بالعكس جزم العلامة المقبلي: فقال: اعلم أنه قد صح في صفتها وضع اليد على الصدر وتحت السرة، وروي من حديث علي مرفوعاً من طرق تحت السرة(1).
وهذا كلام غير دقيق، كما ستعرف، بل قد صرحوا بعكسه، فقال ابن المنذر في بعض تصانيفه: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك (أي في مكان الوضع) شيء فهو مخير(2).
hg
الفصل الثاني
في أدلة القائلين بالضم والتعليق عليها
احتج القائلون بأن الضم في الصلاة هو السنة بجملة من الروايات، منها ما هو خاص بالقائلين بأن الضم تحت السرة، ومنها ما هو خاص بالقائلين بأن الضم على الصدر، ومنها ما هو مشترك بينهم، ومنها ما وقع النزاع فيه، وقد رأيت أن أوردها في فصل واحد حتى لا يتكرر الكلام عليها.
وقبل البدء لابد من الإشارة إلى أنه ليس بصحيح ما يقال من أنه ورد في ذلك أكثر من عشرين حديثاً، فذلك تهويل وإرجاف لا واقع له، وإنما هي عدة روايات كَثَّرها النقل بالمعنى، واضطراب الرواة عند النقل، وهي كما يلي:
الرواية الأولى: في أن الضم من أخلاق الأنبياء
تنص إحدى الروايات على أن من سلوك الأنبياء: تعجيل الفطور، وتأخير السحور، ووضع الكف على الكف في الصلاة، وهي تروى عن: ابن عباس، أو ابن عمر، أو أبي هريرة اضطرب فيها الرواة، كما تروى عن أبي الدرداء، ويعلى بن مرة.
أما حديث ابن عباس
فرواه الطيالسي (3)، ومن طريقه البيهقي (4)، قال الطيالسي: حدثنا طلحة [بن عمرو الحضرمي]، عن عطاء [بن أبي رباح]، عن ابن عباس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نُعَجِّل إفطارنا، ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة )).
__________
(1) المنار 1/174.
(2) عون المعبود 2/461ـ462.
(3) الطيالسي في المسند 346 (2654).
(4) البيهقي في السنن الكبرى 4/238.(1/36)
ورواه الدارقطني(1)، من طريق مخلد بن يزيد: أخبرنا طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنا معاشر الأنبياء، أمرنا أن نؤخر السحور، ونعجل الإفطار، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة )).
تقييم الحديث
يوجد في هذا الحديث مجموعة من العلل، منها:
الأولى ـ أن مدار هذا الحديث على طلحة بن عمرو المكي، وقد تركه بعض المحدثين وضعفه الآخرون.
فقال فيه أحمد، والنسائي، وابن الجنيد، وابن حجر: متروك الحديث (2).
وقال عمر بن علي: لا شيء، متروك الحديث، كان يحيى وعبد الرحمن لا يحدثان عنه(3).
وقال ابن معين: ليس بشيء، ضعيف (4).
وقال البخاري: ليس بشيء، كان يحيى سيء الرأي فيه(5).
وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يحل كتابة حديثه ولا الرواية عنه، إلا على وجهة التعجب(6).
وضعفه: ابن المديني، وأبو زرعة، وأبوحاتم، والبزار، وأبو داود، والعجلي، والدارقطني، وابن سعد، وأبو أحمد الحاكم وغيرهم(7).
وقال الجوزجاني: غير مرضي في حديثه (8).
الثانية ـ أنه مضطرب، فقد رُوِيَ تارة عن ابن عباس، وتارة عن أبي هريرة، وتارة عن ابن عمر.
قال البيهقي: هذا حديث يعرف بطلحة بن عمرو المكي، وهو ضعيف، واختلف عليه ـ أي اضطرب ـ فقيل عنه كذا، وقيل: عنه عن عطاء عن أبي هريرة، وروي من وجه آخر ضعيف عن ابن عمر (9).
__________
(1) الدار قطني في السنن 1/284.
(2) الجرح والتعديل 4/478، الضعفاء للنسائي 143، تهذيب التهذيب 5/21 ـ 22، تقريب التهذيب 1/379.
(3) الجرح والتعديل 4/478. تهذيب التهذيب 5/21.
(4) الجرح والتعديل 4/478.
(5) تهذيب التهذيب 5/21.
(6) المجروحين 1/382.
(7) انظر تهذيب التهذيب 5/ 21 ـ 22، الخلاصة 180، الجرح والتعديل 4/678.
(8) أحوال الرجال 145 (252).
(9) السنن الكبرى 4/238، 2/29.(1/37)
الثالثة ـ أنها اختلفت ألفاظه اختلافاً يؤثر في المعنى، ففي رواية الطيالسي: ونضع أيماننا... وفي رواية الدارقطني: وأن نمسك بأيماننا شمائلنا.. ومفهوم الوضع غير مفهوم الإمساك، ولذلك اختلفوا، فمنهم من قال: يكفي الوضع، ومنهم من قال: لا بد من الإمساك.
الرابعة ـ أنه من طريق عطاء، وقد ثبت عنه أنه كان يرسل يديه في الصلاة ـ كما تقدم ـ، فهذا الحديث من طريقه لا يخلوا: إما أن يكون غير صحيح عنه، وإما أن يكون له مدلول غير الضم في الصلاة، إذ لو كان صحيحاً ويفيد الضم لما خالفه.
متابعة عمرو بن الحارث
روى الطبراني في الكبير (1)، وابن حبان (2) من طريق حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، أنه سمع عطاء بن أبي رباح يحدث عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا، ونعجل فطرنا، ونمسك بأيماننا على شمائلنا في صلاتنا)). هذا لفظ ابن حبان، وفي لفظ الطبراني: (( ووضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة )).
