(والرخصة) لغة : التسهيل والتيسير . قال الجوهري : الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه ، ومن ذلك رخص السعر إذا تيسر وسهل . واصطلاحاً :(ما شرع) فعل أو ترك شرعه الله للمكلف إشارة إلى أن الترخيص لا بد له من دليل وإلا لم يكن مشروعاً ؛ بل المشروع غيره ، وهو ما دل عليه الدليل (لعذر) يطرأ عليه ، فيخرج الحكم ابتداءً ؛ لأنه مشروع لا لعذر ، ووجوب الإطعام في كفارة الظهار عند عدم إمكان الرقبة والصوم فإنه الواجب ابتداءً (مع بقاء مقتضي التحريم) للفعل أو الترك - أي مع بقاء دليله - معمولاً به ، فيخرج ما نسخ وجوبه أو تحريمه ، لأن مقتضيه غير باقٍ معمولاً به ، وكذا ما خص من عموم دليل الوجوب أو التحريم ؛ لأن التخصيص مبين أن العام لم يتناوله حقيقة ؛ بل ظاهراً ، فهو كالحكم ابتداءً .
واعترض بتحريم الصلاة والصوم على الحائض ، فإنه يصدق عليه تعريف الرخصة وليس منها فلا يكون مانعاً .
وأجيب : بأن الحيض لا يسمى عذراً ، فإن العذر الذي شرعت لأجله الرخصة إمَّا دفع تلف ، أو مشقة ، أو حاجة ، وترك الحائض للصلاة لا يدفع شيئاً من ذلك ، ولأن الرخصة عبارة عن الحكم المبني على أعذار العباد ، والحيض مانع شرعي وليس بعذر ،(1/46)


والرخصة قد تكون واجبة كأكل الميتة للمضطر ، ومندوبة كصوم المسافر إن لم يضره الصوم ، ومكروهة كإفطار المسافر (1)إن استوى عند الأمران ، ومباحة كالعرايا والسلم ، وسببها قد يكون كذلك (2)ومحظوراً وفعلاً لله تعالى وللعبد كسفر حج الفرض ، أو النفل (3) ، أو التجارة ، أو حرب الإمام ، وتسويغ (4) من غص بطحال الخمر ؛ حيث لم يجد غيره ، وكالمرض (5) .
(والعزيمة) لغة : الجد في الأمر والقطع عليه . واصطلاحاً :(بخلافها) أي الرخصة فهي ما شرع من الفعل أو الترك لا لعذر مع بقاء مقتضى التحريم للفعل أو الترك ، وذلك ظاهر ، ولا ينحصر الحكم في الرخصة والعزيمة (6) ؛ إذ لا يدخل المندوب والمباح والمكروه في العزيمة ، لأن العزيمة هي الفريضة ، ولذا قال في القاموس عزائم الله فرائضه التي أوجبها . انتهى .
(الباب الثاني)
من أبواب الكتاب يتضمن القول (في الأدلة) والأمارات وشروطهما ، وكيفية الأخذ بهما ،
وإنما قدمها على ما بعدها ، لأن ما بعدها نظر فيما يتعلق بها ، ويتعذر النظر في المتعلق بالشيء مع الجهل به .
__________
(1) ـ و مثل به للمباح منها ، ذكره الشيخ لطف الله ، وفيه ما لا يخفى والله أعلم تمت منه .
(2) ـ أي واجباً ، ومندوباً ، ومكروهاً ، ومباحاً تمت منه
(3) ـ أي وكسفر النفل وسفر التجارة ، وسفر حرب الإمام تمت
(4) ـ أي التسويغ في الخمر سببه مكروه وهو أكل الطحال تمت
(5) ـ هذا مثال ما كان فعلا لله تمت
(6) ـ خلافاً للقرشي والسبكي ، وتقرر أن الخلاف لفظي ، وأن من قال بانحصاره فيها أراد المجموع من حيث هو ، ومن قال بعدمه نظر إلى عدم دخول المندوب والمباح والمكروه في العزيمة ،. إلا أن ما نقله أبو زرعة في شرح الجمع عن البيضاوي والسبكي يأبى ما قلنا من التلفيق والله أعلم تمت منه(1/47)


(الدليل) لغة : فعيل ، بمعنى فاعل من الدلالة ، ويطلق على المرشد - وهو الناصب - لما يرشد به ، والذاكر له ، وعلى ما به الإِرشاد . وفي اصطلاح الأصوليين : (ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه) وهو الفكر المطلوب به علم أو ظن ، لكن المراد هنا الموصل (إلى العلم) بالغير وهو المدلول ، ذكر الإمكان لإدخال مالم ينظر فيه فإن الدليل لا يخرج عن كونه دليلا بأن لا ينظر فيه أصلاً وذكر الصحيح - وهو المشتمل - على شرائطه مادة وصورة لإِخراج الفاسد ؛ لأنه لا يمكن التوصل به إلى العلم ، إذ ليس هو في نفسه سبباً للتوصل ، ولا آلة له ، وإن أفضى إليه نادراً فاتفاقي بواسطة اعتقاد كما إذا نظر في العالم من حيث البساطة ، وفي النار من حيث التسخين ، فإن البساطة والتسخين ليس من شأنهما أن ينتقل بهما إلى وجود الصانع والدخان ، ولكن يؤدي إلى وجودهما هذا النظر ممَّن اعتقد أن العلم بسيط ، وكل بسيط له صانع وممَّن اعتقد أن كل مسخن له دخان (1)
(وأمَّا ما يحصل عنده الظن) بالغير (فأمارة) أي فهو المسمى بالإمارة لا بالدليل ، وإنما قال : يحصل دون يلزم تنبيهاً على أنه ليس بين الظن وبين شيءٍ ربط عقلي لانتفائه مع بقاء سببه ، كما إذا رئي سحاب فظن حصول المطر فلم يمطر فزال الظن مع بقاء السحاب .
(ويسمى) ما يحصل عنده الظن (دليلاً توسعاً) اي تجوزاً ، ومنهم من لم يفرق بينهما ويقول في حقيقتهما ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري
__________
(1) ـ هذا مثال ما مادته فاسدة ، وأمَّا فساد الصورة فبأن لا تكمل فيه شرائط المقدمتين ، مثلاً : يشترط في الشكل الأول بحسب الكيف - إيجاب الصغرى - ، وبحسب الكم - كلية الكبرى - ، فاختلال أحدهما فساد صوري إهـ(1/48)


