تذكر المصادر الحديثية والفقهية أن هنالك كوكبة من سادات السلف وكبار التابعين وتابعيهم، روي عنهم القول بأن الإرسال هو المشروع أثناء القيام في الصلاة، أحببت أن أذكر ما قيل عنهم في هذه المسألة؛ لما في ذلك من دلالة على أن إرسال اليدين في الصلاة كان معروفاً مشهوراً يفعله كبار علماء الصدر الأول، كما أنه يجعلنا نتساءل عن حقيقة الأحاديث المروية في الضم، خصوصا وأن شطراً منها مروي من طُرق ألئك الذين يروى عنهم الارسال. فمنهم:
عبد الله بن الزبير
وهو من مشاهير الصحابة، قال الذهبي: كان كبيراً في العلم والشرف والجهاد والعبادة(1).
روى ابن أبي شيبة عن عفَّان، قال حدثنا يزيد بن إبراهيم، قال: سمعت عمرو بن دينار قال: كان ابن الزبير إذا صلى يرسل يديه(2). ومن طريق بن أبي شيبة رواه ابن المنذر(3).
وقال النووي: وحكى ابن المنذر عن ابن الزبير أنه يرسلهما، ولا يضع اليمنى على اليسرى(4). ومثله قال الشوكاني(5).
وأما أبو داود فروى عن ابن الزبير أن وضع اليد على اليد سُنَّة، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه إن شاء الله.
فقيه المدينة سعيد بن المسيب
وهو الإمام أبو محمد القرشي، أحد كبار فقهاء المدينة، وسيد التابعين في زمانه، روى عن كثير من الصحابة، توفي (79 هـ).
روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمر بن هارون، عن عبد الله بن يزيد قال: ما رأيت ابن المسيب قابضاً يمينه في الصلاة، كان يرسلهما(6).
فقيه الشهداء سعيد بن جبير
وهو الإمام المجاهد الشهير، أحد الرواة عن الصحابة، ومشاهير علماء التابعين، كان يسمى: جهبذ العلماء، قتله الحجاج (سنة 95 هـ).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 3/364.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 1/344 (3950).
(3) الأوسط 3/94.
(4) المجموع 3/311 ـ 312.
(5) نيل الأوطار 2/201.
(6) مصنف ابن أبي شيبة 1/344 (3952).(1/26)
قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن العيزار، قال: كنت أطوف مع سعيد بن جبير فرأى رجلاً واضعاً إحدى يديه على الأخرى، هذه على هذه، فذهب فَفَرَّق بينهما ثم جاء(1).
وقال ابن المنذر: وروي أن سعيد بن جبير رأى رجلاً يصلي واضعاً إحدى يديه على الأخرى؛ فذهب ففرق بينهما(2). ونحوه روى ابن بطال في (شرح البخاري)(3).
وقد روى البيهقي من طريق يحيى بن أبي طالب، أنبأنا زيد، أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن أبي الزبير قال: أمرني عطاء أن أسأل سعيداً: أين تكون اليد؟ فقال: فوق السرة. وقد ضعَّف هذه الرواية غير واحد من وجوه(4).
وعلى فرض صحتها، فسؤال عطاء عن مكان الضم يدل على أنه لم يكن معروفاً، وأن أحسن ما يقال فيه: أنه شُرِعَ كرخصة عند التَّعب والتطويل في النوافل، ولخفاء ذلك ونَدْرَته كان مما يسأل عنه، إذ لو كان يفعل في الفرائض لما احتاج ذلك إلى سؤال.
فقيه الكوفة إبراهيم النخعي
وهو: الإمام أبو عمران إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، رأى عائشة، وروى عنه التابعون، قال الذهبي: كان عجبا في الورع والخير متوقيا للشهرة، رأسا في العلم. (توفي 96هـ)
روى عبد الرزاق عن الثوري وهشيم أو أحدهما، عن مغيرة، عن إبراهيم النخعي، أنه كان يصلي مسبلاً يديه(5).
__________
(1) المصنف 1/344 (3953).
(2) الأوسط 3/92 ـ 94.
(3) الاستنارة 74.
(4) انظر الجوهر النقي على سنن البيقي: 2/31.
... ... وقال أبو الطيب الأبادي في عون المعبود 2/457 ـ 458: وفي هذا الإسناد يحيى بن أبي طالب. قال الذهبي في ميزان الاعتدال وثقه الدارقطني، وقال فيه موسى بن هارون أشهد أنه يكذب عني في كلامه والدار قطني ممن اعتبر الناس به، وقال أبو عبيد الأجري خط أبو داود على حديث يحيى. وفيه زيد بن الحباب. قال الحافظ في التقريب: صدوق يخطيء في حديث الثوري.
(5) مصنف عبد الرزاق 2/276.(1/27)
وروى ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم النخعي، أنه كان يرسل يديه في الصلاة(1).
وروى ابن المنذر عنه أنه كان يرسل يديه، ولا يضع اليمنى على اليسرى(2)، وذكر ذلك النووي(3)، وابن عبد البر(4)، والشوكاني(5).
وقد روى عنه بعضهم الوضع. فروى ابن أبي شيبة، عن جرير، عن مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: لا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى في الصلاة(6). ولكن قال ابن عبد البر أن هذه الرواية لا تثبت عنه(7).
إمام الزهاد الحسن البصري
وهو: الإمام التابعي الكبير، المشهور علماً وزهداً وعبادة، لقي الصحابة وروى عنهم، (توفي110 هـ)
روى ابن المنذر(8)، والقفَّال(9)، وابن عبد البر(10) عن الحسن البصري القول بالإرسال، وقال النووي: روى ابن المنذر عن الحسن أنه يرسلهما، ولا يضع اليمنى على اليسرى(11). ومثله قال الشوكاني(12).
