وهذا يعني أن روايات الضم المذكورة إن كان لها حظ من الثبوت فإن علماء الصدر الأول فهموا أن المراد بها شيئاً غير الضم في صلاة الفريضة.
ولم ينصف صاحب (الروضة الندية) حين قال بعد ذكره للتابعين القائلين بالإرسال: فإن بلغ عندهم حديث الوضع، فمحمول على أنهم لم يحسبوه سنة من سنن الهدى، بل حسبوه عادة من العادات، فمالوا إلى الإرسال لأصالته، مع جواز الوضع، فعملوا بالإرسال بناء على الأصل، إذ الوضع أمر جديد يحتاج إلى دليل، وإذ لا دليل لهم، فاضطروا إلى الإرسال، لا أنه ثبت عندهم(1).
فهذا كلام غير صحيح؛ لأن من البعيد أن سادات السلف وكبار التابعين لم تبلغهم أحاديث الضم، ولكنها إما لم تكن موجودة، أو أنهم كانوا يضعفونها، أو يحملونها على محمل آخر، ومالوا إلى الإرسال لكونه المشروع دون غيره.

hg

مدخل
الضم، هو: وضع إحدى اليدين على الأخرى أثناء القيام في الصلاة، ويسميه البعض: التكتف، أو التكفير، وهو عند القائلين بشرعيته مجرد هيئة مندوبة، لا يؤثر تركه في صحة الصلاة.
وسأذكر في هذا الباب الذاهبين إلى شرعيته وما اختلفوا فيه من صفته، مسندا ذلك إلى أمهات كتبهم.
ثم استعرض أدلتهم التي اعتمدوا عليها معلقاً عليها بما يلتزمه المحدثون من أصول النقد وتقييم الأخبار، معتمداً في ذلك على النقل من كتبهم المشهورة، وأشير في الهامش إلى اسم الكتاب ورقم الجزء والصفحة، وسأبين في آخر هذا البحث الطبعات التي اعتمدتها لتلك الكتب.
وسيلحظ القارئ أنني تعمدت كشفت كثير من العلل التي قد يمر عليها بعض الباحثين مرور الكرام، وما ذلك إلا لأبين الجانب المفقود من البحث في هذه المسألة، لأن كثيراً ممن تطرق للبحث فيها أغفل جانب النقد وتغاضى في التقييم، مع أنني لم أهمل ذكر أقوال المصححين لبعض الروايات، وذلك ما سيجده القارئ في أثناء البحث، ومن الله أستمد العون والسداد.

الفصل الأول
__________
(1) الروضة الندية 1/97.(1/31)


في ذكر القائلين بالضم وبيان اختلافهم فيه
ذهب علماء الحنفية والشافعية والحنبلية إلى أن المشروع في الصلاة أثناء القيام هو وضع اليد على اليد.
ثم اختلفوا، فمنهم من قال: فوق الصدر، ومنهم من قال: تحت الصدر، ومنهم من قال: تحت السرة، ومنهم من فرق بين الرجل والمرأة في ذلك(1).
ثم اختلفوا مرة أخرى في كيفية وضع اليد على اليد، هل يقبض اليسرى باليمنى، أم يضعها فقط؟ وهل يكتفي بوضع الكف على الكف، أم لا بد من وضع الكف على الكف والرسغ والساعد، أو على الذراع والكرسوع؟
يقول علماء الحنفية: إن كان المصلي رجلاً فيسن في حقه أن يضع باطن كفه اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى، يحَلِّق بالخُنْصُر والإبهام على الرسغ، ويكون ذلك تحت السرة. وإن كانت امرأة فيسن لها أن تضع يديها على صدرها من غير تَحْلِيق (2).
ويقول علماء الشافعية: السُّنَّة للرجل والمرأة وضع باطن الكف اليمنى على ظهر كف اليسرى على بعض الكف وبعض الرسغ تحت الصدر وفوق السرة مما يلي الجانب الأيسر، وأما أصابع يده اليمنى فهو مخير بين أن يبسطها في عرض مَفْصِل اليسرى وبين أن ينشرها في جهة ساعدها (3).
وحكى الإمام المهدي عن الشافعي وابن الزبير أن الضَّم مشروع للسكون، فلو سكن مرسلاً كفى(4).
__________
(1) كما ذكر صاحب البحر الرائق 1/303.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة 1/251. ونظر المبسوط 1/24، والبحر الرائق 1/303.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة 1/251، المهذب 1/239.
(4) البحر الزخار 2/242.(1/32)


