزل لا للإعجاز مطلقاً (بسورة) أي بقدرها ، وفائدته دفع إيهام العبارة بدونه أن الإعجاز بكل القرآن فقط ،
والمراد بالسورة بعض من الكلام المنزل ، مترجم أوله وآخره توقيفا ً (1)مُسمى باسم خاص يتضمن آيات قرآناً كان أو غيره ، فيندفع ما قيل أن معرفة السورة موقوفة على معرفته فيدور .
قال في الكشاف : ومن سور الإِنجيل سورة الأمثال . ولذا وصفها المصنف بقوله :(منه) أي من مثله في البلاغة بحذف مضاف لقرينة [*] ?فليأتوا بحديث مثله? ، وظهور أن ليس المراد بسورة من سوره المعروفة وإِلاَّ لزم أن لا يكون معجزاً ، أمَّا على تقدير حكايتها فظاهر ، وأمَّا على تقدير المعارضة بعينها فلاستحالة قيامها من حيث هي كلامه تعالى بغيره ، ولزوم أن يكون كل فعل معجزاً لغير فاعله ، ولو قال :(ما نزل للإِعجاز) لكان أخصر وأفيد وهو (2) أمر من جنس البلاغة كما يجده أرباب الذوق في الأصح ، وهو إمَّا ذاتي لحقيقة القرآن ، أو لازم بَيِّن لها ؛ لأن من تعقل القرآن وعرف حقيقته مع الإِعجاز علم لزوم الإِعجاز له قطعاً ؛ بل من تعقله على ما ينبغي علم أنه معجز ، فأقل أحوال الإعجاز أن يكون لازماً بيناً له إمَّا بالمعنى الأخص : وهو أن يكون مجرد تعقل الملزوم كافياً في تعقل اللازم . أو بالمعنى الأعم : وهو أن يكون تعقل الملزوم واللازم كافياً في الجزم باللزوم .
__________
(1) ـ أي إعلاماً من الله تعالى ، وقوله :(مُسمى باسم خاص) لإخراج الآية غير آية الكرسي فما بعده لإخراجها فيندفع الاعتراض بها تمت منه
(2) ـ أي الاعجاز تمت(1/54)
وعدم تعقل الإعجاز بعد تعقل حقيقة القرآن ، كما هو شأن عوام المؤمنين ، لا يقتضي أن لا يكون بيناً فاندفع ما قيل أن كونه للإعجاز ليس لازماً بيناً فضلاً عن أن يكون ذاتياً ، وقدمه لأنه أصل سائرها ، والسنة على الإجماع لأنها أصل له ، والإجماع على القياس لسلامته عن الخطأ .
[شرط القرآن]
(وشرطه) أي ألفاظ القرآن وهيئته كالمد والإمالة . (التواتر) وقد تواتر هذا الموجود بأيدي الأُمَّة من غير زيادة ولا نقصان عما في العرضة الأخيرة إجماعاً (1)(فما نقل) حال كونه (آحاداً فليس بقرآن) قطعاً (للقطع بأن العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله) لأنه ممَّا تتوفر الدواعي على نقله لما تضمن من التحدي والإعجاز ، وبهذا الطريق علم أن القرآن لم يعارض ، وأنه محفوظ من الزيادة والنقصان والتحريف - أي تبديل - حرف لفظ بلفظ آخر ، ولا يجوز فيه شيءٌ من ذلك ؛ إذ في تجويزه هدم للدِّيْن ، ويلزم أن لا نثق بشيءٍ منه لجواز التبديل والزيادة ، ونقصان الناسخ ، وبقاء المنسوخ ، وأيضاً قال تعالى ?إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنَّا له لحافظون?[9الحجر] فتولى تعالى حفظه ، وما تولى تعالى حفظه حقيق بأن لا يغير .
__________
(1) ـ قال في الاتقان : أخرج ابن أبي شيبة عن ابن سيرين قال : كان جبريل يعارض النبي كل سنة في شهر رمضان ، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين ، فيرون أن تكون قرائتنا هذه على العرضة الأخيرة . قال البغوي في شرح السنَّة : يقال أن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بَيَّن فيها ما نسخ ، وما بقي ، وكتبها لرسول الله ، وكان يقري الناس بها حتى مات تمت منه(1/55)