(والعلم )المذكور في حد الدليل ، فاللام للعهد الذكري ، فيكون المراد به علم المكلف ، لأنه المتصف بكونه بواسطة دون علم الباري تعالى فإنه واجب لذاته لا يتصف بواسطة ، ولقرينة اقترانه بما لا يجوز إطلاقه على الباري تعالى من قسمته إلى ضروري واستدلالي ، ومن نحو الظن ، ثم إن أخذ قيد مجهول في حد ثم تعريفه بعد قاعدة جرى عليها الجمهور كالمصنف ، وابن الحاجب في كافيته ،
والقياس : تعريف العلم - مثلاً - ثم الدليل لئلا يكون تعريفاً بالمجهول ، والله أعلم . (هو المعنى) يشمل المعاني اعتقاداً كانت أو غيره (المقتضي لسكون النفس إلى أن متعلقه كما اعتقده) مع تطابقهما في نفس الأمر ، فيخرج الجهل [*] والتبخيت ، والتقليد ؛ حيث يطابقان معتقديهما ، وحيث لا يطابقانه ، والتبخيت : اعتقاد الشيء هجوماً وخبطاً لا لأمر . وسيأتي حقيقة التقليد إن شاء الله تعالى
[ تقسيم العلم ]
(وهو نوعان) تصوري وتصديقي ، وكل منهما إمَّا (ضروي) منسوب إلى ضرورة العقل يحصل بلا نظر (و) إمَّا (استدلالي) منسوب إلى الاستدلال (1)لا يحصل إِلاَّ به ، وهذه القسمة بديهية لا يحتاج فيها إلى تجشم الاستدلال كما ارتكبه بعض ، وذلك أنَّا إذا رجعنا إلى وجداننا وجدنا من التصورات ما هو حاصل لنا بلا نظر ، كتصور الحرارة والبرودة ، وما هو حاصل به كتصور جقيقة الملك والجن ومن التصديقات ما هو حاصل لنا بلا نظر كالتصديق بأن الشمس مشرقة والنار محرقة ، وما هو حاصل بالنظر كالتصديق بأن العالم حادث ، والصانع موجود ،
__________
(1) ـ قلت : قال بعض الشراح : وغيره إن الأول من فعل الله ، والثاني من فعلنا ، وفيه أنه لا يخلوا إمَّا أن يريد نفس العلم أي الكيفية الحاصلة عند العقل منهما جميعا من فعلنا ، وإما أن يريد أسبابهما وكثير من أسباب الضروري متو قف على فعلنا واختيارنا ألا ترى ان الاستدلالي قد ينتهي إلى الضرورة تمت منه(1/49)


(فالضروري) منه (ما لا ينتفي) عن النفس (بشك) إذلا يمكن طروه عليه ، ولا مزاحمته له ، (ولا) بسببه - أي (شبهة) - وهو الواقع لا بواسطة نظر كالعلم الواقع بإحدى الحواس ، والواقع بالتواتر كعلمنا ببغداد والبصرة ، فإنَّا نقطع بوجودهما وإن لم نشاهدهما ، ومنه الوجداني وهو ما لا يفتقر إلى عقل كالمتعلق بالجوع والألم ، ولهذا تدركهما البهائم ،ومنه ما هو أولي يحكم العقل بمجرد تصور طرفيه كقولنا الواحد نصف الاثنين ، والكل أعظم من الجزء ، والسواد والبياض لا يجتمعان ، ومنه التجربي وهو ما يحصل في العادة بتكرر الترتيب من غير علاقة عقلية كالعلم بإسكار المسكر ، وإسهال الصفراء بالسقمونيا (1) .
(والاستدلالي مقابله) فهو الذي ينتفي بالشك أو سببه لضرورة زوال الضد عند طرو ضده (2) ولما ذكر العلم أخذ يُبِيِّن لواحقه ، فقال :
__________
(1) ـ هو السنا والعسل تمت
(2) ـ وما يكثر في لسان الفقهاء من أن اليقين لا يرفع بالظن ، ولا يرفعان بالشك ، وهو فرع اجتماع أنواع الاعتقاد ، فمعناه : أن حكم الأول الأقوى لا يزول بحكم الثاني الأضعف بجعل الشارع حكم الضد الزائل باقياً ، مثل صحة الصلاة مع زوال ظن الطهارة بالشك في الحديث تمت منه(1/50)

10 / 108
ع
En
A+
A-