وفي (عون المعبود): ((جاء عن الشافعي في الوضع ثلاث روايات، إحداها: أنه يضع يده اليمنى على يده اليسرى تحت الصدر فوق السرة، والثانية أن يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، وهي الرواية التي نقلها صاحب الهداية عن الشافعي. وقال العيني: إنها المذكور في (الحاوي) من كتبهم. والثالثة: أن يضع يده تحت السرة. ذكر هذه الروايات الثلاث العلامة هاشم السِّندي في بعض رسائله في هذه المسألة )) (1).
أما علماء الحنبلية فالمروي عنهم: أن السنة للرجل والمرأة وضع بطن الكف اليمنى على ظهر كف اليسرى ويجعلهما تحت سرته (2).
وقال ابن القيم: اختلف قوله ـ يعني أحمد ـ في صفة وضع اليد على اليد، فعند أحمد بن أصرم المزني وغيره أنه يقبض بيمينه على رسغ يساره، وعند أبي طالب يضع يديه اليمنى وضعاً بعضها على ظهر كفه اليسرى وبعضها على ذراعه الأيسر.
واختلف في موضع الوضع، فعنه فوق السرة، وعنه تحتها، وعنه أبو طالب سألت أحمد: أين يضع يده إذا كان يصلي؟ قال: على السرة أو أسفل. وكل ذلك واسع عنده إن وَضَعَ فوق السرة أو عليها أو تحتها (3).
قال النووي: وعن أحمد روايتان كالمذهبين ـ يعني فوق السرة وتحتها ـ ورواية ثالثة أنه مخير بينهما ولا ترجيح، وبهذا قال الأوزاعي وابن المنذر (4).
وفي سبيل إظهار كل فريق لحجته احتدم جدال ونزاع واسع صارت ضحيته أدلة الضم، حيث ضَعَّف كل فريق أدلة الفريق الآخر وكشف خَلَلَها، مما يجعلنا نعيد النظر في المسألة من حيث المبدأ، لأن تلك الروايات إذا اختلف مدولها لم يصح أن يشهد بعضها لبعض.
__________
(1) عون المعبود 2/264.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة 1/251.
(3) بدائع الفوائد 3/91.
(4) شرح صحيح مسلم 4/115.(1/33)