وفي (موسوعة فقه الحسن البصري): ويرسل يديه في القيام إرسالاً ولا يعقدهما على صدره، وقد كان الحسن يفعل ذلك(13).
وروى ابن أبي شيبة، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن، أنه كان يرسل يديه في الصلاة(14).
فقيه المحدثين محمد بن سيرين
وهو: الإمام الشهير أحد سادات تابعيين، روى عن كثير من الصحابة، قال الذهبي: كبير العلم ورع بعيد الصيت، (توفي110هـ).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 1/344 (3949).
(2) الأوسط 3/92.
(3) المجموع 1/311 ـ 312.
(4) التمهيد 20/75.
(5) نيل الأوطار 2/201.
(6) مصنف ابن أبي شيبة 1/343 (3944).
(7) تحفة الأحوذي 2/86 نقلاً عن التمهيد.
(8) الأوسط 3/92.
(9) حلية العلماء 96.
(10) التمهيد 20/76.
(11) المجموع 3/311 ـ 312.
(12) نيل الأوطار 2/201.
(13) موسوعة فقه الحسن البصري 2/608.
(14) مصنف ابن أبي شيبة 1/344 (3949).(1/28)
روى عنه الارسال ابن أبي شيبة، فقال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن ابن سيرين، أنه سئل عن الرجل يمسك يمينه بشماله، قال: إنما فعل ذلك من أجل الدَّم(1). يعني نزول الدم أثناء القيام إلى أطراف الأصابع.
ورواه عنه ابن المنذر(2)، والقفال في (حلية العلماء)(3)، والقاضي أبو الطيب كما في (المجموع) للنووي(4).
شيخ الفقهاء عطاء بن أبي رباح
وهو: أحد الأعلام المشهورين، روى عن الصحابة، وهو شيخ أبي حنيفة والاوزاعي وابن جرج، (توفي 114 هـ).
روى عبد الرزاق الصنعاني، عن ابن جريج، عن عطاء، أنه كان يكره أن يقبض بكفه اليمنى على عضده اليسرى، أو كفه اليسرى على عضده اليمنى(5).
وحكاه عنه ابن عبد البر في (التمهيد)(6).
شيخ الحرم عبد الملك بن جرج
وهو: الإمام العلامة الحافظ شيخ الحرم، عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، قيل إنه أول من صنف الكتب في مكة، قال عنه الذهبي: كان من بحور العلم. (توفي 149هـ ).
قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني في ( المصنف): رأيت ابن جريج يصلي مسبل يديه(7).
فقيه أهل الشام أبو عمرو الوزاعي
وهو: الإمام أبو عمر عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، فقيه أهل الشام وحافظهم، روى عن التابعين، وقال عنه الذهبي: كان رأسا في العلم والعبادة. (توفي 157هـ ).
__________
(1) المصنف 1/344 (3951).
(2) الأوسط 3/92.
(3) حلية العلماء 96.
(4) المجموع 3/311 ـ 312.
(5) مصنف عبد الرزاق 2/276.
(6) التمهيد 20/75.
(7) كذا في المصنف 2/276. وفي التمهيد نقلاً عن المصنف مسبلاً.(1/29)
حكى السرخسي(1) عن الأوزاعي أنه كان يقول: إنما أمروا بالاعتماد إشفاقاً عليهم؛ لأنهم كانوا يطوِّلون القيام، وكان ينزل الدم إلى رؤوس أصابعهم، فقيل لهم: لو اعتمدتم لا حرج عليكم. وروى عنه القفال(2) والإمام المهدي(3) وابن عبد البر(4) والشوكاني(5) التخيير بين الوضع والإرسال.
وظاهر كلام النووي(6) يشير إلى أن التخيير عند الأوزاعي بين الوضع فوق أو تحت السُّرَّة، وهو خلاف ظاهر كلامه السابق.
عالم الديار المصرية الليث بن سعد
وهو: الإمام الحافظ عالم الديار المصرية وفقيهها، سمع من التابعين، وكان من مشاهير أهل العلم، (توفي 175 هـ).
قال ابن عبد البر: قال اللييث بن سعد: سدل اليدين في الصلاة أحب إليَّ، إلا أن يطيل القيام ويعيا فلا بأس أن يضع اليمنى على اليسرى(7).
وقال القفال: قال الليث بن سعد: إنه يرسل يديه إلا أن يطيل القيام ويعيا(8).
وروى الإرسال عنه النووي في (شرح صحيح مسلم)(9). وقال في (المجموع): قال الليث بن سعد يرسلهما، فإن طال ذلك وضع اليمني على اليسرى للاستراحة(10).
****
هذا ما وقفت عليه من الروايات عن سادات التابعين وكبار علماء السلف من التابعين وتابعيهم في مسألة الإرسال، وهي روايات في أمهات كتب الحديث المشهورة، ولاشك أن من البعيد والبعد جداً أن تكون روايات الضم لم تبلغ أولئك العلماء الفطاحل، وهم من أكثر الناس اهتماماً بمسائل الفقه ورواية الحديث؛ لأنهم أئمة فقه وحديث، هذا إلى جانب أنهم كانوا من مختلف الأقطار، وأخذوا عن كثير من الصحابة.
__________
(1) المبسوط 1/23 ـ 24.
(2) حلية العلماء 96..
(3) البحر الزخار 2/242..
(4) التمهيد 20/75.
(5) نيل الأوطار 2/102.
(6) شرح صحيح مسلم 4/114.
(7) التمهيد 20/75.
(8) حلية العلماء 2/82.
(9) شرح صحيح مسلم 4/114.
(10) المجموع شرح المهذب 3/247.(1/30)