قال ابن حبان: سمع هذا الخبر ابن وهب عن عمرو بن الحارث، وطلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح.
تقييم الرواية
يبدو أن هذه الرواية أصح ما في الباب من وجهة نظر ابن حبان، ولهذا اقتصر عليها في باب الضم، وذكر أنه رواها ابن وهب من طريق عمرو بن الحارث ليؤكد أن لها طريقاً آخر غير طريق طلحة بن عمرو، وهذا ما جعل بعض المحدثين يسارعون إلى تصحيحها، ولكنها رغم ذلك معلولة بخمس علل:
الأولى ـ أن هناك تردداً في صحة روايتها من طريق عمرو بن الحارث، فقد ذكر البيهقي أن هذا الحديث يعرف بطلحة بن عمرو ـ كما تقدم ـ. وعلى هذا فيحتمل أن بعض الرواة قد توهم فرواه من طريق عمرو بن الحارث، بدلاً من طريق طلحة بن عمرو خصوصاً وأن بين الاسمين تشابهاً.
__________
(1) المعجم الكبير 11/199 رقم (11485).
(2) صحيح ابن حبان 5/67 رقم (1770).(1/38)
وهذا ما استشعره ابن حجر، فذكر عن الطبراني أنه قال: لم يروه عن عمرو بن الحارث إلا ابن وهب، انفرد به حرملة. قلت ـ والقائل ابن حجر ـ: أخشى أن يكون الوهم فيه من حرملة (1).
أقول: وقد يكون الوهم من ابن وهب نفسه، فقد ذكر النسائي والساجي أنه كان يتساهل في السَّماع (2).
الثانية ـ أنه انفرد به حرملة بن يحيى الحضرمي، وهو وإن كان كثير الرواية عن ابن وهب، إلا أنه لكثرة روايته كان يتفرد بغرائب، أشار إلى ذلك الذهبي (3).
وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به (4).
وقال ابن عدي في الضعفاء: سألت عبد الله بن محمد الفرهاداني أن يملي علي شيئاً عن حرملة، فقال: هو ضعيف(5).
وأما أحمد بن صالح المصري فقد كان يحمل عليه ويتكلم فيه (6).
الثالثة ـ أنه على فرض صحته عن عمرو بن الحارث، لا يحتج به؛ لأن أحمد قد تكلم في عمر بن الحارث نفسه، فقال: رأيت له مناكير (7). وذكر الأثرم أنه حمل عليه حملاً شديداً. وقال: يروي عن قتادة أحاديث يضطرب فيها، ويخطيء (8). هذا إلى جانب أن حرملة انفرد به، وهو ضعيف كما تقدم.
الرابعة ـ أنه مروي من طريق عطاء، وقد تقدم أنه ممن يرى الإرسال، ومخالفة الراوي لما روي مُوجب لضعف الرواية.
الخامسة ـ أن في ألفاظه اختلافاً يؤثر في المعنى، ففي رواية الطبراني: ووضع أيماننا .. وفي رواية ابن حبان: ونمسك بأيماننا..
وروي عن ابن عباس من طريق أخرى
__________
(1) تلخيص الحبير 1/224. وقال الشوكاني في نيل الأوطار 2/200: تفرد به حرملة.
(2) انظر تهذيب التهذيب 6/67.
(3) ميزان الاعتدال 1/472.
(4) الجرح والتعديل 3/274.
(5) الكامل في الضعفاء 2/863.
(6) تهذيب التهذيب 2/202.
(7) تهذيب التهذيب 8/14.
(8) ميزان الاعتدال 3/252.(1/39)
رواه الطبراني في الكبير (1)، والأوسط (2) من طريق محمد بن أبي يعقوب الكرماني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل الإفطار، وأن نؤخر السحور وأن نضرب بأيماننا على شمائلنا )).
وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد) وقال: رجاله رجال الصحيح(3).
تقييم الرواية
يعتبر هذا الحديث من أجود الأحاديث سنداً عند المحدثين، ورغم ذلك فإن فيه علتين:
الأولى ـ أن محمد بن أبي يعقوب تفرد براويته عن ابن عيينة. قال الطبراني عقب روايته: لم يروِ هذا الحديث عن ابن عيينة إلا محمد بن أبي يعقوب (4).
وقد قيل: إنه غير معروف، قال أبو حاتم: هو مجهول (5).
وذكره البخاري في مكانين من (التاريخ الكبير) أحدهما باسم محمد بن أبي يعقوب (6)، وثانيهما باسم محمد بن إسحاق وقال: هو ابن أبي يعقوب (7).
وقال الذهبي: اسم أبيه إسحاق بن منصور، وأنكر أن يكون مجهولاً (8).
الثانية ـ أن فيه: عمرو بن دينار أبو محمد المكي، وقد أشار الحاكم في علوم الحديث إلى أنه كان يدلِّس (9).
وقال عنه سفيان بن عيينة: اتفقوا على أنه كان مدلساً (10). وقد جاءت روايتهما بالعنعنة كما ترى.
وأما حديث ابن عمر
__________
(1) المعجم الكبير 11/7 رقم (10851).
(2) المعجم الأوسط للطبراني 5/137 (4261).
(3) مجمع الزوائد 3/155.
(4) المعجم الأوسط للطبراني 5/137 (4261).
(5) الجرج والتعديل 8/122، وتهذيب التهذيب 9/34.
(6) التاريخ الكبير 1/267.
(7) التاريخ الكبير 1/41.
(8) ميزان الاعتدال 4/70.
(9) تعريف أهل التقديس بمراتب المعروفين بالتدليس 42 (20).
(10) تعريف أهل التقديس بمراتب المعروفين بالتدليس 65 (52).(1/40)