قال المباركفوري ـ بعد ذكر أحاديث الوضع تحت السرة ـ: ((فهذه الأحاديث التي أُستدل بها على الوضع تحت السرة، وقد عرفت أنه لا يصلح واحد منها )). وقال أيضاً: (( الفصل الثاني في ما تمسك به من ذهَب إلى وضع اليدين فوق السرة، لم أقف على حديث مرفوع يدل على هذا المطلوب ))(1).
وقال أبو الطيب الأبادي ـ وهو من الشافعية ـ: أما الوضع فوق السرة أو تحت السرة فلم يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديث (2).
وقال الألباني: وضعهما على الصدر هو الذي ثبت في السنة، وخلافه إما ضعيف أو لا أصل له(3).
وهذه دعوى ناقضه فيها - من معاصريه - العلامة السقاف، فقال: ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع يديه على صدره(4). ثم أنه لم يستدل على ذلك إلا بحديث وائل عند ابن خزيمة، وقد ضعفه هو في هامش صحيح ابن خزيمة(5)، فهل نعتبر ذلك من تناقضاته؟
واستعمل الأحناف والحنابلة - القائلون بأن الوضع تحت السرة - نفس الأسلوب. فقد بذل الزيلعي - وهو من الأحناف - جهداً جهيداً في تضعيف أحاديث القائلين بالوضع على الصدر، وكذلك ابن القيم - وهو من الحنابلة - كما في (بدائع الفوائد) (6)، وألف بعض الأحناف كتاباً سماه: (دراهم الصُّرة في وضع الأيدي تحت السرة)، وأجاب عليه بعض الشافعية بكتاب سماه: (نقد الصُّرة)، وَرَدَّ عليه آخر من الحنفية بكتاب سماه: (الدرة في إظهار غش نقد الصرة)، وألف آخر من الشافعية كتاباً سماه: (فتح الغفور في وضع الأيدي على الصدور) ورد عليه آخر من الحنفية بكتاب سماه: (فوز الكرام بما ثبت في وضع الأيدي عند القيام).
__________
(1) تحفة الأحوذي شرح صحيح الترمذي 2/89.
(2) عون المعبود شرح سنة أبي داود 2/462.
(3) صفة صلاة النبي 61.
(4) صحيح صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم 83.
(5) صحيح ابن خزيمة 1/243.
(6) بدائع الفوائد 3/91.(1/34)


وقد وقع جَدَل طويل حول الحديث الذي رواه ابن خزيمة في صحيحه عن وائل بن حُجْر، وفيه أن الوضع على الصدر، فالشافعية وأنصارهم يذكرون أن حديث وائل هذا صححه ابن خزيمة، وأن إسناده هو إسناد حديث وائل الذي أخرجه مسلم من طريق محمد بن جحادة، وشددوا على ذلك وأكثروا الاحتجاج حتى يكاد المطالع يعتقد أن ذلك شيء مقطوع به.
وعلى العكس شدد الأحناف والحنابلة في النكير على من ادعى تصحيحه من قِبَل ابن خزيمة، وانتقد صاحب (حاشية نصب الراية) الشوكاني بشدة واتهمه بالتهور، والمجازفة، حين ادعى أن ابن خزيمة صحح حديث وائل.
وكذلك ردُّوا بشدة على من زعم أن إسناد ذلك الحديث كالذي في صحيح مسلم، والأعجب من هذا كله أن المتنازعين مجرد مستنتجين إذ لم يطلع أحد منهم على كتاب صحيح ابن خزيمة.
وبعد أن طبع صحيح ابن خزيمة، وجدنا الحديث فيه، وليس إسناده كإسناد حديث مسلم، ولكنه مروي من طريق مؤمّل بن إسماعيل وهو ضعيف، وعلق عليه الألباني بقوله: إسناده ضعيف(1). وكان القول بعد الجَدَل الطويل قول الأحناف (2).
وفي ظل ذلك النِّزاع ذهب بعض العلماء إلى أن الأحاديث التي فيها ذكر تعيين الموضع ليست صحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأجمعها، قال الشيخ ابن الهمام: ولم يثبت حديث صحيح يوجب العمل في كون الوضع تحت الصدر وفي كونه تحت السرة (3).
وقال ابن أمير الحاج في (شرح المنية): ولم يثبت حديث يوجب تعين المحل إلا حديث وائل(4). وهذا بناء منه على أن ابن خزيمة صححه.. وليس كذلك كماسبق.
وقال ابن المنذر في بعض تصانيفه: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شيء ـ يعني في تعيين مكان الوضع (5).
__________
(1) انظر صحيح ابن خزيمة 1/243.
(2) راجع نصب الراية وحاشيتها 1/313، وتحفة الأحوذي 2/87، وما بعدها، وعون المعبود 2/454، وصحيح ابن خزيمة 1/242.
(3) الروضة الندية 1/87.
(4) تحفة الأحوذي 1/87.
(5) عون المعبود 2/456.(1/35)

7 / 20
ع
En
A+
A-